السبت، 15 يناير 2022

( ماذا لو لم يغادر تنزانيا ؟!! )

البيئة المحفزة للأدب تحتاج فقط إلى مخزون المعاناة 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في عام 1969م حصل المعيد بجامعة الإسكندرية العالم المصري أحمد زويل على درجة الماجستير وربما كانت مسيرته العلمية تأخذ مسارها الاعتيادي لو أكمل رسالة الدكتوراه في نفس الجامعة وبهذا غالبا سوف يصبح باحث مشهور على المستوى الإقليمي فقط. التغير الجذري في حياة الدكتور أحمد زويل حصل عندما نال منحة دراسية للولايات المتحدة لإكمال دراساته العليا والحصول على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا ومنها انتقل لجامعة بيركلي ثم أخيرا لجامعة كالتك العريقة. عندما حصل الدكتور أحمد زويل منفردا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م تسائل البعض (ماذا لو مكث أحمد زويل في جامعة الإسكندرية) هل كان سوف يحصل على جائزة نوبل؟. الغريب في الأمر أنه في الأيام الماضية عندما حصل الروائي التنزاني (العربي الأصل) والبريطاني الجنسية عبد الرازق جرنه على جائزة نوبل في الأدب لعام 2021م ربما تسائل البعض عن مستقبل هذا الأديب ذو الأصول العربية الحضرمية من زنجبار (ماذا لو مكث في زنجبار؟).

الفرق بين سؤال مستقبل أحمد زويل ومستقبل عبد الرازق جرنه ليس فقط فارق زمني بمرور أكثر من عشرين سنة بين وقت طرح التساؤلين، ولكن أيضا فارق ثقافي ومعرفي حسب نظرية الأديب والعالم البريطاني تشارلز سنو في كتابه (الثقافتين The Two Cultures) وأنه لا توافق بين عالم الأدب ودنيا العلوم. بمعنى أنه في حال لن يستطيع (في الوقت الحالي) أي عالم ومخترع عربي أن يحصل على جائزة نوبل في المجالات العلمية إلا أنه من الممكن جدا أن يحصل أي أديب عربي مميز على جائزة نوبل.

مقومات الإبداع والتميز الأدبي والشهرة الثقافية تختلف عن تلك التي في مجال العلوم والتقنية ولهذا من ناحية نظرية بحتة كان من الممكن أن يشتهر الأديب التنزاني عبدالرازق جرنة حتى ولو لم يغادر جزيرة زنجبار. خذ على ذلك مثلا الأديب النيجيري تشنوا أتشيبي صاحب الرواية بالغة الشهرة (أشياء تتداعى Things Falling Apart) والتي يعتبرها العديد من النقاد ليس فقط أهم وأجمل رواية أدبية أفريقية، ولكن كذلك واحدة من أفضل الروايات الأدبية العالمية على الإطلاق في العصور الحديثة. هذا وقد تم بيع أكثر من 20 مليون نسخة من رواية أشياء تتداعى كما تم ترجمتها لأكثر من 50 لغة بل إن الموسوعة البريطانية صنفتها في قائمة أفضل 12 رواية في تاريخ الأدب. بقي ان نقول إن الأديب تشنوا أتشيبي عندما ألف هذه الرواية الإبداعية أخذ الأفكار الأساسية لها من ذكرياته زمن الطفولة بين قومة شعب الإغبو وهم أقلية وثنية وهامشية في المجتمع النجيري كما إنه عندم كتب تلك الرواية كان وقتها ما زال يعيش في بلدة الأصلي نيجيريا.

في دنيا العلوم والتقنية الإبداع والتميز يحتاج إلى (مواد وتجهيزات) بينما في عالم الأدب والفنون الإبداع والتميز يحتاج إلى (معاناة وتعقيدات) وهذا ما جعل أتشيبي الفقير وذو الأصول المهمشة والتمزق الديني بين الوثنية والمسيحية تتوفر له (الأجواء الابداعية) حتى وهو في أدغال أفريقيا. مخزون المعاناة (البؤس/ الحرمان/ الاحتقار/ اليأس) هو الذخيرة التي تمكن الأديب من تشكيل وصياغة تجارب حياته التعيسة في منتج أدبي خالد على هيئة أعمال الروائية أو قصائده الشعرية. لو لم يعيش الأديب عبدالرازق جرنة في جزيرة زنجبار التنزانية ربما لم يصل للشهرة العالمية ولما حقق جائزة نوبل وهو بهذا على نفس المسار الروائي والكاتب فيديادار نايبول الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2001 ميلادي. وكما كان عبد الرازق جرنة من أصول عربية وولد ونشأ في بلد فقير ومستعمر ثم انتقل لاحقا إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها نجد أن الروائي نايبول هو من أصول هندية ولد ونشأ في بلد فقير (جزيرة ترينيداد) ثم انتقل لاحقا إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها. والتوافق بين عبد الرازق ونايبول يتواصل أن كلا منهما يوظف العديد من ذكريات الطفولة في اعماله الأدبية التي سوف يكتبها كلا منهما عندما يصل إلى بريطانيا ويصبح من سكانها.

الشاعر الإيرلندي الأصل ويليام ييتس الحاصل على جائزة نوبل لعام 1923م له شطر بيت مشهور يقول فيه (المعاناة تجلب الحكمة) ولذا بالجملة فإن الإقامة والتنشئة لفترة طويلة أو حتى قصيرة في بلدان القارة الأفريقية مع ما في ذلك من المعاناة ساهم ذلك في إلهام كبار الأدباء بعض أشهر وأبرز الأعمال الروائية. ومن ذلك تأثير أرض الجزائر وشعبها وحضارتها على الأديب الفرنسي البارز ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1957م الذي ولد ونشأ وتعلم في الجزائر. ولذا نجد أن أحداث روايته الشهيرة (الغريب) تقع في مدينة الجزائر العاصمة بينما روايته الأخرى التي لا تقل شهرة (الطاعون) تقع أحداثها في مدينة وهران.

وغير بعيد عن موطن عبد الرازق جرنه تنزانيا وبالتحديد في عمق الأراضي الكينية نجد أن الروائي الأمريكي الأسطورة إيرنست هيمنغوي الحاصل على جائزة نوبل لعام 1954م يكتب عدد م قصصه المشهورة مثل (ثلوج كليمنجارو) وقصة تلال إفريقيا الخضراء. وفي هذه القارة السمراء وأثناء رحلات السفاري تعرض هيمنغوي لحادث تحطم طائرتين نتج عنها آلام جسدية وشروخ نفسية صاخبته بقية حياته. تجربة مريعة أخرى في أفريقيا كانت هذه المرة من نصيب الروائية الإنجليزية ذائعة الصيت أجاثا كريستي والتي عاشت لفترة قصيرة من الزمن هي وزوجها الأولى في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا. وهنالك عرفت أجاثا عن قرب حالة الهلع من هجوم أسماك القرش ومع ذلك أثمرت تجربتها في جنوب أفريقيا روايتها (ذو البدلة البنية) التي تدور أحداثها في مدينة كيب تاون. أما أغرب حالة لأديب مع الإقامة في أفريقيا فهو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي بلغ القمة في الشهرة والمكانة الأدبية وهو دون سن العشرين ثم هاجر للاستقرار بشكل نهائي في ولاية هراري بدولة أثيوبيا حيث هجر الشعر تماما وتحول لتاجر قهوة وتاجر سلاح.

ونختم بسياق مثال مزدوج في الزمان والمكان لتقرير أن مقومات الإبداع في دنيا العلم وعالم الأدب مختلفة. لا شك أن الاستقرار السياسي والاقتصادي من أهم مقومات البحث العلمي ولهذا في زمن الحرب الأهلية اللبنانية لم تكن الظروف مواتية للشاب اللبناني أرديم باتابوتيان للتعليم الجامعي ولهذا تأخر دخوله للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت في تخصص الكيمياء. وبعد فترة قصيرة من دخوله للجامعة 1986م وبسبب الانفلات الأمني في مدينة بيروت تعرض الشاب أرديم للاعتقال والتوقيف من قبل بعض المليشيات المسلحة. وبعد إطلاق سراحه سارع أرديم لمغادرة بيروت والتوجه إلى الولايات المتحدة حيث إكمال دراسته الجامعية في مجال الطب وحصل على درجة الدكتوراه من أرقى الجامعات لينتهي به الأمر قبل عدة أيام أن حصل على جائزة نوبل في الطب.

هروب أرديم باتابوتيان من بيروت مكنه من سلوك طريق الأبداع العلمي أما عدم مغادرة بيروت والاكتواء بنار المعاناة في تلك الحرب الأهلية الشرسة هو ما مكن الشاب اللبناني ربيع جابر أن يتميز في مجال الأدب. لقد تخرج ربيع جابر من نفس الجامعة التي درس بها أرديم باتابوتيان أي الجامعة الأمريكية في بيروت، ولكن في تخصص الفيزياء. أجواء الحرب الأهلية في لبنان لم تسمح بالتميز العلمي لربيع جابر ولكن في نفس الوقت من رحم تلك المعاناة ولد ربيع جابر الأديب والروائي ذو العبقرية الفنية والقصصية الفريدة. ليس غريبا أن نعلم أن لمدينة بيروت وفترة الحرب الأهلية بالذات حضور طاغي في الإنتاج الأدبي لربيع جابر كما نجده في الرواية ثلاثية الأجزاء (بيروت مدينة العالم). والرواية الأكثر أهمية بربيع جابر هي (طيور الهوليدي إن) والتي تعكس معاناة سنوات الانشقاق المجتمعي اللبناني الذي يتمثل في عمارة المبرومة التي يسكنها لفيف من المسيحين والمسلمين من شتى الطوائف التي تتقاطع مآسيهم وصراعاتهم اثناء الحرب الأهلية.

لم يحصل (حتى الآن) ربيع جابر على جائزة نوبل في الأدب، ولكن حصل على أهم جائزة أدبية عربية وهي جائزة البوكر العربية لعام 2012م وإن كان تجدر الإشارة بأن الأديب المصري المعروف صنع الله إبراهيم (تم ترشيحه لجائزة نوبل للأدب) إحدى أهم أعماله الأدبية هي رواية (بيروت بيروت) والتي تعكس أحداثها مرة أخرى مرارة الحرب الأهلية اللبنانية مما يعزز ويؤكد أن (المعاناة) هي وقود الإبداع الأدبي والتي قد تحقق للروائي شهرة عالمية حتى ولو لم يسافر قط خارج مدينته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق