د/ أحمد بن حامد الغامدي
الإنسان ابن بيئته ولذا يقال إن شعب الإسكيمو يتداولون أكثر من خمسين كلمة تطلق على الثلج والجليد وهو رقم كبير لشعب ذو ثقافة محدودة ولغة غير متطورة. ومن وفرة الجليد إلى شح المياه نجد نفس الظاهرة تكرر، ولكن بسياق مختلف فحسب مبدأ باريتو (رجل الإقتصاد الايطالي) كثيرا ما نجد أن (القلة تعني الكثرة) less is more وخير ما يثبت صحة هذا الأمر أن عدد أسماء المطر في اللغة العربية تقارب حوالي 200 اسم ولفظ ووصف.
بحكم أن البيئة العربية هي صحراء قاحلة وأرض جدباء ولذا أصبح للماء والمطر وصف الغيث والرحمة والخير وبذا تعددت الأسماء للمطر والغريب أنه حتى مع ندرة الأمطار في الصيف إلا أن لهذا النوع من الأمطار أسماء خاصة بها. من هذه الأسماء التي حصرها ورصدها علماء اللغة تسمية مطر الصيف بأسماء من مثل: الحَميم والبِسار والصَّيّف والخريف وهي ألفاظ ذات ظلال كئيبة مقارنة بأسماء المطر متدفقة المعاني مثل الوابل والسكب والصيب والعباب.
مطر الشتاء فيه الخير والنماء ولهذا من أسماء المطر في موسمه أنه (الحياء) ومع ذلك ففي البيئة الصحراوية القارسة ذلك النماء هو فقط (إزهار مؤقت في الصحراء) ولذا مطر الصيف وهجير القيظ هو مطر عقيم لا ينبت أصلاً. يقول أهلنا بالشام عن شدة حر شهر يوليو (بتموز تغلي المي بالكوز) ولذا قبل عدة أيام وفي منتصف شهر يوليو عندما هبت عاصفة ممطرة على منتصف جزيرة الصحراء لم يكن المرتجى والمؤمل إلا أن تكسر قليلا حدة الحر لبعض الوقت. تلك الأمطار في الغالب بركتها محدودة ليس فقط لسرعة تبخرها في أجواء القيظ (مطر الحميم)، ولكن أيضا لقصر زمن موجة الأمطار تلك. وبسبب قلة بركة وسرعة انقضاء أمطار الصيف منذ القدم نجد العرب يتداولون بينهم مقولة (سَحابةُ صَيفٍ عن قليل تقشَّعُ). في كتاب مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني علّق على هذه العبارة وأن العرب تستخدمها كمثل يضرب في انقضاء الشيء بسرعة. وهذا المثل يستخدم أيضا للتسرية والتخفيف عن النفس في وقت المصائب وأنها يرجى سرعة زوالها وقد ورد في كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لأبن قيم الجوزية أن المحدّث محمد بن شبرمة كان إذا نزل به بلاء قال: سحابة صيف ثم تنقشع. وهذا المعنى الذي استعاره لاحقا الشيخ عائض القرني عندما أورد في كتابه (لا تحزن) عبارة: إذا زارتك شدةٌ فاعلم أنها سحابة صيف عن قليل تقشع، ولا يُجفلك رعدها ولا يرهبك برقها. وفي كتاب الزهد لابن أبي الدنيا ذكر أن الإمام سفيان الثوري كان كثيرا ما يتمثل بأبيات الشاعر الفارس عِمران بن حِطّان في ذم الدنيا والاغترار بها:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عُراة وجُوّعُ
أراها وإن كانت تُحبُّ فإنها سحابة صيف
عن قليلٍ تقشعُ
أحلامُ نومٍ أو كظلِّ زائلٍ إن اللبيبَ
بمثلها لا يُخدعُ
ثم ذكر ابن قسم الجوزية بعدها مباشرة أبيات
عمران بن حطان المناسبة في المعنى والقافية:
أراها وإن كانت تُحبُّ فإنها سحابة صيف عن قليلٍ تقشعُ
بقي أن نشير إلى أن أهل الدول الأوروبية قد اعتادوا
على استمرار هطول الأمطار إلب الأوقات وبحكم أنهم (أبناء بيئتهم) فالواحد منهم لن يستغرب
هطول المطر في فصل الصيف (بل وحتى نزول الثلج في شهر مايو) وإنه إن هطل فلن ينقشع
سريعا. تنتشر في البلاد الإنجليزية أسطورة مناخية طريفة تقول إنه إذا حصل وهطل المطر
في يوم عيد القديس سويثن فهذا يعني أن السماء سوف تستمر تهطل لمدة أربعين يوما متواصلة.
المفارقة ووجه التعجب في هذه الأسطورة أن يوم عيد القديس سويثن ليس في الشتاء،
ولكن في عز الصيف حيث يقع في يوم 15 يوليو. قبل أيام قليلة حصلت فيضانات مدمرة في
بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا وذلك بعد موجة عاتية من الأمطار المتواصلة
والي لم تنقشع مع أنها في عز فصل الصيف. تزعم السلطات في تلك البلاد أنها تفاجأت
بهذه الأجواء الماطرة ولا أعلم هل يقبل عذرهم أم لا وهم في موروثهم الشعبي قد
تعودوا على احتماليه تواصل المطر في الصيف حيث ينتشر بين شعوب أوروبا (أسطورة عيد
القديس ميدارد) والتي تقول بأنه إذا هطل المطر في يوم عيد ذلك القديس (أي الثامن من
يوليو) فسوف يستمر المطر بالهطول المتواصل لمدة أربعين يوما.
منذ سنوات وبعض علماء الطقس يحذرون أنه من
نواتج ظاهرة الاحتباس الحراري سوف تحصل تغيرات حادة في المناخ لدرجة أن تزداد
الأمطار الصيفية ويتكرر حصول الفيضانات. هذه الأيام وفي عزّ فصل الصيف حصلت أمطار كثيفة
وسيول مدمرة تسببت في مقتل حوالي 200 شخص في ألمانيا ولذا عُدّت تلك الحادثة الماطرة
أسوأ كارثة تقع على الألمان بعد الحرب العلمية الثانية. وكذلك حصلت هذه الأيام
فيضانات غير مسبوقة في الصين يقال إنها لم يحصل مثلها منذ ألف عام ومع السيول التي
حصلت لدينا كذلك هذا الأسبوع بمحافظة الأفلاج فهل فعلا سحاب الصيف لا يمطر ويمر
ولا يضر ؟!!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق