د/ أحمد بن حامد الغامدي
قبل أيام قليلة تم الإعلان عن الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية في شتى فروع الجائزة ومن المفارقات أنه تم لأول مرة توافق الإعلان عن فوز أول امرأة بجائزة الملك فيصل في العلوم (من الموافقات كذلك أنها كانت محجبة) مع الحالة النادرة بأن يكون الفائز في جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية باحثا غير مسلم. وكان ذلك من نصيب الدكتور روبرت هيلينبراند المتخصص في الفنون الإسلامية والباحث الأكاديمي البريطاني الذي عمل بجامعة كمبريدج وجامعة أدنبرة والمشرف السابق على كرسي الفن الإسلامي. من المحتمل أنه لو وجدت جائزة الملك فيصل وما شابهها من الجوائز العربية المهتمة بالدراسات الإسلامية، لو وجدت قبل عقود طويلة من الزمن لربما فاز بها عدد من المستشرقين المنصفين الذي كرسوا حياتهم لهذا النوع المعرفة العلمية. ولكن بعد قرون من الدراسات الإسلامية اللغوية والتاريخية والدينية يبدو أن علوم الاستشراق تقلصت ولم يبق منها ما هو جدير بالاهتمام إلا تلك المتعلقة بالفنون الشرقية والعمارة الإسلامية.
وبعيدا عن الاستشراق والمستشرقين فقد كان
العالم العربي والإسلامي بؤرة إلهام وإعجاب لطوائف وفئات متنوعة من الطبقة المثقفة
في الغرب فسحر الشرق قد جذب له مشاهير الأدباء الأوروبيين من مثل لامارتين وفلوبير
وأجاثا كريستي ومارك توين. في الواقع أولئك أغواهم الغموض وجمال الصحراء لعشق أرض
العرب في حين أن البعض الآخر أكثر ما جذبهم لحضارتنا هو افتتانهم بقطع الفنون
الإسلامية والتحف الشرقية فهذا البارون الإنجليزي هانز سلون الذي عاش في القرن الثامن
عشر لم يسافر قط لأي بلد عربي لكنه كان عاشقا لجمع وشراء التحف وقطع الفنون
الإسلامية. وقبل وفاته أوصى هانز سلون أن تؤول ملكية مجموعته الضخمة (من الكتب
والتحف والقطع الفنية والرسومات والعملات التي جمعها عبر السنوات من كل أنحاء
العالم) إلى الأمة الإنجليزية بشرط أن ينشأ لها مبنى خاص أصبح لاحقا هو نواة
المتحف البريطاني العريق والذي يعتبر من أوائل المتاحف في التاريخ.
ونحن ما زلنا في العاصمة البريطانية لندن ونقابل معلم حضاري وعمراني ضخم وهام غير المتحف البريطاني وهو كاتدرائية سانت بول التي تعتبر أول مبنى بروتستانتي هائل من نوعه في القارة الأوروبية. وما يهمنا هنا أن هذا البناء الفريد يدين بالفضل للمهندس البريطاني وشيخ المعماريين في العصور الحديثة كريستوفر رين الذي بدوره وباعترافه يدين الكثير والكثير لفنون العمارة الإسلامية. لقد عمّر المهندس المعماري كريستوفر رين حتى تخطى سن التسعين وخلال سنوات الحياة المهنية في علم العمارة درس المئات من أشهر وأبرز الروائع العمرانية الأثرية أو الحديثة في مختلف البلدان في الشرق والغرب. عندما شرع كريستوفر رين في تصميم أكبر كاتدرائية (بروتستانتية) في أوروبا وهي كاتدرائية سانت بول أراد أن تكون متوجة بقبة هائلة وضخمة تقارب في عظمتها أكبر قبة (كاثوليكية) أي تلك التي تتوج كاتدرائية فلورنسا في إيطاليا. ومن هنا بدأ كريستوفر رين دراسة مكثفة لطريقة تصميم وبناء القبب الضخمة في العصور القديمة سواء قبة كنيسة/مسجد آيا صوفيا في إسطنبول وكذلك نضام قبب المساجد التركية وقبة الصخرة. من هذا وذاك وفي سن 81 توصل كريستوفر رين لنظرة فريدة في علم وتاريخ العمارة وهي أن الكاتدرائيات الأوروبية البارزة مثل كاتدرائية نوتردام في باريس أو كاتدرائية كولونيا في ألمانيا أو كاتدرائية ميلانو في إيطاليا وغيرها كثير والمبنية على نمط العمارة القوطية Gothic architecture هي في الواقع مبنية على نمط عمارة سبق أن استخدمه العرب والمسلمين في بناء مساجدهم وجوامعهم.
وبحكم أن نمط المعارة القوطي مستعار في
الأصل من الحضارة الإسلامية ووصل إلى أوروبا عن طريق الصليبين أو من خلال الاحتكاك
بالمسلمين في أسبانيا وصقلية وغيرها. ولهذا وهنا كانت القنبلة الكبرى أن أهم وأبرز
مهندس معماري في العصور الحديثة وهو كريستوفر رين يطلب تصحيح اسم فن العمارة
السائد في أوروبا من فن العمارة القوطية وتعديله إلى اسم (العمارة الإسلامية) أو
العمارة الموريسكية. كما هو معروف أن الموريسكيون هم العرب الذين بقوا في إسبانيا
بعد سقوط الأندلس في حين أن المستعربين الإسبان الذين يطلق عليهم: الموزراب Mozarab
هم نصارى الأندلس الذين تقبلوا الحضارة واللغة العربية والملابس والعادات العربية.
وبالإذن من كريستوفر رين فإن من أدخل بعض فنون العمارة الإسلامية إلى أوروبا هم
الإسبان الموزراب وليس المسلمون الموريسكيون فعن طريق أولئك النصارى الذين تشربوا الحضارة
الإسلامية أمكن من خلال من عمل منهم في البناء والعمارة، أمكن نقل أسرار العمارة
الإسلامية من جنوب إسبانيا من إقليم أندلوسيا إلى شمال إسبانيا ولاحقا إلى فرنسا
ومنها إلى بقية المناطق الأوروبية.
من أجمل ما في مسجد قرطبة وقصور مدينة الزهراء الأندلسية المندثرة من ناحية الفنية تلك التحف المعمارية المسماة أقواس حدوة الحصان horseshoe arch التي دخلت في بناء دير مسيحي فرنسي قرب مدينة ليون وما يهمنا هنا أن من قام ببناء هذا الدير في عام 913م هم مجموعة من الرهبان الإسبان القادمين من مدينة قرطبة. وربما كنوع من الاعتراف بفضل العمارة الإسلامية تسمي أقواس حدوة الحصان الشائعة الاستخدام في بريطانيا بالأقواس المغربية (Moorish arch). ليس هذه فحسب فدرة تاج العمارة القوطية وهي الأقواس الأوجية Ogee arches الموجودة تقريبا في أغلب الكنائس الأوروبية والمباني الأوروبية التاريخية هي ليست في الواقع أقواس قوطية وإنما أصلها من العمارة الإسلامية الهندية كما نجده في بوابات مدخل مجمع تاج محل أو في الأقواس الخلابة في القلعة الحمراء في مدينة دلهي القديمة. في عام 2007 أصدر الدبلوماسي والكاتب الأمريكي مايكل مورجان كتابه الماتع ذا العنوان المميز (تاريخ ضائع) ويقصد بذلك تاريخ الإسهامات العلمية والطبية والفنية التي قدمتها الحضارة الإسلامية للعالم الغربي. لقد وصف مورجان التراث العلمي الإسلامي بأنه تراث خالد وأنه تم بشكل متعمد تجاهله من قبل الأوروبيين حتى ضاع من ذاكرتهم الجمعية.
وبالرغم من أن إسهام الحضارة الإسلامية في
مجال العمارة الأوروبية ليس بتلك الدرجة الحاسمة من الوضوح إلا أننا نجد أن
الباحثة البريطانية دايانا دارك المهتمة بتاريخ الحضارة الإسلامية تؤلف عام 2020م
كتاب بعنوان صادم (السرقة من المسلمين .. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا).
ويبدو أن الكاتبة دايانا دارك تستخدم إستراتيجية الصدمة كمحاولة منها لكي يفيق
المتلقي والقارئ الأوروبي من خديعة (مركزية الحضارة الأوروبية) ولهذا تصف دايانا عملية
(الاقتباس) والإلهام من قبل الأوروبيين من الحضارة الإسلامية (الضائعة) أنها أشبه
بعملية السرقة والسطو. في يوم 15 أبريل 2019م حصل حريق ضخم في كاتدرائية نوتردام في
باريس وبحكم أن هذه الكنيسة الشهيرة من أبرز المعالم العمرانية المسيحية كتبت
دايانا دارك في صباح اليوم التالي إن تصميم كاتدرائية نوتردام قد استلهم من كنيسة
عربية أثرية في محافظة إدلب السورية. وبعد نشر تلك التغريدة واجهت دايانا دارك بعض
الاحتجاج والاعتراض وعاصفة من الاهتمام بذلك الإرث الضائع وهل فعلا للمباني
المسيحية البارزة أي ارتباط بالعرب والإسلام. وكردة فعل لهذا الجهل بدور الحضارة
الإسلامية في تشكيل أوروبا قامت المستعربة Arabist دايانا دارك وبشكل سريع في
إنتاج كتابها الضخم ذاك في أكثر من ثلاثمائة صفحة كما أنتجت مقطع فيديو مختصر عن
(كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا) أصبح له ذيوع وانتشار واسع في عالمنا العربي.
كما لاحظنا أن تكليف المعماري البريطاني كريستوفر رين ببناء أكبر قبة بروتستانتية في الدول الغربية قاده إلى دراسة فنون العمارة الإسلامية ثم الاعتراف بفضلها وتفوقها على العمارة الأوروبية وكذلك نجد معماريا بريطانيا آخر يكلف بهمهمة معمارية تكون سببا في عشقه الدائم بجماليات العمارة الإسلامية. هذا ما حصل مع المعماري أوين جونز الذي كلف في عام 1851م بتجهيز محتويات القصر الزجاجي للمعرض الدولي الكبير الذي استضافته مدينة لندن وكانت الفكرة تجهيز أجنحة لفنون العمارة للحضارات القديمة وتم تمثيل الحضارة الإسلامية من خلال (جناح قصر الحمراء). ولتنفيذ هذه المهمة سافر أوين جونز إلى مدينة غرناطة وقضى ستة أشهر وهو يرسم معالم الأناقة المعمارية في قصر الحمراء وبعد عودته لمدينة لندن ظل حوالي عشر سنوات وهو يجهز في كتابه الضخم المؤلف من 12 مجلدا وحمل عنوان (مخططات قصر الحمراء). وإن كان العاشق الإنجليزي المعماري أوين جونز ساهم في تعريف أوروبا بقصر الحمراء فينبغي ألا نغفل أن العاشق للفن الإسلامي المؤرخ والروائي الأمريكي إيرفنغ واشنطن قد سبق وأن عرّف المجتمع الأمريكي والعالم الغربي بقصر الحمراء وذلك بعد أن عاش فترة من الزمن في مدينة غرناطة وألّف بها كتابه المميز (حكايات قصر الحمراء).
يقال إنه لا شيء في الحياة أكثر قسوة من أن يكون المرء أعمى وهو في قصر الحمراء وفي المقابل ربما أكثر الناس متعة وإثارة عند زيارة قصر الحمراء هم علماء الرياضيات !!. قبل قرن من الزمان وبالتحديد في عام 1922م زار الرسام الشاب الهولندي موريتس إيشر قصر الحمراء وهنا تغيرت حياته بشكل جذري حيث أثارت الزخارف الباذخة في القصر اهتمامه وخصوصا نماذج الفسيفساء وتشكيلات البلاط. ومن هنا تنبّه إيشر إلى الترابط الوثيق بي علم الرياضيات وبين أشكال الزخارف التي رصدها ورسمها في قصر الحمراء ومن ثم (اخترع) إسهامه الفني والرياضي الضخم ألا وهو إبداع لوحات ورسمات فنية مستوحاة رياضيا وبهذا أصبح إيشر له شهرة عالمية مدوية على حدا سواء بين علماء الرياضيات وبين مشاهير الرسامين وأهل الفنون.
ونختم بالإشارة إلى أن بعض أهم معالم
العمارة الإسلامية من روعتها الجمالية وشدة إتقان تصميمها الهندسي حسدنا الآخرين
عليها وحاولوا الزعم أنها من نتاج ثقافات وحضارات غير إسلامية. فهذا الباحث
الأمريكي المعاصر فريدريك برجبوهر يؤلف كتابا في أكثر من 400 صفحة عن قصر الحمراء
ويزعم فيه أن أناقة وألق ذلك القصر الخالد الفضل فيها لشاعر يهودي أندلسي قديم يدعى
سليمان بن جبريول القرطبي. وعلى نفس النسق في الافتراء والمحاولات الفاشلة لسلب
الحضارة الإسلامية من شرف وفخر خصوبتها لولادة تلك المعجزات المعمارية نجد كذلك
بعض الحاسدين من الكتاب الغربيين يزعمون بالباطل أن تحفة تاج محل المزخرف جدرانه
بالآيات القرآن الكريم هو ليس من نتاج الحضارة الإسلامية. وهكذا زعموا وافتروا أن
ذلك الصرح الأنيق الذي بناه الملك المغولي المسلم ملك شاه هو من هندسة وتصميم شخص
إيطالي يدعى جيرونيمو فيرونيو. بقي أن نقول إن ذلك الإيطالي لم يعرف عنه إلا أنه
تاجر مجوهرات من مدينة البندقية زار الهند بغرض التجارة ولهذا هو أبعد الناس عن فن
العمارة كما هو حال الشاعر اليهودي القرطبي الذي زعموا بالبطل والحسد أنه هو من
أبدع تحفة قصر الحمراء !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق