د/ أحمد بن حامد الغامدي
السفر ترويح للبدن ومتعة للعقل ومغامرة
للروح ولهذا يسهل الانزلاق فيه لحد الإدمان فيصبح المهووس منا بالسفر المتكرر كمن
يخطط لوجبة العشاء وهو بعد يتناول غداءه. حتى الآن بحمد الله زرت 44 بلد وبحكم
اهتمامي بالتوثيق أقوم بتسجيل العديد من المعلومات عن هذه الرحلات فأنا أعلم
بالضابط أنني زرت مثلا 58 متحف حول العالم كما شاهدت 37 نهر مائي في مختلف
القارات. وفي سياق الهوس بالسفر والحرص على توثيق (الأخبار في الأسفار) حصل في مطالع
عام 2020م وفي آخر رحلة خارجية أن سجلت المعلومة التالية: مدينة فاليتا عاصمة
جزيرة مالطا هي المدينة رقم (98) في قائمة المدن التي زرتها خارج المملكة. وهذا
يعني أنه من المحتمل في أقرب سفرية للخارج بمشيئة الله أن أزور المدينة رقم (100) ولهذا
يجدر الاستعداد المبكر لاختيار مدينة مميزة جدا لمثل هذا الرقم والحدث المميز. كان
التفكير الأولي بأن تكون الزيارة لمواقع أرغب فيها إما لأهميتها التاريخية مثل عاصمة
المكسيك القريبة من مواقع آثار حضارة المايا أو مدينة طوكيو لرمزيتها الفائقة في التقدم
المدني والحضاري.
ثم كان قدر الله ومشيئته أن تعطل عالم
السياحة والسفر بسبب جائحة الكورونا وتقلصت كثيرا خيارات السفر للخارج بعد أن سمح
به في الأشهر الأخيرة. وفي ظل هذه الظروف جعلت من محددات اختيار السفر المستقبلي
أن تكون الدولة الجديدة عدد حالات مرض الكورونا بها منخفضة ويفضل أن تكون رحلات الطيران
مباشرة لها بدون المرور (ترانزيت) على مطار أي دولة أخرى. كما يفضل أن تكون تلك
الدولة تسمح للسعوديين للدخول لها بدون تأشيرة مسبقة وبدون اشتراطات محددة فيما يتعلق
بالاحتياطات لوباء الكورونا. وعليه وجدت بعد البحث والتدقيق ومحالة الحجز لأكثر من
دولة أن الخيار المتاح والمتبقي لي ينحصر في دولة (ألبانيا). وبحكم أنني وأسرتي
سوف نصل للعاصمة تيرانا (المدينة الـ 99) فعلية سوف تكون المدينة (الـ 100) التي
كنت أحلم بأن تكون مميزة فإذا بها تصبح مدينة (شكودر) الألبانية المجهولة بالنسبة لي
قبل ذلك الحين.
لاحقا تبين لي أنه حتى قبل قرن من الزمن كانت
هذه المدينة هي عاصمة مملكة ألبانيا وقد كانت تعرف في التاريخ الإسلامي باسم مدينة
(إشقودرة). وكما هو معلوم للخلافة العثمانية تأثير تاريخي وحضاري كبير على دول
البلقان ولا أدري هل اسم هذه المدينة مشتق من منطقة (أسكودار) في الشق الآسيوي من
مدينة إسطنبول. علما بأن هذه المدينة لأهميتها الكبرى حرص السلطان محمد الفاتح أنه
يفتحها بنفسه بعد حصار طويل لها ولذا كان يوجد بها أحد أقدم المساجد الإسلامية في
منطقة البلقان وهو مسجد السلطان محمد الفاتح الذي ٌشيد عام 1479 ميلادي. كنت أعجب
سابقا كيف تمكن محمد علي باشا (الألباني) بعد وصوله في مطلع القرن التاسع عشر إلى
مصر من تولي زمام الحكم فيها وإذا بكتب التاريخ تشير إلى أن العلاقة السياسية التبادلية
وثيقة الصلة بين مصر ومدينة إشقودرة فالوالي العثماني على مصر في منتصف القرن السابع
عشر إبراهيم باشا انتهى به المطاف أن يعدم وتقطع رقبته في قلعة روزافا المطلة على
مدينة إشقودرة. الغريب أن هذه المدينة عبر القرون الماضية كانت مصدر متكرر لتصدير
عدد من كبار رجال السياسة العثمانيين ممن تولوا منصب (الصدر الأعظم) وهو أهم منصب
سياسي بعد منصب السلطان أو الخليفة. كما أنها من الناحية الدينية أنجبت هذه
المدينة بعض كبار العلماء ممن تولوا منصب المفتي الأكبر (شيخ الإسلام) في الدولة
التركية، بل أن البعض ممن تولوا منصب شيخ الأزهر مثل الشيخ حسن العطار عاشوا فترة
من الزمن في مدينة إشقودرة. الأمر البالغ الأهمية أنه في الوقت الحالي تظهر أهمية
هذه المدينة من محل ولادة العلامة والإمام الجليل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
أحد أهم الرموز المؤثرة على الفكر السلفي المعاصر وقد قضى فيها الشيخ سنوات طفولته
المبكرة حتى سن التاسعة.
وبعد كيف أنطفئ ذاك الضياء وانقطع ذاك الالتقاء
بن هذه العاصمة الألبانية والحاضرة البلقانية وبين العالم العربي والإسلامي لدرجة
أن أصبحت هذه المدينة في وقتنا الحاضر شبه منسية ومجهولة. لا شك في أن لسياسة (فرق
تسد) دور في ذلك ووفق مقولة رئيس الوزراء البريطاني الداهية ونستون تشرشل فإن دول
البلقان هي بطن أوروبا أو الخاصرة الرخوة للسيطرة على وسط أوروبا. وهذا بالفعل ما
قام به العثمانيون منذ ان فتحوا أرض البلقان فقد اندفعوا بقوة إلى وسط أوروبا
وحاصروا مدينة فيينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية ولذا كانت منطقة البلقان مصدر
قلق ومعبر تهديد. ولذا عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وكتب القضاء على الإمبراطورية
العثمانية سارعت الإمبراطورية النمساوية المجرية لاحتلال مدينة إشقودرة عام 1916م
ثم أعيد احتلالها بعد ذلك بسنتين من قبل القوات الفرنسية. وحتى بعد استقلالها في
عام 1920م وانضمامها إلى مملكة ألبانيا استمرت مدينة إشقودرة وهي تتعرض لخطر
التدخل العسكري من جيرانها الصرب والكروات.
وبعد عزل أرض البلقان بالغزو العسكري الأوروبي وعزلها المعنوي بإفساد عقائدها وشرائعها بالعلمانية جاءت القاصمة الإضافية بعزلها الفكري والأخلاقي بفرض الشيوعية على المجتمع الألباني زمن الرئيس الهالك أنور خوجة الذي أقفل المساجد ودمر الغالبية العظمى منها وحظر جميع الشعائر الدينية لدرجة أنه تم إجبار جميع أفراد الشعب على الإفطار في نهار شهر رمضان. ومنذ منتصف الستينيات من القرن العشرين تطور الأمر أن أخذت حكومة أنور خوجة في فرض الإلحاد الصريح ومحاربة الأديان السماوية جميعها ويقال إن دولة ألبانيا هي أول دولة تعلن بشكل رسمي أنها دولة ملحدة (atheist state). وفي الوقت الحالي ولله الحمد تغير الأمر بشكل ملموس في جميع عموم ألبانيا فأعيد فتح المساجد وأتيحت حرية العبادة وإن كان دستور الدولة لا يعتمد ديناً محددا كما إن ألبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة العضو في منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق