د/ أحمد بن حامد الغامدي
الأديب والمفكر الإيرلندي الساخر برنارد شو كتب يوما ما بخبث قائلا (لا يوجد شيء بشع على وجه الأرض مخصص للأشخاص الأبرياء مثل المدرسة). وبحكم أن الأطفال هم أكثر البشر براءة فنصيبهم وافر من هذه الملاحظة الساخرة لبرنارد شو. منذ عدة سنوات كتبت مقالة ربما كانت صادمة للبعض حملت عنوان (العودة للمدارس .. لحظة كئيبة في طفولة عباقرة العلماء) ومع ذلك يبدو أن توسيع نطاق تلك المقالة يحتاج ألا يقف عند توصيف كآبة الدراسة للعباقرة فقط، ولكن لغالبية الطلاب وكذلك أن هذه الكآبة والانقباض من الدراسة أمر ضارب بجذوره في عمق التاريخ. يقال إن أولئك الذين لا يعرفون التاريخ محكوم عليه بتكراره ولهذا لو عرفنا تاريخ التعليم القديم لوجدنا أننا ما زلنا نكرر الأخطاء المدرسية ذاتها. فيما يتعلق بتعليم الأطفال فمنذ الأزل ما ينغص عليهم (بالإضافة لكارثة الاستيقاظ المبكر) هو الحد من حركتهم في الفصل وكثرة الضوابط والتحكم المفرط بهم. وموقف الطلاب من هذا الأمر متكرر عبر التاريخ وهذا ما يتضح مثلا من الاطلاع على مذكرات طالب سومري نقشها على لوح الطين المحروق قبل أكثر من أربعة آلاف سنة.
في مطلع القرن العشرين وجد علماء آثار
الحضارة السومرية بأرض العراق حوالي 21 قطعة من الفخار المكتوب عليها باللغة
المسمارية وهي تحكي يوميات طالب مدرسة قديم يذكر فيها الأشياء التي مرت عليه أثناء
اليوم الدراسي والتي كان منها تعرضه للضرب بالعصا من قبل معلمه ليس فقط لأنه لم
يحفظ دروسه ولم يتعلم أن يكتب بخط سليم، ولكن أيضا بسبب سلوكه غير المنضبط.
يقول ذلك الطالب في مذكراته عن مدرسته
السومرية في زمن الغابرين:
بعد أن ضربني المعلم بالعصا لأنه وجد نقص في
كتابتي على اللوح الطيني جاء عريف الفصل وقال لي: لماذا فتحت فمك دون إذني .. ثم
ضربني بالعصا.
ثم قال لي: عندما لم أكن هنا لماذا نهضت دون
إذني .. ثم ضربني بالعصا.
وقال لي حارس المدرسة: لماذا تغادر دون إذني
.. ثم ضربني بالعصا.
مدرس اللغة السومرية قال لي: لماذا تتحدث
باللغة الأكادية .. ثم ضربني بالعصا.
من الناحية التاريخية يستمر مسلسل الهلع من
المدرسة والنفور من المعلم مع الحضارة الرومانية هذه المرة ففي مطلع القرن الثاني
الميلادي بعث أحد الطلاب رسالة إلى والده يتشكى فيها من معلميه وحياته الدراسية. في
مكتبة جامعة أكسفورد يتم حاليا حفظ تلك الرسالة الشخصية المكتوبة باللغة الإغريقية
والمرسلة من طالب مجهول الاسم إلى والده المدعو ثيون. ويسرد الطالب في تلك الرسالة
لوالده خيبة أمله من جودة المعلمين الذين يقومون بتدريسه وأنهم سيئين وغير ملهمين،
بل وصفهم بالهمل وسقط المتاع الذين يقودون إلى طريق الخراب. وبالرغم من كثرة الرسوم
والأموال التي يدفعها الطالب للمعلمين إلا أنه يخبر والده أنه لسوء التعليم يضطر
لأن يعتمد على نفسه والتعليم الذاتي. والغريب في الأمر أن الطالب يعرب لوالده أنه
بسبب هذا الإحباط في حياته الدراسية بدأ يهمل مظهره العام وهندام ملابسه بالرغم من
أنه من أسره ثرية.
وفي ضوء ما سبق وعندما نصل إلى الحضارة
الإسلامية وبأخذ الاعتبار الصورة النمطية السلبية عن حياة الطلاب في (الكتاتيب) لا
غرابة أن نجد بعض الأخبار المحرجة عن نفور بعض الطلاب قديما (كما في الحديث) من
المنظومة التعليمة. هذا النفور قد يتسبب كما هو معلوم في الهروب المؤقت من المدرس
أو حصول ظاهرة (التسرب المدرسي) الدائم. في كتاب ضحى الإسلام للمفكر والمؤرخ
الكبير أحمد أمين ورد ذكر قصة المغني العباسي إبراهيم الموصلي التي يرويها عنه
ابنه إسحاق وكيف أنه عندما كان طفلاً أدخل الكُتّاب (فكان لا يتعلم شيئاً، ولا يزال
يُضرب ويُحبس ولا ينجح ذلك فيه فهرب إلى الموصل وهناك تعلم الغناء). ونظرا لشيوع
سوء معاملة المدرس للطلاب في الكُتّاب انتقل مشهد الإجحاف في (التأديب) إلى قصائد (الأدب).
فهذا الشاعر الحسن بن هانئ (أبو نواس) يتحدث عن معلم صبيان يدعى حفص عنيف في تعمله
مع طلاب الكتاتيب وكيف أنه أمر بضرب أحد الطلاب بسوط من جلد وذلك بعد أن تم خلع
ملابسه عنه حتى يعاني أشد العقاب والهوان:
قال حفصٌ اجلدوه إنه عندي بليدُ
لم يزل مُذ كان في الدرس عن الدرس يحيدُ
كُشفت عنه خزوزٌ وعن الخزّ
بُرودُ
ثم هالوه بسيرٍ ليّنٍ
ما فيه عودُ
عندها صاح حبيبي يا مُعلم لا أعودُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق