الخميس، 6 يناير 2022

( الألعاب الأولمبية وحواجز الوهم )


 هل يساهم العداؤون العرب في تخطى حواجز التخلف

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

ربما يعتبر سباق 110 متر حواجز في الألعاب الأولمبية واحداً من أصعب المسابقات الرياضية لأنه يتطلب التفوق التام في سرعة الجري مع الموائمة والمرونة في القفز ضمن التوقيت السليم وتكرار هذا التوافق لعدة مراحل متتالية. ولعل هذا من الناحية الفلسفية ما يلخص حالة من يرغب التفوق في الحياة: اندفع بقوة وسرعة وكن في نفس الوقت على استعداد لتخطي الحواجز والمعوقات في مسيرة النجاح. أحد أسوأ وأصعب الحواجز التي يمكن أن تعترض حياتك هي تلك (الحواجز النفسية) التي وبالرغم من أنها مبنية على قواعد من الخيال والوهم إلا أنها راسخة ومتجذرة في اللاشعور لدرجة أنها تصبح من المسلمات التي لا تناقش.

في عام 1972م حصل السباح الأمريكي مارك سبيتز على سبع ميداليات ذهبية دفعة واحدة في دورة الألعاب الأولمبية المقامة في مدينة ميونخ الألمانية وكان هذا أعلى رقم لعدد الميداليات الذهبية يحققه لاعب واحد في نفس الدورة الأولمبية. ولسنوات تتلوها سنوات اتفق الجميع أن (الرقم سبعة) هو أعلى سقف من عدد الميداليات الذهبية التي يمكن أن ينجزه أي رياضي محترف. ثم حدثت المفاجأة في عام 2008م في أولمبياد بكين عندما استطاع السباح الأمريكي مايكل فليبس تحطيم هذا (الحاجز الوهمي) والفوز بثماني ميداليات ذهبية في نفس البطولة ومن ثم دخل التاريخ ليس فقط بتجميعه 23 ميدالية ذهبية عبر السنوات، ولكن بقوله عندما حقق تلك الميدالية الذهبية الثامنة: (لا شي مستحيل، مع وجود الكثير من الناس يقولون إنه لا يمكن القيام به، كل ما يتطلبه الأمر هو الخيال).

وهم رياضي آخر كان (حاجز نفسي) حقيقي استمر لفترة طويلة من الزمن وانتشر في المجتمع الرياضي في العالم كله لدرجة أنه عرف باسم (حاجز الأربع دقائق 4 minutes barrier) وأحيانا يعرف باسم: ميل الأربع دقائق. والمقصود به أنه في رياضية الجري لمسافة ميل واحد يستحيل على أي رياضي أن يقطع هذه المسافة (1609 متر) في زمن أقل من أربع دقائق. منذ عام 1886م وأفضل وأسرع العدائين والرياضيين في العالم يحاولون كسر هذا العائق والعقبة الرياضية التي ترسخت في العقل الجمعي لأهل الرياضة بأنه (يستحيل) ركض مسافة الميل في أقل من أربع دقاق. طبيب الأعصاب والسير الإنجليزي روجر بانيستر استطاع أن يحطم هذه الأسطورة في عام 1954م وهو في بواكير الشباب بعمر 25 عندما كان ما زال يدرس الطب في جامعة أكسفورد ويمارس كهاوي رياضة الجري. في الغالب لم يكن لدراسة الطب أثر هام على الأداء الرياضي المميز لهذا الشاب لكن نقطة الضعف الأساسية له ربما كانت هي العامل الحاسم في تفوقه. بحكم أنه لاعب رياضي هواي فلم لم يكن له مدرب خاص يرشده ويؤثر عليه ولهذا لم يتسمم بأجواء التسليم النفسي لتلك الأسطورة الراسخة. في يوم السادس من شهر مايو لعام 1954م استطاع الشاب روجر بانيستر قطع مسافة الميل في 3 دقائق و59.4 ثانية وبمجرد سقوط ذلك الحاجز الرياضي والعائق النفسي الوهمي سرعان ما تمكن الآخرين تكرار نفس النجاح. بعد شهر ونصف فقط من تلك الحادثة الرياضية التاريخية استطاع العداء الأسترالي جون لاندي من تكرارها في حين تشير التوقعات أنه عبر السنوات استطاع حوالي 1500 رياضي من تحطيم (حاجز الأربع دقائق) بل بعضهم كان في سن الكهولة الرياضية (40 سنة) أو الطفولة الرياضية (16 سنة). والجدير بالذكر أن سباق الميل Mile Run ليس من المسابقات الرسمية في ألعاب القوى (يقام بدلا عنه سباق 1500 متر) ولهذا لم يحاول جميع الرياضيين الاشتراك بمسابقاته وإلا كان عدد من حطم تلك الأسطورة والحاجز الوهمي بعشرات الآلاف.

من الفوائد الرمزية للمسابقات الرياضية على الإنسانية تعدد وتنوع الأمثلة المشابهة لما سبق في القدرة البشرية على تخطى العقبات والقفز في الحواجز الحقيقة والخيالية على حدا سواء. قام النظام النازي في ألمانيا على خرافة تفوق العنصر الجرماني (تفوق الجنس الآري) وأن ألمانيا فوق الجميع في شتى المجالات حتى في المسابقات الرياضية. ولهذا عندما أقيمت مسابقة الألعاب الأولمبية في مدينة برلين عام 1936م حاول هتلر استغلالها كدعاية للفكر النازي وأن الرياضيين البيض الألمان سوف يكتسحون جميع الألعاب. وكانت الصفعة الكبرى لهتلر عندما استطاع الرياضي الأمريكي الأسود جيسي أوينز في أولمبياد برلين من كسر هذا الوهم النازي وتحقيق أربع ميداليات ذهبية في ألعاب القوى مما رسخ حقيقة أن الرياضيين ذوي الأصول الأفريقية أكثر كفاءة بكثير في مجال ألعاب القوى. وبمناسبة الحديث عن ألعاب القوى ومسابقات الجري لعله من الملائم التذكير (بحاجز وهمي) تم تخطيه وتحطيمه ألا وهو (حاجز العشر ثواني 10 seconds barrier). حيث كان من السائد في الأوساط الرياضية أن كفاءة اللاعب الرياضي من المستحيل أن تمكنه من الجري في سباق 100 متر في زمن أقل من عشر ثواني. بسبب صعوبة القفز فوق حاجز العشر ثواني تأخر قليلا تحقيق هذا الإنجاز والذي نال شرف أول من حققه هو العداء الأمريكي جيم هاينز وذلك في أولمبياد المكسيك عام 1962 ميلادي. الرقم القياسي العالمي لسباق 100 متر يحتفظ به الآن العداء الجامايكي يوسين بولت والذي يستحق بجدارة لقب أسرع إنسان في التاريخ حيث اجتاز مسافة 100 متر في زمن صعب جدا تحطيمه وهو 9.58 ثانية. وحتى الآن استطاع 155 عداء رياضي من مختلف أنحاء العالم تخطي حاجز العشر ثواني الوهمي في سباق 100 متر ويهمنا هنا الإشارة إلى أن منهم العداء العماني بركات الحارثي الذي حقق في عام 2018م وهو في سن متقدما نسبيا (بعمر 30 سنه) إنجاز تخطي حاجز العشر ثواني حيث اجتاز تلك المسافة في زمن 9.97 ثانية.

هذا الإنجاز العربي الرياضي المميز يعود بنا مره أخرى لفكرة الحاجز الوهمي المتعلق بسباق الميل حيث تجدر الإشارة إلى أن صاحب الرقم القياسي الحالي في هذا السباق هو العداء المغربي هشام الكروج الذي حققه في زمن يبلغ ثلاث دقائق و 43 ثانية. وكما ذكرنا أن السباق الأولمبي القريب من سباق الميل هو سباق 1500 متر ومن مصادر الفخر لنا كعرب أن من يحتكر هذا السباق منذ زمن طويل هم العداؤون العرب فصاحب الرقم القياسي الحالي له هو العداء المغربي هشام الكروج ومن قبله كان العداء الجزائري نور الدين مرسلي وقبلهما الأسطورة المغربي سعيد عويطة. وما أريد أن أقوله إننا كعرب ومسلمين شعوباً وأفراد لدينا طاقات كامنة هائلة وأن ما يقيدنا ويكبلنا هي قيود الوهم وحواجز الوهن. وإننا مؤهلين كما كسرنا تلك الحواجز الرياضية أن نكسر حواجز وأغلال التخلف والتشتت السياسي والاقتصادي والحضاري لنصبح مرة أخرى أصحاب الميداليات الذهبية والمراكز الأولى في سباق الشعوب والحضارات البشرية.

صحيح أن الحال العربي عصي عن النهوض وبعيد عن التوحد ولكن بما إننا ما زلنا في مجال الرياضة فلعلنا نختم بمقولة لاعب السلة الأمريكي الأسطورة مايكل جوردن (لقد فشلت مراراً وتكراراً في حياتي .. وهذا هو سبب نجاحي).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق