الاثنين، 20 مارس 2023

( الاحتفالات بهزيمة الإسلام وأهله !! )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في التاريخ الإسلام حصلت معركة مرج راهط قرب دمشق بين مروان بن الحكم وبين جيش عبدالله بن الزبير والذي كان بقيادة أمير قنسرين زفر بن الحارث الكلابي الذي فرّ من أرض المعركة بعد الهزيمة التي وقعت بهم. وبحكم أن زفر بن الحارث كان من الشعراء الأمراء فقد تعاظم عليه أن يهزم وأن يفرّ من المعركة وأن يفقد فيها بعض أولاده ولهذا توعد بني أمية بقصيدة بديعة منها البيت المشهور:

فقد ينبت المرعى على دمن الثرى      وتبقى حزازات النفوس كما هيا

 وبالمعذرة من القارئ الكريم فإن الداعي لاستحضار هذه القصة وذلك البيت الشعري الطنّان هو ما حصل قبل أيام قليه وفي الأدوار النهائية لبطولة كأس العالم عندما أخذ فريق كرة القدم للمنتخب المغربي الشقيق يتقدم بخطى متوالية نحو الكأس وبعد كل انتصار على الفريق الإسباني والبرتغالي تذكرنا جميع لحظات التاريخ المجيد بفتح الأندلس. وعندما انهزم أخيرا المنتخب المغربي على (يد/رجل) المنتخب الفرنسي تذكر الفرنجة المعاصرين انتصارهم على المسلمين في معركة بلاط الشهداء ولذا بالفعل قد تمر الأعوام ويتطاول الزمن ويكون المظهر العام لعلاقات البشر بينهم البين براقا، ومع ذلك حقا وصدقا: تبقى حزازات النفوس كما هيا.

ربما لأغلب الشعب العربي المتحمس للنصر المؤقت للمنتخبات العربية في كأس العالم سرعان ما نسيان حالة (استرجاع واستجرار) تاريخ الفتوحات الإسلامية للفردوس المفقود أرض الأندلس بعد انتهاء المونديال. ولكن في المقابل الله أعلم كيف كانت مشاعر الشعب الإسباني يوم الإثنين الماضي (الثاني من شهر يناير) عندما احتفل على عادته السنوية بمهرجان (Moros y Cristianos) وهذه المرة ربما كانوا مشحونين بانكسار منتخبهم على يد المغاربة الغزاة ولهذا كان للاحتفال على هزيمة المسلمين العسكرية لها طعم مختلف. في هذا المهرجان الشعبي السنوي يحتفل الإسبان بالانتصارات في المعارك التي تمت قبل أكثر من خمسة قرون بين المسلمين (moros) وبين المسيحيين (cristianos) والتي نتج عنها طرد الإسلام وأهله من الفردوس المفقود.

بعد عدة قرون من الحروب المتواصلة التي تعرف في التاريخ الإسباني بحروب الاسترداد Reconquista سقط أخير آخر معقل للإسلام في الجزيرة الأيبيرية وذلك بالتحديد في اليوم الثاني من يناير من عام 1492م حيث انتهى الحكم الإسلامي في الأندلس مع احتلال الجيوش المسيحية لمدينة غرناطة. ومن ذلك التاريخ (توارث) الإسبان جيلا بعد جيل عادة إقامة الاحتفالات الشعبية لاستعادتهم لجميع المدن والأقاليم التي فتحها المسلمون ثم طردوا منها. ولهذا في ذلك الاحتفال السنوي الذي يقام في تاريخ الثاني من يناير تقوم فرق من الممثلين الإسبان بالانقسام إلى قسمين لتأدية مشاهد تمثيلية وقتالية بين أفراد منهم يلبسون الملابس العربية (موروس moros) يكون لهم النصر في بداية المعارك ويحتلون المدن الإسبانية. ثم مع استمرار فعاليات الاحتفاليات التمثيلية تصل المرحلة الحاسمة عندما ينقلب الحال ويبدأ الجنود المسيحيين (كريستيانوس cristianos) بتحقيق الانتصار العسكري وهزيمة المورو(العرب) ببركة معجزة أحد القديسين المسيحيين مثل القديس جرجس أو القديس يعقوب.

بالمناسبة القديس يعقوب (أو سانت جيمس أو بالإسبانية: سانتياغو) هو من يزعم الإسبان أنه تسبب في معجزة انتصارهم الكبير ضد العرب في معركة العٌقاب في منتصف شهر يوليو من عام 1212ميلادي. وفي تاريخ سقوط الأندلس تعتبر معركة العُقاب هي المرحلة المفصلية التي انقلبت فيها الموازين لصالح النصارى ضد المسلمين وكانت هزيمة مهينة لأن الجيش (العربي) البالغ حوالي 30 ألف جندي قتل وجرح منه حوالي 20 ألف مقاتل بالرغم من أن الجيش المسيحي بالكاد يصل أعداد جنوده لنصف عدد جيش المسلمين !!. ولهذا لا غرابة أن يعتبر الإسبان يوم 16 يوليو هو (عيد النصر) وتقام فيه سنويا وبشكل متواصل منذ ثمانية قرون مهرجانات النصر على العرب وذلك بالتحديد في المدينة الإسبانية لا كارولينا الملاصقة لحصن العقاب.

الجدير بالذكر أن (الاحتفالات) السنوية التي تقام في إسبانيا والبرتغال ابتهجا واستحضارا للتاريخ بطرد المسلمين متعددة وكثيرة جدا ومتفاوتة في الموعد عبر أشهر السنة فالعديد من المدن والأقاليم كلا على حدة تحتفل في التاريخ الذي أعادوا انتزاع مدينتهم من سلطة الحكم الإسلامي. ولذا بالإضافة للاحتفالات بسقوط مدينة غرناطة ومعركة العقاب تقام احتفالات ومهرجانات أخرى سنوية في عشرات المواقع الأخرى لدرجة أن إقليم بلنسية في شرق إسبانيا يحتوي على حوالي 16 بلدة ومدينة صغيرة كلا منها تقيم مهرجان Moros y Cristianos الخاص بها للاحتفال بهزيمة الإسلام وأهله من العرب والبربر.

ما سبق ذكره يوضح بشكل جلي الدرجة العميقة في الوجدان الديني للمسيحيين الإسبان حيال صراعهم الحضاري الحاد مع الأمة الإسلامية لدرجة أنهم ومنذ عام 1130م وحتى الآن أي خلال تسعة قرون من الزمن ما زالوا يحافظون وبشكل مستمر ومتزايد على إقامة هذه المهرجانات الفلكلورية التي تخلد انتصار الأمة والدين المسيحي على الأمة والدين الإسلامي. ليس هذا فحسب فلقد أخذ الغزاة الإسبان هذه التقاليد المترسخة فيهم إلى مستعمراتهم الجديدة في أمريكا الجنوبية وشرق آسيا فمثلا بعد سنوات قليلة من احتلال الإسبان لأراضي إمبراطورتي الأزتيك والمايا في القرن السادس عشر نشروا احتفالات Moros y Cristianos في العديد من المدن المكسيكية، بل إنها تقام كذلك في العديد من دول أمريكا اللاتينية مثل البيرو وكولومبيا وغواتيمالا وبرتوريكو.

والغريب في الأمر أنك حتى اليوم تجد بعض المدن الفلبينية تحتفل بهزيمة المسلمين على يد النصارى الإسبان والسبب في ذلك أن الإسبان بعد أن احتلوا جزر أرخبيل الفلبين زمن الملك الإسباني فيليب الثاني (ومن هنا اشتق اسم الفلبين نسبه لذلك الملك) أدخلوا عادتهم الشعبية المتجذرة باحتفالات النصر على الإسلام وأهلة. وعلى خلاف أمريكا اللاتينية التي لم تقع تحت حكم الإسلام لذا خفتت بعض الشيء فيها إقامة تلك المهرجانات بالانتصار على المسلمين نجد أن جزر الفلبين كانت تقع تحت سيطرة أهل الإسلام من خلال التجار المسلمين (العاصمة مانيلا يقال إن اسمها مأخوذة من الكلمة العربية: في أمان الله) ولهذا بعد وصول الإسبان حصل بالفعل طرد للمسلمين من تلك الجزر كما طردوا قبل ذلك من شبه الجيرة الإيبيرية. بقي أن نقول أنه بعد جلاء الإسبان عن حكم الفلبين على يد الأمريكان ما زالت تلك المهرجانات تقام حتى اليوم في الفلبين ولكن تغير أسمها من (موروس –  كريستيانوس Moros y Cristianos) إلى اسم مورو –  مورو (Moro - Moro).

على كل حال ينبغي القول أن بعض هذه الاحتفالات بهزيمة الإسلام وطرد العرب من الأندلس أصبحت مع الزمن نوع من الفلكلور والمورث الشعبي خصوصا لدى الشعوب المتأثرة بالحضرة الإسبانية والتي لا صلة لها مباشرة مع الإسلام كما في أمريكا الجنوبية. ومع ذلك ينبغي في نفس المقام ألا نقلل من (رمزية) هذه الاحتفالات والمهرجانات وأنها مع شيوع النظرة السلبية للإسلام وأهله ووصمهم في الزمن الحالي بالتطرف والتخلف قد تجعل الآخر يتقبل بكل أريحية أي موقف معادي ومجافي للمسلمين.

وقبل أن نغادر شبة الجزيرة الإيبيرية ينبغي ألا يفوتنا ونحن في مقام الحديث عن استحضار أهل الصليب النصر العسكري على أهل الهلال وتناقل ذلك عبر الأجيال أن نشير إلى أن علم دولة البرتغال يحتوي تصميمه ومنذ العصور الوسطى وحتى الآن على بعض الرموز المرتبطة بحروب الاسترداد الاسبانية وطرد المسلمين من الأندلس. يحتوي تصميم علم البرتغال في وسطه على خمسة دروع مرتبه على هيئة صليب يحوط بها سبعة قلاع ومن الناحية التاريخية تمثل الدروع الخمسة الملوك العرب الخمسة الذين انتصر عليهم ملك البرتغال أفونسو الأول في معركة أوريك التي نشبت بينهم في عام 1139م في حين أن القلاع السبع يقال إنها ترمز لانتصارات الملك أفونسو الثالث ضد العرب وانتزاعه إقليم الغرب Algarve الذي يقع أقصى جنوب أرض البرتغال.

 قهوة وكروسان للاحتفال بهزيمة بني عثمان

استمرارية الاحتفالات السنوية لمدة خمسة قرون بهزيمة المسلمين وطردهم من الأندلس هو سلوك كاشف عن ثقل التحدي الحضاري الذي كان يستشعره أهل الصليب في إسبانيا عندما حكم الإسلام تلك الديار لمدة ثمانية قرون. تحدي حضاري آخر من الإسلام وأهله لا يقل خطورة عما سبق استشعره أهل الصليب في قلب أوروبا هذه المرة وذلك عندما غزت جيوش الدولة العثمانية واكتسحت العديد من الأقاليم والدول المسيحية الغربية. الجميع قد سمع بالقصة التي تقول إنه عندما فشل الحصار العثماني على مدينة فيينا عاصمة ما كانت تسمى في ذلك العصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة احتفل المسيحيون بانتصارهم على المسلمين باختراع خبز (الكروسان). بعض المصادر الغربية تقبل بكل أريحية قصة ظهور خبز الكروسان بعد الانتصار في (معركة فيينا) وذلك لأن الرايات والأعلام العثمانية في تلك المعركة كانت تحمل شكل الهلال دلالة على الديانة الإسلامية (أهل الهلال في مقابل أهل الصليب) ولذا بعد المعركة وكطريقة لتخليد لحظة هزيمة الأتراك يقال إنه في هذه الأجواء الاحتفالية بالنصر على أهل الهلال ظهر لأول مرة خبز الكروسان. كلمة الكروسان croissant في اللغة الفرنسية تعني (الهلال) وبما أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى خبز الكروسان وصل إلى فرنسا من النمسا وبالتحديد من مدينة فيينا Vienna فيما يعرف بمخبوزات فيينا (فينوازري viennoisrie). وهذا التقارب في ألفاظ الكلمات ربما يشي بصحة تلك القصة المشهورة بارتباط الكروسان بهزيمة الأتراك (هزيمة الإسلام وأهله) تحت أسوار مدينة فيينا. كما توجد احتمالية أخرى لصحة قصة شائعة تقول إن مشروب القهوة دخل للقارة الأوروبية بعد أن انسحب الجيش التركي من فيينا مخلفا وراءه أكياس عديدة من حبوب القهوة. ويبدو أن الجيش العثماني كان في عجلة من أمره بعدما انسحب من تحت أسوار فيينا فقد ترك خلفه أيضا بعض الأدوات الموسيقية مثل نوع خاص من المزامير التركية الخشبية يسمى تاروغاتو ولهذا يقال مرة أخرى إن هذه الآلة الموسيقية استخدمت كنوع من الاحتفال وتخليد الانتصار على الأتراك حيث إنها أصبحت الرمز الوطني للحرية للشعب المجري.

الجدير بالذكر أن الاحتفال بهزيمة الإسلام وأهلة ممثلا في تقهقر الأتراك انتقل هذا الاحتفال كما لاحظنا من النمسا إلى المجر ونكمل المسيرة الآن لنصل إلى الدولة المجاورة لهما وهي بولندا والتي وبشكل غريب نجد فيها احتفالا مسيحيا ضخما قريبا في فكرته للاحتفالات التي استعرضناه بالأعلى وتحدث سنويا في إسبانيا. على نسق الاحتفال السنوي الإسباني (Moros y Cristianos) بطرد المسلمين من الأندلس نجد في بولندا احتفال مسيحي سنوي يحمل اسم: صلاة المسبحة الوردية على الحدود (Rosary on borders) والذي يقام في اليوم السابع من شهر أكتوبر ويشترك فيه حرفيا الملايين من الشعب البولندي. في ذلك التوقيت (October 7th )  من عام 1571م حصلت الهزيمة البحرية الكبرى للإسلام وأهله في معركة ليبانتو أو كما سماها العثمانيون معركة (الحظ العاثر). ربما نحن العرب نسينا تماما هذه المعركة الحاسمة بين الإسلام والمسيحية، ولكن المتعصبين من النصارى لم ينسوها أبدا ولذا تجدر الإشارة إلى أن السفاح النيوزلندي الذي قتل قبل عدة سنوات العشرات في صلاة الجمعة حرص أن يكتب اسم معركة ليبانتو على بندقيته. السبب في ذلك أن هذه المعركة الحربية أنهت الهيمنة الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط ولهذا حتى الآن يحتفل كل سنة الشعب البولندي بالملايين أنه في ذلك اليوم السابع من أكتوبر عندما بزعمهم خلص المخلص اليسوع الأمة البولندية وحماها من هيمنة المسلمين والأتراك. في ضوء القناعة التي سرت بين أهل الصليب قبل تلك المعركة بسنوات أن السلطان سليمان القانوني قام بتجهيز جيش ضخم وأسطول ضارب لغزو إيطاليا واحتلال روما وتحويل كنيسة القديس بطرس إلى مسجد (كما حصل في احتلال روما الشرقة: القسطنطينية وتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد)، في ضوء ذلك يمكن أن نفهم لماذا في نظر النصارى كان النصر في معركة ليبانتو هو لحظة جديرة بالاحتفال السنوي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق