د/ أحمد ن حامد الغامدي
بعد شهور متطاولة من العمل الدؤوب والمتواصل البعض من الناس قد يتعرضون لحالة حادة من الإرهاق الجسدي والإنهاك النفسي خصوصا قبل اقتراب موعد الإجازات في نهاية العام ولذا ظاهرة انتهاء رصيد الطاقة الدافعة للعمل هذه تعرف باسم: إرهاق أو احتراق نهاية العام (end of year burnout). صحيح أنه يمكن أن يوجد في المقابل شخصيات مدمنة بشكر مفرط للعمل (إدمان العمل workaholic) وقد يصاب بعضهم بالضرر من العمل المتواصل ولهذا يعدّ علماء النفس إدمان العمل بشكل مفرط نوع من اختلال السلوك والاضطرابات النفسية. على كل حال مما يساعد على تحمل الإنهاك والإرهاق في العمل ويؤدي لحالة من إدمان العمل الإيجابي أن يكون الشخص له (شغف) وافتنان بما يعمل. وهذا يقودنا إلا أن العاملين في مجال الأبحاث العلمية يتمتعون بهذه الميزة العاشقة للعمل بالإضافة إلى صفة وخصيصة أخرى تؤزّهم وتكون قوة دافعة لمواصلة العمل المرهق وهي: حب الاستطلاع والفضول لمعرفة الأشياء ولقد لخص عالم الفيزياء أينشتاين ما سبق ذكره عندما قال: ليس لدي موهبة خاصة، أنا فقط فضولي بشغف. ولا شك أن من أبرز ملامح الشغف والإدمان على البحث وإجراء التجارب لدى العلماء أنهم ربما يستمرون في البقاء في مختبراتهم العلمية لساعات طويلة من الليل وفي أيام العطل وحتى وإجازات الأعياد.
وهذه المقدمة تقودنا لمحولة حصر بعض الأخبار
والأحداث المميزة في تاريخ تطور العلم التي وقع فيها اكتشافات علمية حصلت بالذات
في إجازة (رأس السنة الميلادية) وهو الوقت الذي يكون غالبية الناس يغشاهم الخمول
في بيوتهم (مشابهه للظاهرة التي تشتهر عندنا باسم: الغيبوبة الجماعية ظهر أول يوم
من عيد الفطر المبارك) بينما نجد أفرادا من عشاق العلوم يقودهم شغف العلم والفضولية
المعرفية للمرابطة في مختبراتهم البحثية.
في الأول من شهر يناير من عام 1833م وبينما
الجميع يتمتع بإجازة رأس السنة الميلادية كان الكيميائي الإيرلندي السير روبرت كين
يعمل في مختبره البحثي في مدينة دبلن. وفي هذا اليوم المميز توصل روبرت كين لاكتشاف
كيميائي مميز حيث أقترح وجود (الجذور الحرة free radicals)
وهي نوع من الذرات أو الجزيئيات الكيمائية لها إلكترون حر غير مرتبط وبالتالي تكون
هذه المركبات نشطة جدا وتدخل في عدد هائل من التفاعلات الكيميائية. هذا الاكتشاف
فتح (آفاق) واسعة لعلم الكيمياء كما حصل مع عدة اكتشافات أخرى في مجال علم الفلك فتحت
مجالات وأبعاد شاسعة للعلم كلها حدثت في توقيت إجازة رأس السنة الميلادية.
تعتبر الكويكبات أحد المكونات المهمة
والشيقة في المجموعة الشمسية، ولكن حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي لم يكن
علماء الفلك على معرفة فعليه بوجودها وإن كان انتشرت بينهم فكرة غريبة أنه يوجد كوكب
(مفقود) يحتمل وجودة بين كوكب المريخ وكوكب المشتري. وكحال العشرات من علماء (وهواة)
الفلك الذين سهروا الليالي في (البحث والتفتيش) عن هذا الكوكب المفقود (ولهذا أطلق
عليهم لقب: الشرطة السماوية) نجد أن عالم الفلك الإيطالي والقسيس الكاثوليكي جوزيبه
بيازي انشغل لفترة طويلة في محاولة رصد هذا الجسم السماوي المفقود. ولعدة ليالي
متواصلة بعد عيد الكريسماس بدأ الفلكي بيازي يخمن أنه اكتشف نجم جديد في السماء والذي
أتضح أنه أول وأكبر مجموعة الكويكبات وكان ذلك كويكب سيريس. الطريف في الأمر أن ضوء
هذا الكويكب أخذ يخفت ليلة بعد أخرى ولهذا اضطر بيازي أن يستمر في رصده كل ليله
وفي الليلة الخامسة والتي وافقت مساء اليوم الأول من شهر يناير من عام 1801 أي
مساء يوم رأس السنة الميلادية الجديدة في مطلع القرن الميلادي الجديد وفي ذلك الزمن
المميز بدل أن يكون جوزيبه بيازي يحتفل مع أسرته أو زملائه بهذه المناسبة النادرة
كان يقضى تلك الليلة الباردة وحيدا في مرصده الفلكي في مدينة باليرمو.
الطريف في الأمر أن علماء الفلك (خمّنوا)
وجود كواكب إضافية في المجموعة الشمسية ليس اعتمادا على رصد السماء بالتليسكوب في الليل،
ولكن بناءً على حسابات رياضية بالورقة القلم صباحا وهم على طاولات أبحاثهم. ولهذا
توقع علماء وجود الكوكب المفقود بين المريخ والمشتري والغريب في الأمر أنه بعد
مرور حوالي قرن من الزمن من اكتشاف حزام الكويكبات ما زال علماء الفلك يشكون في وجود
كوكب مفقود آخر (يسمى أحيانا الكوكب أكس Plant X). وبالفعل مرة أخرى وفي يوم رأس السنة
الميلادية أي في الأول من شهر يناير من عام 1909م أعلن عالم الفلك الأمريكي ويليام
بيكرينغ من المرصد الفلكي بجامعة هارفارد أنه بناءً على بعض الشذوذ المرصود في
مواقع كوكبي يورانوس ونبتون وما تبع ذلك من حسابات رياضية فإنه من المحتمل وجود
(كوكب تاسع) ضخم في المجموعة الشمسية. كما هو معلوم لاحقا أكتشف علماء الفلك في
عام 1930م وجود كوكب صخري صغير الحجم هو كوكب بلوتو ووالذي ظل لمدة 76 سنة وهو
يوصف بأنه الكوكب التاسع ولكن منذ عام 2006م اسقط علماء الفلك كوكب بلوتو من قائمة
كواكب المجموعة الشمسية لترجع بقوة مرة أخرى فرضية وجود كوكب ضخم مفقود في السماء
التي فوق رؤوسنا !!.
ولادة الاكتشافات العلمية مع ولادة أول يوم بالسنة
الأخبار والأحداث الفلكية السابقة التي
تزامن الإعلان عنها مع توقيت إجازة رأس السنة الميلادية ربما من الملائم التنبيه أن
هذه الاكتشافات العلمية لم تتم في لحظة خاطفة من الزمن وإنما هي نتائج أيام وأزمان
متواصلة من الرصد الفلكي يحصل في نهاية الأمر أن يصادف الإعلان عن هذه المكتشفات
العلمية في توقيت مميز: اليوم الأول من السنة الميلادية الجديدة. ومن جانب آخر
وبسبب طبيعة التنافس بين العلماء ورغبتهم في سرعة الإعلان عن اكتشافاتهم العلمية
قبل أن يسبقهم لها العلماء المنافسون ربما نفهم لماذا تم الإعلان عن بعض أهم الاكتشافات
العلمية في يوم الأول من يناير ولم ينتظر العلماء انتهاء إجازة رأس السنة لكي يعلنوا
عمّا توصلوا له من سبق علمي فريد. وبما أن سيرة علم الفلك ما زالت قريبة منا في
الفقرة التي بالأعلى لعلنا الآن نذكر أن عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل نشر بحث
علمي في تاريخ الأول من شهر يناير لعام 1925م يذكر فيه أن نتائج أرصاده الفلكية
تثبت أن المجموعة النجمية ألمسماه أندروميدا هي بعيد جدا عن طرف مجرة درب التبانة
وبالتالي هي في الواقع مجرة مستقلة وبهذا تم لأول مرة في التاريخ البشري معرفة أن
(حجم الكون) أكبر بكثير من مجرتنا الصغيرة. الطريف في الأمر أن نشر هذا الاكتشاف
الفلكي التاريخي حصل أثناء اجتماع للجمعية الفلكية الأمريكية ولا أعلم هل اجتماع هؤلاء
العلماء بمدينة واشنطن بذلك التاريخ أي إجازة رأس السنة الميلادية حصل لأن شغفهم العلمي
دفعهم للاجتماع حتى ولو وافق وقت الإجازة أو أن هذا الوقت كان هو فقط المتاح لهم
للاجتماع بسبب ارتباطاتهم في أوقات العمل العادية.
في
تاريخ العلم أول جائزة تمنح من جوائز نوبل للفيزياء كانت من نصيب العالم الألماني
فيلهلم رونتجين في عام 1901م وذلك نظير اكتشافه العلمي فائق الأهمـية (اكتشاف الأشعة
السينية X-rays)
وبقي أن نقول إن رونتجن أعلن للمجتمع العلمي عن هذا الاكتشاف الثوري وذلك في صبيحة
يوم الأول من يناير لعام 1896ميلادي. وكما يعتبر اليوم الأول من شهر يناير هو موعد
(ولادة) أي سنة ميلادية جديدة يعتبر هذا اليوم موعد مناسب لولادة العديد من الأحداث
العلمية المميزة وكذلك كثيرا ما كان يتم اتخذه كتوقيت لموعد (تدشين) مناسبة سياسية
أو اقتصادية أو حتى قانونية فكثرا ما نسمع أن القانون الفلاني سوف يأخذ حيز التنفيذ
ابتداء من مطلع السنة القادمة. على كل حال لا غرابة الآن أن نعلم أن إجازة رأس
السنة الميلادية سوف لن تكون عطلة هادئة إذا تم الاتفاق المبدئي أن يتم في أول يوم
من السنة الجديدة تدشين فعالية كبيرة أو إطلاق مشروع علمي ضخم وهذا بالفعل ما حصل بشكل
متكرر مع عصر العلوم الإلكترونية الحديث. يعتبر اليوم الأول من شهر يناير من عام
1983م هو لحظة ولادة (شبكة الانترنت) والتي تمت في مختبرات البحوث المتطورة لوزارة
الدفاع الأمريكية وبحكم أنه حصلت عملية (ولادة) لهذا التقنية المذهلة فمن الملائم
أن نذكر أن عالم الكمبيوتر الأمريكي فينت سيرف كثيرا ما يطلق عليه لقب (أبو شبكة الانترنت).
وبما أننا في سياق ذكر تاريخ علوم الحاسب الآلي فهذا مسوغ أن نذكر أن أول كمبيوتر فعلي
ناجح في التاريخ وهو الكمبيوتر الأمريكي المشهور بـ ENIAC
تم الانتهاء من التجميع المرهق للقطع الضخمة له في الأول من يناير من عام 1946
ميلادي. وهذا يعني أن المهندس وعالم الفيزياء الأمريكي جون ماكلي الملقب بأبو
الكمبيوتر بدل أن يقضي إجازة رأس السنة في منزله وبين أسرته كان في الواقع في ذلك
التوقيت يعمل في مختبرات كلية الهندسة بجامعة بنسلفانيا لكي يسطر التاريخ بتدشين ولادة
عصر الكمبيوتر.
ونختم هذا المقال وكذلك الحديث عن تاريخ
تطور علوم الحاسب بذكر بدايات الثورة والطفرة الهائلة في صناعة الكمبيوترات والتي
تتركز اليوم فيما يسمى (وادي السيلكون silicon valley) وهي منطقة تقع جنوب مدينة سان فرانسيسكو
كانت في الأساس منطقة مزارع لفواكه المشمش والكرز وذلك حتى يوم الأول من شهر يناير
من عام 1939 ميلادي. في ذلك التاريخ وفي إجازة رأس السنة وفي مكان متواضع جدا هو
كراج سيارة المهندس الأمريكي دايفيد باكارد الذي تعاون مع زميلة المهندس ويليم
هويليت في تدشين الشركة التقنية الكبرى HP company الحاضنة التي (ولدت) منها مختلف شركات
الكمبيوتر.
بقي أن أقول قبل أن أغادر أنني يوم غد الأحد
الموافق الأول من يناير لعام 2023م وفي حين أن غالبية العلماء والمحاضرين في مختلف
دول العالم سوف يستلقون باسترخاء في منازلهم في إجازة رأس السنة الميلادية سوف
أكون أنا بمشيئة الله بكل جد واجتهاد أقدم محاضرتي الأكاديمية لطلابي بالجامعة
والله يجزاني الخير (هههههه).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق