الخميس، 6 يناير 2022

( الهجرة النبوية بعيون غربية )

كيف وظف الأدباء في الغرب (حادثة الهجرة)

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

نبي الله إبراهيم هو أبو الأنبياء وهو قدوتهم عليه وعليهم السلام فهو من سبقهم بالهجرة فقال (إنى مهاجرٌ إلى ربي) فهجر دار قومه بالعراق إلى أرض الشام ثم هاجر لاحقا بزوجته سارة إلى أرض مصر. وهذا نبي الله موسى عليه السلام يهاجر ويخرج بقومه من مصر إلى سيناء في خروج مهيب exodus ذكرت تفاصيله في جزء مهم من التوراة فيما يسمى سفر الخروج بالعهد القديم. وأما نبي الله عيسى عليه السلام فبعد مرحلة الدعوة العلنية في مدينة الجليل من أرض فلسطين كانت المرحلة الأهم في دعوته وحياته عندما هاجر في رحلته الأخيرة من الناصرة إلى القدس. وعلية فإن حدث الهجرة أو الخروج من أرض الكفر والتكذيب والعداء إلى ديار الإيمان والنصرة كانت محطة مشتركة في مسيرة أولي العزم من الرسل عليهم السلام.

ومن هذا الإرث المشترك مع أهل الديانات السماوية اليهودية والمسيحية لا غرابة أن نجد العديد من المفكرين والمؤرخين والأدباء الغربيين يتفهمون ويدركون الأهمية المحورية والرمزية لحدث الهجرة في التاريخ الإسلامي. فهذا المؤرخ والسياسي الإنجليزي السير أنتوني نوتنج في كتابه (العرب) وبعد أن ذكر خبر الهجرة وصف رحلة هجرة الرسول الكريم بأنها كانت نقطة التحول المميزة في ولادة الإسلام وبداية عصر الإسلامي الرسمي. في حين أن المستشرق البريطاني مونتجمري وات يعتبر الهجرة أحد أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي كله بينما المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون يستحضر حدث الهجرة ويربطها ببعض الأحداث الشخصية التي حدثت له في العراق أو الشام.

أما أهم وأبرز شخصية فكرية وأدبية غربية تأثرت بهجرة المصطفى عليها الصلاة والسلام وحاولت محاكاة الهجرة في حياتها بصورة رمزية فكانت الأديب الألماني الأشهر يوهان جوته. كحال الأديب الفرنسي فيكتور هوغو (سيأتي ذكر ارتباطه بالهجرة بعد قليل) يوجد جدال كبير هل أسلم كلا منهما في أواخر حياته وبغض النظر عن صحة إسلام غوته فإنه شديد الإعجاب بالدين الإسلامي وكتابة المقدس ونبيه المرسل. منذ مراحل شباب غويته وهو يعترف صراحة بأنه مدين لشاعريته للشرق الذي منحه الثراء الروحي لذا كان كثير ما يستشهد و (يقتبس) في كتاباته بالآيات القرآنية. كما هو معلوم واجهت يوهان غوته بعض المصاعب الروحية في بداية شبابه وهو ما انعكس في أول رواية له ذات العنوان المعبر (ألآم الشاب فرتر) والتي هي في الواقع أشبه بسيرة ذاتية. مرحلة (الاغتراب) الروحي للشاب غوته كما عبر عنها المفكر عبد الرحمن بدوي احتاجت لشيء من (الهجرة) الداخلية ليصل لحالة الاستقرار النفسي. ولاحقا عندما كتب غوته مؤلفه الهام (الديوان الغربي الشرقي) لا غرابة أن أول قصيدة شعرية في هذا الديوان حملت عنوان (الهجرة) وقد كتب غوته عنوان هذه القصيدة بلفظها ومنطوقها العربي HEJIRA وليس بالترجمة الألمانية لكلمة هجرة (Einwanderung). ولعل المقصود بذلك أن الأديب الألماني الكبير وهو حائر في مرحلة الشباب وبعد قراءته المبكرة للقرآن الكريم ومعرفته لسيرة الرسول الكريم أراد أن يعبر بعنوان هذه القصيدة عن رغبته في أن (يهاجر) من حال الاغتراب الروحي إلى حالة الاستقرار النفسي. وهو بهذا في رحلته المجازية والرمزية على خطى الرسول العربي عندما هاجر وارتحل من أرض كفار مكة إلى أرض الأيمان في المدينة. لقد كانت خارطة الطريق واضحة للشاب غوته: الهجرة إلى الشرق لكي يستروح عبق الأنبياء:

 الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر

والعروش تُثل، والممالك تتزعزع وتضرب
فلتهاجر إذاً إلى الشرق في طهره وصفائه
كي تستروح عبق الهُداة والمرسلين
هنالك، حيث الحب والغناء
سيعيدك ينبوع الخِضر فتى من جديد
إلى هنالك، حيث الطهر والحق والصفاء

لا خلاف على صحة هذه القصيدة ونسبتها لأديب الألماني غوته وإن كان الجدال ما زال صاخبا حول صحة خبر اعتناقه للإسلام. في المقابل يوجد لغط حول صحة نسبة قصيدة أخرى لها ارتباط بالسيرة النبوية والتي يقال إنها من تأليف الأديب الفرنسي الأشهر فيكتور هوغو الذي من المحتمل أنه أعتنق الإسلام في أواخر عمره وغير اسمه إلى أبو بكر هوغو. كحال العديد من مشاهير الأدب الفكر العالمي الذين صرحوا بإعجابهم بالرسول الكريم (الروائي الروسي تولستوي قام بتأليف كتاب الأقوال الحكيمة للنبي محمد) نجد أن إعجاب فيكتور هوغو بالرسول الكريم واطلاعه الوثيق للسيرة النبوية قاده لتأليف قصيدة خاصة عن نبي الإسلام. أجواء الشرق حاضرة بقوة في شعر وأدب فيكتور هوغو فكما ليوهان غوته ديوانه الشرقي نجد أن لفيكتور هوغو ديوان شعر يحمل عنوان (مشرقيات) وكما استخدم غوته اللفظة العربية (الهجرة) ولم يترجمها للغة الألمانية نجد أن هوغو يجاريه في ذلك ويستخدم كلمة الهجرة في عنوان قصيدتها وهي في لفظها العربي ولم يترجمها للفرنسية. في عام 1858م قام فيكتور هوغو بنشر قصيدة حملت عنوان (السنة التاسعة من الهجرة) L’an Neue De L’Hegire استعرض في ثناياها خصال الرسول الكريمة ومواقفه النبيلة. وبالرغم من الإلمام الدقيق لفيكتور هوغو لأخبار السيرة النبوية كما يتضح من خلال الأحداث التي سردها هوغو في تلك القصيدة إلا أنه وقع في خطأ غريب يصعب فهمه. قصيدة (السنة التاسعة من الهجرة) محورها الرئيس هو وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والتي وقعت كما هو معلوم في السنة الحادية عشر للهجرة وليست في السنة التاسعة للهجرة كما توهم الأديب الفرنسي.

قبل أن نغادر ربما من الملائم الوقوف مرة أخرى عند استخدام كلا من يوهان غوته وفيكتور هوغو لكلمة ومفردة (الهجرة) في لفظها العربي Hejira/Hegire وعدم ترجمتها حتى وإن كانت استخدمت في عنوان القصيدة الذي من المفترض أن يكون واضح في العادة. وهذا يشير إلى أن المتلقي والقارئ الأوروبي في القرن التاسع عشر في الغالب كان يدرك معنى كلمة Hejira لآنها واسعة الاستخدام في ثقافتهم كما أصبحت كلمة جهاد  Jihadفي الزمن المعاصر منتشرة في وسائل الإعلام الغربية. لا بد للكاتب والأديب أن يؤلف ويعبر بطريقة يفهمها القارئ فمثلا لو أراد شاعر عربي أن يكتب عن الرحلة الأخيرة لنبي الله عيسى عليه السلام وكان عنوان قصيدته المحتملة (تأملات على الفيا دولوروسا). في الغالب القارئ العادي لن يفهم ماذا يقصد الشاعر بعنوانه الغريب ذاك، ولكن إذا كان القارئ مطلع على معلومة أنه يوجد في مدينة القدس طريق يحمل اسم (طريق الأحزان Via Dolorosa) وهو الممر الذي يُزعم أن نبي الله عيسى سار عليه وهو يحمل الصليب الضخم الذي سوف يصلب عليه، وبتوفر هذه المعلومة عند القارئ سوف يفهم فحوى وموضوع القصيدة المتخيلة عن نبي الله عيسى عليه السلام. غالباً للقارئ والمثقف العربي العادي كلمات مثل (فيا دولوروسا) لا تعني شيء له بينما من المحتمل أنه بعيون المثقف الأوروبي في القرن التاسع عشر كلمة هجرة Hejira/Hegire قد تعني له شيئا لأنه قرأها في كتاب أو شاهدها في ديون شعر.

بحق لقد كان للهجرة النبوية على صاحبها أشرف الصلاة والسلام، كان لها إعجاب لدى بعض المؤرخين والمستشرقين كما كانت مصدر إلهام لبعض كبار الأدباء والشعراء العالميين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق