د. أحمد بن حامد الغامدي
اليوم السبت هو اليوم الموافق للحادي عشر من
سبتمبر وعليه يستعيد ويستحضر الشعب الأمريكي على عادته السنوية الأحداث الكبرى التي
هزت العالم بأجمعه وقت تدمير برجي التجارة العالمية وقصف مبنى البنتاجون وهي
الرموز الاقتصادية والعسكرية للمجتمع الغربي بأكمله. في الذكرى الأولى لأحداث
الحادي عشر من سبتمبر يمكن توصيف ردة فعل الشعب الأمريكي حيال هذا الاعتداء بأنه
رد (الصخب والعنف The
Sound and the Fury ) على اسم الرواية المشهورة للأديب الأمريكي ويليام
فوكنر الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1949 ميلادي. في تلك السنة وسائل الإعلام الأمريكية ملأت
الدنيا صخبا وضجيجا ضد كل من لم يتعاطف معهم بينما آلات الحرب الأمريكية صبت حميم عنفها
وغضبها على رؤوس الأبرياء من أهل العراق وأفغانستان.
هذا ما كان قبل عقدين من الزمن واليوم وفي
الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر يبدو مع المستجدات السياسية والعسكرية
الأخيرة التي حصلت في شهر أغسطس الماضي أن نظرة الشعب والحكومة الأمريكية عما حدث
في مانهاتن وكابل قبل عشرين سنة سوف تختلف جذريا. بالعودة للكاتب الأمريكي ويليام
فوكنر له رواية أخرى تحمل عنوان (الضوء في أغسطس Light in August)
ولعلنا نستعير هذا العنوان وكأنه أنوار كاشفة تنير الدرب للشعب الأمريكي الذي كان
يعيش في ظلام الخداع بأنهم انتصروا قبل عشرين سنة في حربهم على الإرهاب. أضواء
أغسطس الماضي كشفت زيف زعم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن بأن (المهمة انتهت mission
accomplished) وأنهم بعد تدمير العراق يسهل جدا السيطرة على أرض الأفغان التي
يقاتلهم بها مجموعة من المحاربين من أهل الكهوف. منذ بدايات تلك المعركة (المشبوهة)
في الحرب على الإرهاب والجميع يعلم (باستثناء الشعب الأمريكي) أن الحكومة الأمريكية
الإمبريالية والرأسمالية تختلق وتصنع عدو من الوهم يتم توظيفه كشماعة وكساتر دخان
لتغطية الإرهاب الأمريكي على الإنسانية. وبحكم أن الحرب على أفغانستان كانت مبنية
على أكذوبة فلذا ربما تستحق أن نطلق عليها عنوان الرواية الأمريكية (معركة مشكوك
بها in
Dubious Battle). تلك الرواية للأديب الأمريكي البارز جون
ستاينبيك والحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1962م والذي بالمناسبة كان من الإلزام
على طلاب الثانوية في زمن الطيبين أن يقرؤا قصته القصيرة (اللؤلؤة the Pearl)
في مادة اللغة الإنجليزية وتلك الرواية اللؤلؤية تكشف أبعاد الطمع البشري الوضيع
والذي ينعكس اليوم في رجال السياسة والاقتصاد الأمريكيان. وعندما انتهت تلك الحرب المشبوهة
على الأفغان ختمت بخزي كبير للجيش الصليبي (ألم يقل الرئيس جورج بوش أنها حرب
صليبية) الذي اعتقد البعض أنه لا يهزم وإذا به يفر وبشكل متعجل من أرض المعركة
مخلفا وراءه عشرات الآلاف من القطع الحربية التي غنمها المجاهدين من رجال الأفغان.
ولا أعلم عندما ترك الجندي الأمريكي على أرض أفغانستان طائراته ودباباته هل ودّع
أسلحته وذخائره كما فعل الجدي الأمريكي فريدريك هنري عندما غادر الجبهة الحربية في
إيطاليا كما في رواية (وداعا للسلاح A Farewell to Arms) والتي هي من تأليف الأديب الأمريكي إرنست
هيمنغواي أبرز روائي أمريكي على الإطلاق والحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1954
ميلادي.
بسبب الكلفة المالية والسياسية الهائلة لغزو
أرض الأفغان يرجح العديد من المحللين السياسيين أن الهزيمة والانسحاب الأمريكي من
(مقبرة الإمبراطوريات) كان بهدف إعادة التمركز لمواجهة إمبراطورية هائلة اقتصاديا
ومتعاظمة سياسيا ألا وهي الصين. وبمناسبة ذكر الصين لعل من الملائم أن نذكر بأن أول
امرأة أمريكية تحصل على جائزة نوبل في الأدب وهي الروائية بيرل باك التي عاشت ومنذ
الطفولة فترات طويلة من عمرها في الصين لدرجة أنها تعرف أيضا باسمها الصيني ساي زينزو.
الرواية الأدبية التي منحت بيرل باك جائزة نوبل في الأدب لعام 1938م هي رواية
(الأرض الطيبة The
Good Earth) هي في الواقع عن أرض الصين (الطيبة) وليس المقصود بها الأرض
الأمريكية التي ينطبق عليها أكثر عنوان الجزء الأخير من ثلاثية بيرل باك الشهيرة ألا
وهي رواية (البيت المنقسم A House Divided). من تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر أن
تلك الفاجعة الكبرى وحدت المجتمع الأمريكي سواءً للأخذ بالثأر أو المواساة والتلاحم
لتخطى الجروح النفسية للكارثة. واليوم في الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من
سبتمبر نجد أن المجتمع الأمريكي ينطبق عليه بحق عنوان الرواية الأدبية سابقة الذكر
(البيت المنقسم). بعد وصول الرئيس الأمريكي الأهوج دونالد ترامب انقسم المجتمع
الأمريكي كما لم يحصل منذ زمن الحرب الأهلية ولهذا أصبحت الأمة الأمريكية بمجموعها
حاليا في حالة تشظي وضعف لدرجة أن يهرب جيشها المدجج من فلول الطالبان.
بقي أن نقول إن المجتمع والقيادة الأمريكية بشيء من السذاجة السياسية ظنوا أن كرامتهم الحضارية التي تمردغت في غبار منهاتن المنثل من ناطحات السحاب سوف ينفض عنها العار بمجرد تدمير مدن العراق وأفغانستان. ثم هذه الأيام عندما انقشع الغبار وزال الوهم وتبين أن قادة الطالبان لم يتم القضاء عليهم وأنهم عادوا للحكم فهذا ولا شك جدد الذكريات الأليمة والأحزان الدفينة للأمة الأمريكية. وكل من يتابع الإعلام الغربي إجمالا والأمريكي بالخصوص يلاحظ هذه الأيام بالذات كثرة استحضار أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل مكثف ومستفيض. ذلك الجرح النفسي الغائر تم نكأه وأعيد فتحه وتبين لهم أنهم لم يأخذوا بالثأر وإنما هم في واقع الأمر وقعوا في العار والشنار نتيجة هروبهم الفاضح. يقال إن المصائب لا تأتي فرادى وكذلك الذكريات يجر بعضها بعضا والشجا يبعث الشجا كما قال متمم بن نويرة ولذا تذكر الأمريكان فاجعتهم في مدينة سايغون الفيتنامية في سياق إعادة أحياء نكبتهم في مانهاتن. ومن الحيل النفسية التي يتبعها الأمريكان لتقليل وقع وأثر الجروح النفسية هو تخفيف الصدمة بالعلاج بالفن والأدب والتداوي بالدراما. بالرغم من مرور أحداث سياسية وعسكرية جسام على المجتمع الأمريكي مثل الحرب الأهلية واشتراكهم في الحروب العلمية الأولى والثانية إلا أن حرب وهزيمة فيتنام هي أكثر حدث سياسي حصل له انعكاس على الأدب والدراما والأفلام السينمائية. في بحث استقرائي نشر في إحدى المجلات الأمريكية يذكر أن موضوع حرب فيتنام كان المحور الأساسي أو خلفية الأحداث في حوالي 500 رواية أمريكية.
وفي مجال علم النفس يذكر أن من الاستراتيجيات
التي يمكن التي يلجأ إليها الشخص (وربما المجتمع بمجموع أفراده) عند استشعاره
للضعف أن يستخدم وربما بصورة غير واعية الآلية الدفاعية النفسية المعروفة باسم (ميكانيزم
التعويض الزائد). وهذا يفسر لماذا عندما انهزم الأمريكيان هزيمة مذلة في فيتنام
حصل (التعويض النفسي) في إنتاج كم هائل من الأفلام والروايات التي تحاول بالعلاج
الدرامي أن تعيد التوازن للروح الأمريكية المكسورة وأنها حققت البطولات الوهمية كما
فعل (المقاتل الخارق رامبو) أمام جنود الفيتكونغ الفيتناميين. سابقا كانت الأمة
الأمريكية تظن أنها انتصرت على الأعداء في غزوة مانهاتن واليوم بعد اكتشاف الحقيقة
المرة لا أستبعد ظهور روايات وأفلام سينمائية (تعويضية) تدور أحداثها في أفغانستان
كمحاولة لتخفيف الصدمة النفسية، ولكن كل هذا الجهد سوف يكون تأثيره هباءً منثورا
أو كما هو عنوان أشهر رواية أمريكية على الإطلاق (ذهب مع الريح).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق