د/ أحمد بن حامد الغامدي
بالجملة الذاكرة العربية ضعيفة في السياسة
كما في التاريخ ولهذا ما أسرع ما نكرر الأخطاء وما أعجل
ما ننسى الأحزان. أعترف مقدماً بأنني في حيرة من أمري فيما يتعلق بكثرة أخبار
وأحداث الأعاصير والأنواء البحرية المدمرة التي تصيب أرض السلطنة العمانية في
السنوات الأخيرة. ووجه الحيرة هل كثرة هذه الأحداث الأخيرة كما في هبوب إعصار
شاهين راجع لاضطرابات التغيير المناخي أم لطوفان الأخبار القادمة من الإعلام
الموازي (وسائل التواصل الاجتماعي).
والمقصود هل كان لأهلنا الكرام في سلطنة
عمان تاريخ متكرر مع الأعاصير، ولكن لضعف التواصل معهم لم نكن نشعر بمعاناتهم والكوارث
المناخية التي كانت ولا زالت تصيبهم كل سنتين أو ثلاثة في المتوسط. الغريب في
الأمر أن حالة الجهل (بالأعاصير العمانية) أمر منذ القدم حتى في كتب التاريخ العربي
أو دواوين الشعر الأدبي. نحن الآن نعلم أن أكثر بلد عربي ارتبط بالأعاصير هو الديار
العمانية بينما نجد الأديب الكبير عباس محمود العقاد عندما أراد توظيف كلمة (أعاصير)
للدلالة على شدة اضطراب المشاعر ربطها بدولة المغرب ذات (المحيط الهادر) ولذا كان
عنوان ديوانه الشعري: أعاصير مغرب. وفي الشعر القديم كانت العراق هي أرض الأعاصير وقد
صرح بذلك المتنبي وخص بالذكر أراضي الفرات وفي نفس تلك المنطقة (أي الجزيرة
الفراتية) بين العراق والشام ربط الشاعر الأموي جرير بن عطية الأعاصير بأرض العراق
في قصيدة بديعة رغم استهلالها بذكر الأعاصير السافيات.
جزيرة العرب وما جاورها من أرض العراق
والشام هي أرض الزوابع والعواصف الترابية وأما أرض الأعاصير والأنواء البحرية فهي
بجدارة الأقاليم العمانية ذات التاريخ الطويل مع هذه الأعاصير التي تسمى في لغتهم
الدارجة (الجرفة) لأنه ينتج عنها في الغالب سيول وفيضانات جارفة تدمر منازلهم
وتنقلها إلى بطون الأودية أو تجرفها إلى ساحل البحر.
وفي علم المناخ يذكر العلماء أنه حتى تحدث
الأعاصير المدارية الهوجاء القادمة من جهة البحر لابد أن يكون ذلك الموقع الجغرافي
متصل بمسطحات مائية واسعة تسمى الأحواض البحرية وهذا يتحقق في حالة أرض عمان وشرق
حضرموت المتصلة بالمحيط الهندي عن طريق بحر العرب. صحيح أن مدينة الإسكندرية تشتهر
بحصول العواصف البحرية في فصل الشتاء التي تسمى (النوة) ولكن للصغر النسبي لحوض
البحر المتوسط فيستحيل أن تتحول هذه العواصف إلى أعاصير مدارية (hurricanes).
وفي المقابل البلاد العربية المغاربية مثل مملكة المغرب وموريتانيا مرتبطة بشكل
مباشر بحوض المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) ومع ذلك هي بحمد الله آمنة نسبيا من خطر
الأعاصير والتي تنحصر في منطقة الكاريبي وهي المنطقة التي تلتقي فيها التيارات الهوائية
المائية الباردة القادمة من الدائرة القطبية والتيارات الساخنة من خط الاستواء.
والمقصود أن الموقع الجغرافي الفريد لأرض
عمان حقق لها تيارات متواصلة من الرياح الموسمية الماطرة والتي أورثت وأنبتت جمال
الطبيعة الساحر في صلالة بمنطقة ظفار أو الجبل الأخضر بمنطقة نزوى. ومع ذلك تقلبات
الأجواء قد تعني استمرار هطول الأمطار لفترة طويلة أو حصول أعاصير استوائية مدمرة.
وإذا كان بعض شعراء العربية القدامى ومنهم والمحدثين فاتهم توصيف الأجواء المناخية
للأراضي العمانية وارتباطها بالأعاصير الطوفانية فما كان ذلك ليغيب عن الأديب اللغوي
ابن دريد. سبب ذلك ليس فقط لأن الشاعر النحرير ابن دريد هو من أصول عمانية فهو أزدي
من أبناء قبيلة زهران الذين استوطنوا أرض عمان، ولكن لأنه كذلك أديب موسوعي وكاتب في
المجالات العلمية ولهذا يقال عنه أنه (أشعر العلماء وأعلم الشعراء) ومن كتبه في
مجال علم المناخ كتاب الأنواء وكتاب السحاب والغيث. وبالرغم من أن ابن دريد ولد في
البصرة إلا أنه انتقل مع أهله إلى عمان عندما سيطر الزنج على أرض العراق وبهذا
توافق وجود ابن دريد في ارض عمان عام 251 هجري عندما أصابها أعاصر بحري هائج. وقد أورد
ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء خبر ابن دريد مع حاكم عمان عندما خرج بالناس
للصحراء للصلاة والدعاء أن يصرف الله عنهم الأمطار والسيول التي هدمت منازلهم.
وقبل حوالي قرن من الزمان نشر المؤرخ العماني
نور الدين السالمي كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان) وفي هذا الكتاب التاريخي
ورد ذكر وصف الإعصار البحري الهائل الذي ضرب الأراضي العمانية عام 251 هجري. وهذا ما
كتبه نور الدين السالمي عن ذلك الإعصار الذي ربما عاصره ابن دريد (لما كان ليلة
الأحد لثلاث ليال خلون من جمادى الأولي سنة 251 .. أمر عظيم جليل نزل عليهم في الليل
.. فجاءهم دوي وظلمة وهواء مفزع .. فعناهم في ذلك صياح وفحيح .. واستهلت السماء
فأدفقت عليهم من الماء .. فبينما هم كذلك وهم في منازلهم خائفون مما نزل بهم فقلعت
السيول المنازل والأموال وغرقت النساء والرجال .. فأصبحوا في ليلة واحدة أصواتهم
خامدة ومنازلهم هامدة).
مثل هذا التوصيف القديم لكارثة الأعاصير الاستوائية
يعطينا نافذه في التاريخ لندرك أن التاريخ العماني ولقرون طويله عانى من هذه
الكوارث الطبيعية المتكررة. في الاعصار الرهيب الذي ضرب جنوب شرق عمان عام 1996م
توفي أكثر من ثلاثمائة شخص وتعرض حوالي ألفين منزل للتدمير. أما اسوء كارثة طبيعية
في التاريخ العربي كله فهي إعصار غونو والذي بلغ سرعة رياحه 150كم/ساعة وتسبب في
عام 2007م في تدمير أكثر من 25 ألف منزل وأتلاف حوالي 13 ألف سيارة !! .
في البحر كما على الأرض كان لأهل عمان خاصية
وتميز عن بقية العرب في ارتباطهم بالأعاصير البحرية والزوابع المائية المهلكة ومن ذلك
أن الإعصار الذي عصف على خليج عمان عام 1959م تسبب في غرق العديد من القوارب وأحدها
كان يحمل 141 شخص تعرضوا جميعهم للغرق رحمهم الله. وعندما يرد ذكر خليج عمان
والسفن التي تمخر عبابه لا يصح أن نغفل الإشارة إلى أمير البحار الجغرافي والملاح العماني
الكبير أحمد بن ماجد الذي ينسب له تأسيس علم الملاحة البحرية العربية. في كتابه ذو
الأهمية البالغة (الفوائد في علم البحار والقواعد) يتطرق ابن ماجد لتلك الأعاصير
البحرية المهلكة والمريعة التي ربما عاصر بعضها في بلاده العمانية ولهذا لا غرابة
أن يذكر أن تلك الرياح الضارة تسمى (رياح النكباء) وهي التي يرافق هبوبها حدوث
الأعاصير المدمرة.
والجدير بالذكر أن العلماء العرب في مجال
علم الأنواء والجغرافيا المناخية قد عرفوا الأعاصير المدارية البحرية فقد وصف المسعودي
والقزويني الرياح الحلزونية وفسروا سبب حدوثها بأنه ناتج من تلاقي ريحين تهبان من جهتين
متضادتين. كما لاحظوا أن ضغط الهواء يخف داخل تلك الأعاصير اللولبية وينتج عن ذلك
شفط ما على الأرض من حيوان أو ما على البحر من أسماك. ولهذا البعض منهم يسمى تلك
الأعاصير بالطوفان ويقال إن كلمة التايفون typhoon باللغة الإنجليزية التي تعني الإعصار هي مأخوذة
من الكلمة العربية الطوفان. رواد البحارة العرب في العصر الذهبي للملاحة العربية من
مثل أحمد ابن ماجد من عمان وسليمان المهري من حضرموت كانت رحلاتهم البحرية بالدرجة
الأولى في مناطق خليج عمان وبحر العرب وخليج البنغال والمحيط الهندي وهي المسطحات
المائية التي يحتمل أن تكون عرضة لهبوب الأعاصير البحرية. وهذا الرّحالة والبحار
العراقي سليمان السيرافي يصف الأعاصير الهائلة في خليج البنغال فيقول ( وكل بحر من
هذه البحار فيه ريح تثيره وتهيجه حتى يغبي كغليان القدور فيقذف ما فيه إلى الجزائر
التي فيه ويكسر المراكب).
وعلى ذكر المراكب والسفن التجارية العربية
التي ربما تتعرض للغرق في خليج البنغال أو بحر العرب بسبب الظواهر البحرية قرأت
قبل مدة رواية لطيفة تحمل عنوان (الطريق إلى كراتشي) للمؤلف الكويتي هيثم بودي. تلك
الرواية مبنية على قصة حقيقة حدثت عام 1938م عن بحارة من الكويت يتعرض قاربهم للغرق
في بحر العرب عندما داهمتم فجأة وبدون سابق إنظار موجة بحرية كبيرة يسميها البحارة
(القلابة). هذه الأمواج البحرية المهلكة التي تظهر فجأة في الجو الصحو هي ولا شك
أمواج التسونامي التي تكون انتقلت من أماكن بعدية جدا وهذا حصل مع التسونامي الياباني
الشهير فقد وصلت أمواجه بعدما ضعفت إلى سواحل عمان بل وحتى سواحل شرق إفريقيا. أهل
عمان قديما كانوا يطلقون اسم (الجرفة) على الأعاصير البحرية وتوجد شواهد أنهم
كانوا يعرفون موجات التسونامي البحرية ويطلقون عليها اسم (الضربة) وبهذا لأهلنا في
سلطة عمان تاريخ قديم يتكرر أحيانا مع هذه الظواهر المناخية والبحرية التي كنا
نتوقع أنها لا توجد إلا في الدول البعيدة عنا. الله يحفظ الشعب العماني الشقيق ولو
حصل في المستقبل تعرض السواحل العمانية لموجات تسونامي كارثية فربما يكون من
الملائم حينها كتابة مقال جديد بعنوان (التسونامي العماني .. تاريخ منسي).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق