د/ أحمد بن حامد الغامدي
قبل عدة سنوات وبفضل من الله أتيحت لي
الفرصة لزيارة المدينة الساحرة سمرقند ونظرا للثراء التاريخي لها والحضور الوجداني
لذكراها كتبت مقال (رحلة إلى سمرقند .. أرض الأساطير) وهذه الأيام أنا في منطقة غير
بعيدة عنها ومع ذلك وجدت لها كثافة غريبة مع الأساطير أكثر من مدينة الخيال
سمرقند. عند التجهيز للسفر لدولة أذربيجان ولمعرفة المواقع التاريخية والسياحية
الجديرة بالزيارة تفاجأت من الكم الهائل للأساطير المرتبطة لهذه البلد شبه المجهولة
لنا. طبعا يصعب التصديق أن قبر وضريح نبي الله نوح يوجد في مدينة ناخايتشيفان وأن
سفينة نوح لم تهبط على جبل أرارات في تركيا وإنما ارتطمت بجبل صغير يدعى إيلانداغ
وتسببت ليس في إغراق السفينة الخشبية بل في شطر قمة الجبل الصخرية إلى قسمين
وبالقرب من هذا الموقع توجد بلدة اسمها قرية أحفاد نوح !!.
وعلى نفس النمط ربما يصعب من الناحية
التاريخية الدقيقة قبول الزعم أن كهف أصحاب الكهف موجود على الأراضي الأذربيجانية
كما يصعب قبل أسطورة الحوار المزعوم بين الإسكندر المقدوني مع معلمه الفيلسوف
الإغريقي أرسطو الذي أرشده كيف يغرق تلك القلعة المغمورة تحت الماء والموجودة في
طرف بحر قزوين. وإذا كان التاريخ السادر في القدم يصعب التحقق منه ففي المقابل
الأساطير الحديثة يمكن تفنيدها بكل بساطة فمثلا لا سند من الوثائق التاريخية يثبت
الأسطورة المتداولة في أذربيجان أن الرئيس الروسي جوزيف ستالين سجن لفترة من الزمان
في أوائل شبابه في سجن برج زندان في جنوب البلاد. وإن الشاب الثائر ستالين هرب من
خلال دهاليز الأنفاق الموجودة تحت سجن البرج وأن من ساعدة في الهروب ليس غير مؤسس
جمهورية أذربيجان الديمقراطية محمد أمين رسول. وبالرغم من صحة اعتقال وفرار ستالين
لحوالي ست مرات من قبل جهاز الشرطة في روسيا القيصرية ولكن الثابت أن ستالين اعتقل
فقط لفترة محدودة في سجن العاصمة الأذربيجانية باكو وليس في سجن برج زندان وفي
الواقع هو لم يستطع الهرب من السجن ولكن تم نفيه من سجن أرض النار إلى سجن أرض
الجليد في سيبريا.
من الناحية السياحية قد أكون ظلمت دولة أذربيجان
بافتتاح المقال بذكر الأساطير التاريخية المفبركة عن هذه المنطقة وهذا قد يعطي
انطباع سلبي عنها، ولكن ما أريد أن أصل إليه العكس تماما وهو أن هذا الإقليم ذا
الأهمية التاريخية والسياحية والاقتصادية النفطية هو إقليم ثري وحيوي ونقطة تجمع
للحضارات والأديان والصرعات وهذا ما أثمر ظهور وتكاثر مثل تلك الأساطير المختلفة.
وبالانتقال من الأساطير المتوهمة إلى الحقائق التاريخية الموثقة سوف نجد أن أبرز
الأمور التي ارتبطت بأذربيجان أنها توصف في القديم والحديث بأنها (أرض النار) وسبب
هذه التسمية واضح وهو ارتباطها من الناحية الاقتصادية بحقول البترول والغاز الطبيعي
ومن الناحية الدينية بما يسمى (بالشعلة الأبدية) المقدسة لدى المجوس والهندوس.
وفي أغلب الكتب والمصادر الوثائقية التي
تتعلق بتاريخ النفط والصناعات البترولية نجدها تذكر أن أقدم (منابع) النفط في التاريخ
البشري هي تلك الموجودة بالقرب من مدينة باكو الأذربيجانية. وفي هذا الشأن تذكر
المصادر التاريخية الإشارات الواردة في كتب الرحلات عن ينابيع النفط في باكو كما
شاهدها الرحالة الإيطالي ماركو بولو في عام 1273ميلادي. وطبعا في تاريخنا الإسلامي
نجد العديد من الرحالة والجغرافيين العرب ذكروا مشاهداتهم لهذه الآبار النفطية والنار
المشتعلة منذ الأبد في باكو وفق مشاهدات الرحالة أبي الحسن المسعودي كما ذكر
ينابيع النفط فيها الجغرافي البلاذري في كتابة فتوح البلدان وأيضا أبو إسحاق الإصطخري
في كتاب مسالك الممالك. ومع هذا التاريخ العريق والارتباط الوثيق بين أذربيجان
وبين حقول النفط ليس من المستغرب أن نجد البعض يصف أذربيجان ليس فقط بأنها أرض النار،
ولكن بأنها أم صناعة النفط العالمية. وبالفعل نجد أنه بحلول أواخر القرن السابع عشر أصبح تصدير النفط من أذربيجان أمرًا شائعًا فمثلا
في عام 1783م وصف الدبلوماسي السويدي إنجلبرت كايمفر النفط الذي يتم نقله بواسطة العربات
إلى المدن المجاورة وعن طريق قوافل الجمال أو السفن إلى أوكرانيا وروسيا
وأوزبكستان هذا بالإضافة لتصديره إلى الهند وإيران وتركيا.
وتحت تأثير (المركزية الغربية)
والرؤية المتحيزة للتاريخ البشر من المنظور الأوروبي اشتهرت مقولة أن أول بئر بترول
حفرت هي تلك التي وجدت في ولاية بنسلفانيا الأمريكية عام 1859م ثم إذا بنا نعلم أن
أول (مصفاة بترول) هي في الواقع تلك التي أنشأت في باكو في عام 1859 ميلادي. بمعنى
أنه في الوقت الذي كان الأمريكان يحفرون أول بئر نفط لهم كانت صناعة النفط في أذربيجان
متقدمة لدرجة إقامة مصفاة بترول تنتج وقود الكيروسين بدلا من مجرد استخراج النفط
الخام. وهذا يقودنا إلى تصحيح إضافي في تاريخ النفط وهو أن أول بئر بترول في
التاريخ هي من المحتمل تلك التي حفرت في عام 1594م في باكو ووصل عمقها لحوالي 35
مترا. وليس هذا وحسب، بل أن الأذريين بلغت بهم الريادة في صناعة النفط أنهم حفروا
آبار النفط داخل بحر قزوين وهذا ما حصل في عام 1803م عندما حفروا بئرين بحريين على
بعد 18 و 30 كيلومترا من الشاطئ !!.
أرض اللهب والذهب
ما سبق ذكره يبين استحقاق أذربيجان
بأن توصف بأنه (أرض صناعة النفط) وهي تسمية حديثة بينما في السابق وفي التاريخ القديم
اشتهرت بلاد الأذريين بلقب (أرض النار) والسبب في ذلك وجود بعض (ينابيع) النفط
القريبة من سطح الأرض والتي تشتعل فيها النيران منذ فجر التاريخ. ومن هنا تعرف
مدينة باكو بأنها موطن (الشعلة الأبدية) وأرض النار المستعرة منذ أربعة آلاف سنة
ولأن هذه الشعلة المتأججة دوما لا تتأثر بهبوب الرياح أو هطول الأمطار، بل ولا حتى
تساقط الثلج لذا تعرف باكو خصوصا في الشتاء بأنها (أرض النار والثلج). وهذا ما
يمكن أن يشاهده السائح عند زيارته لموقع جبل النار (ينار داغ) في الطرف الشرقي من
مدينة باكو حيث يمكن مشاهدة النار المتقدة تحت هاطل ندف الثلج المتساقطة وهو
المشهد الذي يمكن رصده كذلك في ساحة (معبد النار) في ضاحية مدينة باكو. وفي مثل
هذه الأجواء من الديمومة للنار المشتعلة وما يصحبها من الدفء والنور والتطهير يمكن
فهم سبب انحراف اتباع الديانة الزرادشتيه المجوسية في تقديس النار. والغريب من أن
الإسلام قد دخل الأراضي الأذربيجانية منذ الحملات العسكرية التي أرسلت لها زمن
الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ومع عراقة وتجذر الإسلام في أذربيجان إلى أن
المجوسية و (معابد النار) المنشرة في أذربيجان كانت قائمة حتى عام 1880م وهو زمن منع
اتخاذ معبد النار آتشكاه في باكو كموقع عبادة.
على كل حال للشعلة الأبدية وجود
راسخ ومتجذر في الثقافة والتاريخ الأذري في القديم والحديث لدرجة أن أبرز ما يميز
مدينة باكو العاصمة الأذربيجانية ويجعلها مشهورة على مستوى العالم (بالإضافة لآبار
النفط التي بها) هو الاختيار المتعمد أن تكون أطول وأجمل ناطحات السحاب التي بها
مصممه على شكل شعلة النار والمسماة أبراج اللهب Flame Towers والمكونة من
ثلاثة أبراج زرقاء اللون تمثل ثلاثة من ألسنة اللهب المشتعلة. وبالمناسبة لا أدري
لماذا لم يتم اختيار زجاج أبراج اللهب في باكو من اللون الأحمر بدل الزجاج الأزرق
التقليدي فكما هو معلوم لون شعلة النار أحمر وهذا اللون أكثر توافقا وارتباطا مع (الشعلة
الأبدية) وهو ما شاهدته مثلا في موسكو في الساحة الحمراء حيث نجد أمام قبر الجندي
المجهول المستند على جدار الأحمر للكرملين شعلة نار صغيرة مشتعلة دائما وبهذا استحقت
تسمية (الشعلة الأبدية) خصوصا لوجودها في روسيا الحمراء.
أما وقد وصلت أيه القارئ العزيز إلى هذه (.) النقطة من المقال فأرجو أن يكون قد تبين لك لماذا تسمى أذربيجان بأرض النار وبلد أم صناعة النفط واترك لك الفرصة استكشاف علاقة هذا البلد الجميل بطريق الحرير أو حتى تجارة الشاي أو السجاد الشرقي. ولعلنا نختم بذكر العلاقة بين أذربيجان وبين الديناميات كما هو موجود في عنوان المقال ونقول بأن نظر للعلاقة الوثيقة بين أذربيجان وتاريخ صناعة النفط ونظرا لإسهام حقول النفط فيها في تجارة تصدير الذهب الأسود إلى الدول الأوروبية من نهاية القرن التاسع عشر. لذا توافدت الشركات والبنوك الغربية ورجال الأعمال للاستثمار في صناعة النفط في أذربيجان وكان من الرواد في هذا الشأن عائلة ألفرد نوبل صحاب جائزة نوبل الشهيرة. في السبعينيات من نهاية القرن التاسع عشر أنشأ الأخوة الثلاثة من عائلة نوبل (روبرت ولودفيج وألفرد) أول شركة استثمار في صناعة النفط في أذربيجان وقاموا بشراء العديد من آبار النفط وكذلك مصفاة للإنتاج وقود الكيروسين بالإضافة لبعض الصناعات الكيميائية الأخرى. ونتيجة لهذه الاستثمارات في مجال النفط أصبحت شركة الأخوة نوبل تقوم بشحن البترول عبر القطار إلى روسيا القيصرية وعبر السفن إلى الدول الأسيوية والأوروبية ويقال إن شركتهم كانت تصدر حوالي تسعة بالمائة من صادرات العالم من النفط. ولنعلم كم مقدار إسهام شركة الأخوة نوبل في سوق البترول في ذلك الزمن يكفي أن نشير إلى أن نسبة مساهمة شركة أرامكو وهي أكبر شركة بترول في العالم تبلغ حوالي 10% من صادرات العالم من النفط في حين أنه للمقارنة مثلا نجد أن عملاق شركات البترول الأمريكية إيكسون موبيل تنتج فقط أقل من واحد في المائة (حوالي 0.7%) من نفط العالم.
وما أود الوصل له هو تصحيح خطأ شائع أن
الكيميائي السويدي ألفرد نوبل جمع ثروته الضخمة من فائض تصنيع وبيع الديناميت
والمتفجرات بينما في الواقع كان هو وإخوته من أباطرة النفط في نهاية القرن التاسع
عشر. وبهذه الثورة الباذخة تمكن نوبل من ضخ الأموال في التجارب العلمية لتحسين
تصنيع متفجرات TNT
بشكل أكثر أمانا وأسهل في النقل والاستخدام. وبقي أن نقول إن النفط الأذربيجاني هو
من ساهم في شهرة ألفرد نوبل العالمية حيث إن المبلغ المالي الذي تركه نوبل لكي يصرف
بشكل سنوي لتمويل (جائزة نوبل) جزء منه هو في الأساس من حصته في شركة البترول التي
تملكها أسرته في باكو وتشير التقديرات إلى هذه نسبة هذا الإسهام قد تصل لحوالي (12%).
صحيح أن ألفرد نوبل لم يسافر إلى مدينة باكو، ولكن الفيلا الفخمة (Villa Petrolea)
التي كان يقيم فيها أخوة لودفيج في باكو تحولت منذ سنوات إلى متحف ومؤسسة تاريخية عن
عائلة نوبل وقد استمتعت هذه الأيام بزيارة موقع هذه الفيلا السكنية الخلابة والتي ربطت
بشكل أو آخر بين الديناميت والنفط على أرض النار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق