الاثنين، 20 مارس 2023

( من وفاة الكاتب إلى موت المكتبات )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في الفلم الأمريكي (لديك بريد) المستوحى من مسرحية للكاتب الهنغاري ميكلوس لاسزلو المهاجر إلى مدينة نيويورك تدور الأحداث حول مكتبة صغيرة في ركن الشارع تتعرض للإفلاس والإغلاق بعد دخولها في منافسة شرسة من أحد فروع سلسلة مكتبات فوكس (Fox Books) التي يملكها رجل ثري يدعى جوزيف فوكس. الطريف في الأمر أنه بالفعل توجد في أمريكا مكتبة تجارية في مدينة فيلادلفيا تحمل اسم (مكتبة جوزيف فوكس) تعرضت للإفلاس وأغلقت أبوابها (وصفحات كتبها) بشكل نهائي العام الماضي ولذا ليس فقط المكتبات الصغيرة كما في الخيال السينمائي هي فقط من يجور عليها الزمان. الغريب في الأمر أن مكتبة جوزف فوكس (الحقيقة) التي استمرت لمدة سبعين سنة كانت قد تعرضت في فترة التسعينيات من القرن العشرين لهزة اقتصادية طاحنة وذلك بعد المنافسة التجارية التي تعرضت لها من جراء افتتاح فرع لأحد أشهر سلاسل المكتبات التجارية في أمريكا: مكتبة بارنز آند نوبل (Barnes and Noble Booksellers) والتي لها حوالي 614 فرعا في مختلف الولايات والمدن الأمريكية. بقي أن نقول إن سلسلة المكتبات التجارية العملاقة (B&N books) تعرضت بدورها هي الأخرى في السنوات الأخيرة لمشاكل مالية بسبب انحسار سوق الكتاب الورقي مما جعل هذه المكتبة ليست فقط تتجه للتجارة الإلكترونية للكتب (eBooks) ولكن أيضا لإغلاق العشرات وربما المئات من فروعها ومنافذ البيع التقليدية.

في الواقع المنافس الحقيقي لشركة سلسلة مكتبات B&N Books هي شركة أمازون عملاق قطاع التوزيع مع فارق جوهري بينهما ففي حين نجد أن سلسلة مكتبات B&N بدأت مشوارها كمتاجر كتب تقليدية ثم تحولت للتجارة الإلكترونية نجد في المقابل أن شركة أمازون بدأت مسيرتها كما هو معلوم كمتجر إلكتروني لبيع وتوزيع الكتب، ولكن منذ عام 2015م اتجهت أمازون لفتح العشرات من المكتبات الفعلية التقليدية وليس الافتراضية عبر شبكة الإنترنت. وخلال سنوات قليلة اتخذت أمازون قرار اقتصادي متسرع وغير مدروس بفتح سلسلة من المكتبات التقليدية حملت اسم (مكتبات أمازون Amazon Books) بلغ عددها 68 فرعا في مختلف المدن الأمريكية. وكما اضطرت سلسلة مكتبات B&N خلال العام الماضي أن تغلق العشرات من فروعها نجد أن جميع فروع مكتبات الأمازون الثمانية الستين تم إغلاقها العام الماضي مما أعطى انطباع كئيب ومخيف لمستقبل المكتبات والكتاب الورقي المطبوع.

الجدير بالذكر أنه في الوقت الذي بدأت فيه شركة أمازون في فتح سلسلة مكتباتها التقليدية في عام 2015م نجد أنه قبل ذلك التاريخ بقليل بدأ عندنا عملاق تجارة الكتب وأقصد بذلك (مكتبة العبيكان) في الإغلاق المتدرج لفروع سلسلة المكتبات التابعة لها. وبعد أن كانت تلك المكتبة رائدة في طباعة ونشر وتوزيع الكتب من خلال فروعها داخل وخارج المملكة التي وصلت لحوالي ثلاثين فرع تلاشت جميعا تلك المكتبات ولم يعد لمكتبة العبيكان من وجود حقيقي في عالم الكتب إلا من خلال المشاركة في معارض الكتب أو من خلال موقعها الإلكتروني.

في ضوء ما سبق من الكوارث المتجددة منذ سنوات في إغلاق كبيرات المكتبات التجارية عبر العالم كان من المستغرب نسبيا حالة الصدمة التي صاحبت الإغلاق النهائي لواحدة من أشهر المكتبات العربية ألا وهي مكتبة الساقي بلندن. قبل حوالي أسبوعين تم إغلاق مكتبة الساقي بعد مصاعب مالية أصابت سوق تجارة الكتب في مختلف البلدان خصوصا بعد فترة الحضر الطويلة بسبب جائحة كورونا وارتفاع تكلفة المعيشة من جراء الحرب الروسية الأوكرانية. الجدير بالذكر أن مكتبة الساقي التي أغلقت أبوابها بعد 44 سنة هي بالقطع أكبر مكتبة عربية في أوروبا وكما أنها من أكبر المكتبات العربية خارج الوطن العربي. مكتبة (دار الساقي) تحمل شعار مرسوم على هيئة رجل يحمل قربة ويسقى بعض الأطفال وهذا ما كان يحصل لنا أثناء سنوات البعثة لدراسة الدكتوراه في بريطانيا فتقريبا في كل زيارة لمدينة لندن كنّا يجب أن نمر على مكتبة الساقي لكي نروي عطشنا في تلك الصحراء الباردة والخالية من ثمار الثقافة العربية. كما أن مكتبة الساقي كانت محور الحركة الثقافية والأدبية العربية في بريطانيا فكم حصل فيها من حملات تدشين الكتب الجديدة أو استضافة رموز ومشاهير الأدباء والمفكرين العرب.

(ليست مجرد مكتبة) هو الشعار الشهير لمكتبة جرير وهذا في جانب منه يوحي بالدور الحضاري والثقافي للعديد من المكتبات العريقة وكيف أنها بالفعل كانت محور وبؤرة الحراك الثقافي في المجتمعات العربية. ومن هنا نتفهم لماذا يصبح خبر (إغلاق مكتبة) خبر صحفي وحدث إعلامي هام تتداوله وسائل التواصل الإعلامي الحديثة والتقليدية على حد سواء. العالم الماضي تناقلت الصحف وتبادل رواد منصات التواصل الاجتماعي خبر إغلاق مكتبة نوبل البارزة في مدينة دمشق ومثل ذلك حصل مع إغلاق مكتبة إنطوان في بيروت وإغلاق مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر في القاهرة ومصادرة كتب فرعها في اسطنبول. ولا شك أن ظاهرة إغلاق المكتبات بسبب الضائقة المالية موجودة في جميع الدول العربية وخصوصا في مواقع تجمع المكتبات العربية في منطقة وسط البلد وسور الأزبكية في القاهرة أو شارع المتنبي في بغداد أو منطقة الحبوس في الدار البيضاء أو مكتبات شارع السلط في وسط العاصمة عمان.

وبالجملة ظاهرة إغلاق المكتبات التجارية في العقود الزمنية الأخيرة هي اشبه بالوباء العلمي الذي عمّ الجميع دون استثناء ويكفي أن نشير إلى أنه في بريطانيا وفي عام واحد فقط أي سنة 2020م تم إغلاق نهائي لحوالي 44 مكتبة تجارية علما بأن أعداد هذه المكتبات التجارية البريطانية في عام 1995م كانت 1894 مكتبة وهي حاليا فقط في حدود 1072 مكتبة. تناقص المكتبات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي ليس كارثة كبرى، ولكن ما هو ملموس في سوق الكتب في أمريكا هو انخفاض الدخل المادي من عمليات بيع الكتب الآن مقارنة قبل حوالي عشر سنوات حيث انخفضت قيمة مبيعات الكتب من أكثر من 30 بليون دولار إلى حوالي 20 بليون دولار. وهذا يعني أنه مع الزمن ليس فقط المكتبات هي من تموت، ولكن أيضا من المحتمل موت الكتب وربما كذلك موت الكاتب.

في المستقبل لا عزاء للكتاب والكاتب

أما (موت الكتب) فهي فكرة خبيثة أرّقت وأفزعت الكتّاب والأدباء من قديم ولهذا لها انعكاساتها في بعض الأعمال الأدبية وخصوصا تلك التي تدور حول أدب الدستوبيا (المدينة الفاسدة أي خلاف المدينة الفاضلة: اليوتوبيا). فمثلا في رواية (فهرنهايت 451) للكاتب الأمريكي راي برادبري يتم في دولة المستقبل الشمولية حرق جميع الكتب وقتلها بالنار حيث إن درجة حرارة 451 فهرنهايت هي درجة اشتعال الورق. بينما في رواية (1984) للأديب البريطاني جورج أورويل ففي المستقبل وفي دولة الأخ الأكبر بعض الكتب قد تكون موجودة لكنها تحتوي على أوراق بيضاء وفارغة تماما. أما الموت الحقيقي للكتب فقد ورد في الرواية الخيالية (الترتيب الأبجدي) للكاتب الإسباني خوان ميلاس حيث ورد في تلك الرواية أن الكتب قد تطير وتموت وتسقط جثثها فوق رؤوس المارة. وعلى ذكر الروايات الخيالية ففي بعض أعمال رائد أدب الخيال العلمي هربرت جورج ويلز نجد مستقبلا فارغا للكتاب الورقي فمثلا في رواية (النائم يستيقظ) والتي تدور رجل من سكان لندن ينام لمدة 103 سنه ليستيقظ ويجد العالم قد تغير تماما ومن ذلك أنه لا وجود للكتب في العالم المستقبلي الدستوبيائي.

هذا يا سادة ما كان وربما سوف يكون من موت المكتبات وموت الكتاب أما عن موت ووفاة (الكاتب) ونهاية (المؤلف) فهي كذلك فكرة مطروحة ومتداولة منذ عقود كما نجد ذلك في دراسات النقد الأدبي التي تدور حول أن الكتابة والمؤلف غير مرتبطين وأن النص الأدبي يمكن قراءته وتفسير بصور متعددة في معزل عن المؤلف بمعنى أن القارئ هو أهم من الكاتب. ومع الوقت تحولت نظرية (موت المؤلف) في المنهاج الأدبية البنيوية والتفكيكية كما طرحها بعض النقاد الفرنسيين مثل رولان بارت وجاك دريدا وميشيل فوكو، تحولت إلى حقيقة شبه ملموسة في الزمن الحالي مع التطور المذهل والمخيف في ذات الوقت لتقنية (الذكاء الاصطناعي). الجدير بالذكر أنه في الأسابيع الماضي حصلت ضجة واسعة عندما تم إطلاق أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المخصصة لكتابة المحتوى والتأليف حمل اسم: شات جي بي تي (ChatGPT) والذي بإمكانه بدرجة مقبولة محاكاة العقل البشري في طريقة كتابة المقالات وصناعة المحتوى المعرفي، بل وحتى الكتابة الإبداعية. وهذا يعني أنه في المستقبل قد يصعب معرفة ما إذا كنت أنا من أقوم بالتواصل معكم من خلال سلسلة المقالات هذه أم هي ممنتجه من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

نظرية (نهاية المؤلف) أو موت الكاتب حصلت بالفعل قبل سنوات قليلة ماضية عندما طرح لأول مرة في التاريخ البشري كتاب لم يتم تأليفه من قبل أي مؤلف بشري وإنما من قام بكتابته (مؤلف إلكتروني) يحمل اسم الكاتب بيتا (beat writer). ذلك الكتاب التاريخي المهم الذي هو من تأليف الخوارزميات البرمجية هو كتاب علمي يحمل عنوان (بطاريات أيون الليثيوم) ويمكن شرائه من موقع أمازون بمبلغ 69 دولار وهو مبلغ كبير على كتاب من تأليف برنامج إلكتروني. بقي أن نقول إن برنامج (الكاتب بيتا Beta Writer) هو أشبه بآلة ذات ذكاء اصطناعي مطور في معامل اللسانيات الحاسوبية التطبيقية بجامعة غوته الألمانية وهذا يعني أن الماكينة الألمانية المبدعة دوما كما غيرت شكل العالم باختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر سوف تغير شكل العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين باختراع المؤلف الإلكتروني وبهذا يمكن أن تبدأ نهاية عصر الكاتب البشري. الطريف في الأمر أن تطوير البرنامج الأعجوبة (الكاتب الإلكتروني) في جامعة غوتة الألمانية كان خيارا موفقا لأن ذاك الفيلسوف الألماني هو من قال (أنا أحب أولئك الذين يتوقون للمستحيل).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق