الجمعة، 7 يناير 2022

( الولايات المتحدة وحتمية الاضمحلال )


 أمريكا من حاكم العالم إلى رجل الغرب المريض

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

كم عدد الإمبراطوريات أو الدول الكبرى في التاريخ البشري ؟ سؤال يصعب الإجابة عليه وإن كانت بعض المصادر تشير إلى أنها في حدود  250 إمبراطورية ومملكة كبرى تبدأ بالإمبراطورية السومرية في العراق قبل حوالي 4500 سنة وتنتهي بالإمبراطورية السوفيتية التي تفككت قبل حوالي ثلاثين سنة. تلك الإمبراطوريات والحضارات الكبرى كان مصيرها إلى زوال وهذه سنة الله الجارية ولهذا كانت العبر تستلهم ممن غبر كما قال خطيب العرب في الجاهلية قس بن ساعدة الإيادي (يا معشر إياد .. أين الآباء والأجداد .. وأين الفراعنة الشداد). 

وعليه فإن ما يوصف بالقوى العظمى superpowers من الدول الكبرى في عالم اليوم مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا مصيرها إلى زوال هي الأخرى طال الزمن أم قصر. ربما أحد أهم الكتب ذات الأثر الكبير في مجال دراسة زوال الإمبراطوريات الكبرى هو كتاب (تاريخ اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية) من تأليف المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون. الجدير بالذكر أن هذا الكتاب ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وبالتزامن تقريبا مع صعود وظهور الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها ولهذا البعض يقول إن المؤرخ جيبون لم يكن يهتم بالماضي وإنما اهتمامه الأكبر بالمستقبل وكأنه يحذر رجال السياسة وأهل الحل والعقد في بلده من خطورة العوامل التي تؤدي إلى (اضمحلال decline) وزوال الدول الكبرى.

بعد صدور كتاب إدوارد جيبون بحوالي مئتين سنة ظهر الكتاب الثالث في الأهمية (الكتاب الثاني بدون جدال كتاب المؤرخ الألماني أوسفالد شبينغلر: تدهور الحضارة الغربية) في مجال زوال الإمبراطوريات ألا وهو كتاب (صعود وسقوط القوى العظمى) للمؤرخ والمفكر الإنجليزي الأصل المقيم في أمريكا بول كينيدي. في نهاية الثمانينات من القرن العشرين بدأت إمبراطورية الاتحاد السوفيتي بالترنح وعلى وشك السقوط وفي هذا التوقيت الذي يستعد فيه البعض لتتويج الولايات المتحدة على عرش القوة العظمى الوحيدة والمنفردة بالهيمنة عالم كان لبول كينيدي رأي ونبوءة أخرى. النظرية التي توصل لها بول كينيدي أن الدول والقوى العظمى تتعرض لمرحلة (الاضمحلال) كما سوف يحصل لاحقا مع أمريكا عندما يحصل لها تمدد إمبريالي مفرط وتوسع عسكري يستنزف مواردها الاقتصادية حتى تصل لمرحلة أفول القوة الحربية جراء الانكماش الاقتصادي. بعد ظهور ذلك الكتاب أصبح بول كينيدي من مشاهير المفكرين في المجتمع الأمريكي ونجم إعلامي معروف جذب حوله العديد من الأمريكان الذين تقبلوا نظريته عن الاضمحلال لدرجة أنه أصبح يطلق عليهم (الاضمحلالين Declinists). 

من غرائب تصريحات أصحاب مبدأ الاضمحلالية Declinism أنه في الوقت الذي يتفق أغلب المؤرخين أن بداية الهيمنة الأمريكية على العالم في القرن العشرين (الملقب بالقرن الأمريكي) بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية ومع ذلك نجد أن المفكر الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي يقرر أن الاضمحلال الأمريكي بدأ في نفس تلك الفترة. بينما مفكرين أمريكان آخرين من المشاهير مثل صموئيل هنتنغتون وتوماس فريدمان يتبنون فكرة أن الولايات المتحدة تعرضت لموجات متتالية من الاضمحلال وأننا الآن في منتصف الموجة الخامسة (أو ربما السادسة بعد الهروب الكبير من أفغانستان). ويبدو أنه إلى درجة ما نجد أنه حتى رؤوسا الولايات المتحدة لديهم اهتمام بالاطلاع على الأفكار والنظريات التي تناقش (حتمية) اضمحلال وانحدار الهيمنة الأمريكية. ومن ذلك مثلا تلك الضجة الإعلامية عندما نشرت جريدة النيويورك تايمز صورة فوتوغرافية للرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو يحمل نسخة من كتاب (عالم ما بعد أمريكا) للصحفي الأمريكي المسلم ذو الأصول الهندية فريد زكريا وصاحب البرنامج الشهير في قناة سي إن إن.

في مستهل المقال ذكرنا أن أعداد الإمبراطوريات والممالك الكبرى في التاريخ البشري يقارب 250 إمبراطورية وبهذا العدد الضخم تتنوع مسارات نشوئها وازدهاره ثم انحدارها. ومن الأبعاد الهامة في تاريخ الإمبراطوريات مدة استمرارها والتي تتفاوت بشكل كبير وعجيب فمثلا الإمبراطورية الرومانية استمرت لمدة خمسة قرون بينما الإمبراطورية التي أنشأها الإسكندر الأكبر المقدوني لم تستمر إلا لمدة 12 سنة وثمانية أشهر فقط. ومن الطرائف أنه منتصف الثمانينات من القرن العشرين (القرن الأمريكي) وعندما تراجع معدل نمو الاقتصاد الأمريكي بالمقارنة مع نمو الاقتصاد الياباني والألماني عندها تزايد الحديث احتمالية الاضمحلال الأمريكي. ولذا علق أحد الاقتصاديين الأمريكيين بحرقه (لماذا إذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد دامت قرنين من الزمن يكون مصيرنا أن نضمحل بعد 50 عاماً فقط). ربما أحد أسباب التناقص الحاد في زمن استمرار الإمبراطوريات الحديثة بالمقارنة مع الإمبراطوريات القديمة يرجع لما يمكن تسميته (انتقام الجغرافيا). في الواقع لدي قائمة خاصة بأسماء الكتب التي أرغب في شرائها ومن ثم قراءتها ويقع على رأس تلك القائمة كتاب (انتقام الجغرافيا) للمؤرخ والكاتب السياسي الأمريكي روبرت ماكلان. للأسف لم أطلع على هذا الكتاب بعد لكن عنوانه الأخاذ ألهمني فكرة تعليل تناقص عمر الإمبراطوريات الكبرى مع الزمن. الموقع الجغرافي على درجة عالية من الأهمية لاستمرار الإمبراطوريات لقرون طويلة وتناقص سرعة اضمحلالها فمن ذلك مثلا أن الإمبراطورية الأشورية في العراق القديم استمرت لفترة زمنية قاربت 1600 سنة. 

عندما بدأت الإمبراطورية الأشورية في التوسع اتجهت للأقاليم والممالك القريبة منها في إيران وتركيا والشام ولهذا كان يسهل نسبيا على الأشوريين إرسال الجنود والمحافظة على المستعمرات المحتلة. قارن ذلك بما حصل مع الإمبراطورية البرتغالية التي ظهرت في القرن الخامس عشر الميلادي في أقصى طرف القارة الأوروبية وبسبب (انتقام / أزمة الجغرافيا) لم يكن متاحاً لهذه الإمبراطورية الفتية أن تتوسع في أوروبا أو جنوب البحر الأبيض المتوسط وإنما في أقصى بلاد الأرض وعبر المحيطات والبحار. بالرغم من النجاح الأولي المذهل والهائل للإمبراطورية البرتغالية التي تستحق بجدارة أكثر من الإمبراطورية البريطانية أن تحمل لقب بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (عدد البلدان التي احتللتها البرتغال تقارب حوالي 60 بلد في جميع قارات الأرض)، بالرغم من هذا النجاح إلا أن كلفة الاحتفاظ بهذا الملك المترامي الأطراف كانت باهضه. للمحافظة على مستعمراتها النائية في البرازيل أو بعض الجزر الإندونيسية كان على إمبراطورية ما وراء البحار البرتغالية أن تملك أسطول ضخم من السفن وعدد كبير من المدن والموانئ البحرية. ولهذا لم تستطع البرتغال من السيطرة على المستعمرة البرازيلية الهائلة المساحة لأكثر من قرن ونصف. هذه الصعوبة في السيطرة على المستعمرات النائية عن الإمبراطوريات الأوروبية المتطرفة جغرافيا تكررت مع الإمبراطوريات الإسبانية والهولندية والبريطانية والسويدية. ولهذا لا عجب أن يتزامن سقوط الإمبراطورية البرتغالية مع استقلال البرازيل عنها في العشرينات من القرن التاسع عشر وعلى نفس النسق تلاشت الهيمنة البريطانية الدولية مع استقلال الهند عنها عام 1947 ميلادي.

لطالما تفاخر الأمريكان عن اطمئنانهم من غوائل الاعتداء عليهم في عقر دارهم لأنهم يعيشون منعزلين عن العالم ومحميين بمحيطين هائلين على حدودهم الشرقية والغربية. ومع ذلك تعتبر الولايات المتحدة تمثيل صارخ لكارثة (انتقام/أزمة الجغرافي) لأنها حاليا تحكم وتهيمن على دول العالم عن بعد ومن وراء ستار المحيطات المائجة. ولتحقق أمريكا همجية الهيمنة hegemony على شعوب الأرض تحتاج أن يكون حجم أسطولها البحري مساوي في الحجم مجموع أساطيل السبعة عشر دولة التالية له في الترتيب وأن تكون تكلفة فاتورة الميزانية العسكرية الأمريكية أكثر من ثلث مجموع الميزانيات العسكرية لكل دول العالم بمبلغ يزيد سنويا بأكثر من 500 مليار دولار.

قديما لخص طيب الذكر المتنبي الفاتورة المستحقة لمن أراد السيادة والهيمنة:

لولا المشقةُ سادَ الناس كلهمُ         الجُود يفقر والإقدامُ قتّالٌ

وهذا واقع أمريكا في سعيها لسيادة وقيادة العالم لازم أن تحثوا المال وتبعثره يمينا وشمالا كما يجب عليها أن ترسل أبنائها وجنودها للذبح في ساحات القتال مع ما في ذلك من المخاطرة السياسية بفقدان أصوات الناخبين وغضبهم كما حصل في المظاهرات المناوئة لحرب فيتنام. الأرقام السابقة للأساطيل البحرية والميزانية العسكرية تلخص حجم العبء المالي الكبير على الدول العظمى ومن هنا نفهم نظرية بول كيندي المتعلقة بأن من أهم أسباب سقوط القوى العظمى هو تمددها الإمبريالي وتوسعها العسكري المفرط الذي يستنزف الاقتصاد ومن ثم يتسبب في انهيار مالي مريع. ومن مظاهر الانكماش الاقتصادي الحالي للأمة الأمريكية تعرضها للكارثة الكبرى الناتجة من التصاعد المستمر والحاد للدين العام للحكومة الأمريكية والذي يزيد حاليا عن 18 ترليون دولار (18 مليون مليون) وهو أكبر مديونية على الإطلاق في تاريخ البشرية. في كتابه (العملاق: صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية) حذّر الاقتصادي البريطاني المعروف نيل فيرجسون بأن الطريقة التي تتدهور بها الإمبراطوريات تبدأ (بانفجار المديونية) وهو توصيف دقيق لحال الوضع الاقتصادي للعم سام.

 وفي الختام نود التفريق بين أمرين وهما: الاضمحلال المطلق والاضمحلال النسبي. ونقصد (باضمحلال المطلق) التدهور والسقوط التام للأمة الأمريكية كما حصل للإمبراطورية الرومانية عندما اجتاح البرابرة والهمج القوط مدينة روما وسيطروا عليها ومثل هذا السيناريو التاريخي المذهل نستبعد وقوعه بأن تضمحل القوة الأمريكية تماما لدرجة أن يهجم المكسيكيين المتخلفين على الأراضي الأمريكية ويحتلوا العاصمة واشنطن. أما (الاضمحلال النسبي) وهو زحزحة الولايات المتحدة من مقعد قيادة العالم وأنهاء عصر (القرن الأمريكي) فهذا أمر حتمي بدليل ما ذكرناه سابقا من تتابع الإمبراطوريات والممالك الكبرى عبر التاريخية وحسب الحكمة المشهورة (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك). 

ويبقى سؤال المليون كما يقال: متى سوف ينتهي القرن الأمريكي وتُسلم الراية للصين أو أي قوة دولية عظمى أخرى (أو تحالف دول عظمى)؟. يصعب الإجابة على ذلك ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي قدم في عام 2012م تقريراً للرئيس الأمريكي أوباما تقرير حمل عنوان (الاتجاهات العالمية عام 2030 .. عوالم بديلة). كما يتضح من عنوان هذا التقرير أنه يوجد احتمالية لعوام بديلة وأن العالم سوف يتغير بحلول سنة 2030 ومن أهم ما ورد في ذلك التقرير أن الدول الأسيوية بمجملها سوف تتفوق على أمريكا وأوروبا. وأن عالم (القطب الواحد) الذي كانت تهيمن عليه أمريكا سوف ينتهي ومع خسارة الولايات المتحدة للهيمنة على العالم إلا أنها عند بلوغها ذلك التاريخ من المحتمل أن تبقى الدول الأقوى في العالم ولكن بدون هينمة وسيطرة منفردة. والعام عند الله.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق