الاثنين، 20 مارس 2023

( انحسار الشعر وأزمة القصيدة )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في العقود الزمنية الأخيرة ومع انتشار المذاهب الجديدة في الأدب مثل الحداثة والبنيوية والتفكيكية تهلهلت طبيعة الشعر ودخل في حالة من الاحتضار كما يقول الأديب المصري جمال الغيطاني الذي يزعم أنه في مناسبات متعددة نبه وحذر مشاهير شعراء الزمن المعاصر من مثل الفلسطيني محمود درويش والعراقي عبدالوهاب البياتي والسوري أدونيس والمصري أحمد عبدالمعطي حجازي، حذرهم بأن الشعر العربي يحتضر. والجميع تقريبا يلمس بصور ما (أزمة الوجود) وظاهرة انحسار الاهتمام بالشعر وعزلة الشعراء.

وبحكم أنني من عشاق الأدب العربي فسوف أذكر تجربتي الشخصية ورصدي لمظاهر الصدود عن الشعر العربي في وقعنا المحلي فمثلا في نهاية مرحلة الدراسة الجامعية حضرت مع بعض الأصدقاء أمسية شعرية للشاعر السوري نذير العظمة رحمة الله والذي وقتها كان يعمل كأستاذ للأدب الحديث في قسم اللغة العربية بجامعتي جامعة الملك سعود. وفي أثناء الأمسية الشعرية تحسر الدكتور نذير العظمة من قلة الحضور وذكر أنه في شبابه عندما كان يشارك في الأمسيات الشعرية في مدن الريف السوري كان يحضر جميع أهل القرية حتى النساء والأطفال لمشاهدة ذلك العرس الأدبي. إقبال المجتمع قديما على الشعر والشعراء يذكرنا بالحادثة التي حصلت مع نزار قباني عندما تم استضافته في مدينة الخرطوم وتزاحم الناس على مبنى دار الثقافة وعندما ضاقت بهم الساحة تسلقوا الأشجار وحسب وصف نزار نفسه فإن جمهوره من أهل السودان الكرام كانوا: يجلسون كالعصافير على غصون الشجر وسطوح المنازل.

وبالعودة لشريط الذكريات مع الأمسيات الشعرية فبعد حادثة الدكتور نذير العظمة بحوالي عشرين سنة توليت مهام وكالة عمادة شؤون الطلاب للأنشطة الطلابية وكمحاولة لتعزيز المناخ الثقافي بالجامعة طرحنا فكرة ملتقى (إثنينية الجامعة). وفي إحدى اللقاءات الثقافية والفكرية التي رتبناها نظمنا أصبوحة شعرية عن الأدب الإسلامي استضفنا فيها الشاعر السوري الكبير عبدالقدوس أبو صالح رحمة الله رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية. ومع بداية (أصبوحة) الشعر تلك بدأت الكارثة فالشاعر شخصية مشهورة وموضوع الأدب الإسلامي موضوع شائك ومع ذلك كانت قاعة المحاضرات الواسعة خالية تماما إلا من عدد قليل جدا جدا من الحضور بالرغم من أن القاعة كانت تقع مباشرة أمام كلية الآداب وهنا عبّر الدكتور عبدالقدوس عن صدمته واستغرابه من عدم حضور أي من أستاذته أو طلاب الجامعة.

ومن ذكريات المرحلة الجامعية مع الأمسيات الشعرية إلى الموقف المحرج مع قاعة المحاضرة الخاوية وقت إثنينية الجامعة إلى الأيام القليلة الماضية وبمناسبة إعلان وزارة الثقافة أن السنة الحالية سوف تخصص لقصائد الشعر لفت انتباهي أن أول فعاليات الاحتفاء بـ (عام الشعر العربي 2023) كانت من تنظيم الموسوعة العالمية لأدب العربي (أدب). في الواقع طبيعة تلك الفعالية كانت اشبه بمنتدى أو أمسية شعرية عبر شبكة الإنترنت شارك فيها شعراء من 11 دولة عربية ومن المخجل أن أعترف للقارئ العزيز أنني بعد استعراض أسماء هؤلاء الشعراء لم أعرف ولا واحدا منهم وهذا وإن كان خلل جسيم في ثقافتي الأدبية إلا أنه ربما يعكس أن شريحة من الشعراء بالفعل صوتهم خافت وقد مضى زمنهم كما قال جرير في بداية حكم عمر بن عبدالعزيز رحمة الله.

وبالانتقال من الإقليمي إلى الدولي يبدو أن أزمة الشعر شاملة لجميع الثقافات فالشعراء مجهولون والقصائد في عزلة عن المشهد الأدبي فمثلا الشعراء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب بالكاد يصل عددهم ثلث عدد أقرانهم من الروائيين وكتاب القصة. بل حتى الشعراء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب في السنوات الأخيرة هم في الغالب من الشخصيات الأدبية غير المشهورة على نطاق واسع. وإذا كان الكاتب المصري جمال الغيطاني قد حذّر وأنذّر من أن الشعر العربي (يحتضر) فإننا نجد في الأوساط الأدبية الغربية ومنذ سنوات العديد من النقاد، بل وحتى من الشعراء أنفسهم من يقول بأن الشعر قد مات بالفعل (poetry is dead). قبل أكثر من ثلاثين سنة أثار الشاعر الأمريكي دانا جويا (شغل منصب الوقف الوطني للفنون وهي أهم جهة داعمة للثقافة في أمريكا) لغطا كبيرا عندما نشر مقالا يعلن فيه عن موت الشعر وأن الشعراء غير أصبحوا مختفين، بل تهكم عليهم وصفهم وكأنهم مهمشين في المجتمع مثل هامشية القساوسة في مدينة كل سكانها من الملحدين.

وبما أن المصائب لا تأتي فرادي حتى في دنيا الأدب فقد دخل على الخط كتّاب الرواية الأدبية والقصص القصيرة وأخذوا يلمزون ويهمزون من الشعراء وكساد بضاعتهم فهذا الروائي الأمريكي جوزيف إبشتاين يكتب مقالة نقدية قبل سنوات حملت عنوانا غريبا (من قتل الشعر ؟!!). وبحكم أن مثلث الحركة الشعرية زواياه مكونه من الشاعر والمتلقي (القارئ) والناقد الأدبي نجد أن جوزيف إبشتاين بكل بساطة يلقى اتهام التسبب في قتل الشعر على الشعراء أنفسهم على قاعدة طيب الذكر المتنبي (فمن المُطالبُ والقتيلُ القاتلُ) بسبب غموض قصائد الشعر التي يكتبونها وبسبب انعزالهم عن الجمهور وتلمس احتياجاته.

أين الشعر والشعراء من المشهد الثقافي

صحيح إن فكرة موت الشعر في الغرب واجهت مشاكل واعتراضات كوكبة من الشعراء والنقاد لكن في المقابل تطرف بعض نقاد الأدب في الغرب لدرجة أنهم ليس فقط تقبلوا فرضية (موت الشعر) بل زعموا أن الشعر (مات وشبع موت) بمعنى أن مرحلة وفاة الشعر هي في الأصل قديمة وأنها قد بدأت من تاريخ الرابع من يناير لعام 1965م وهو توقيت وفاة الشاعر الإنجليزي البارز ت. س. إليوت الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1948م وصاحب قصيدة (الأرض اليباب) الفائقة الشهرة. والمعنى واضح أنه بوفاة الشعراء الكبار من مثل الفرنسي آرثر رامبو والإسباني فيديريكو لوركا والألماني راينر ريكله والأرجنتيني خورخي بورخيس والأمريكي ويستن أودين والتشيكي بابلو نيرودا والروسية آنا أخماتوفا فإن مملكة الشعر انهارت وتلاشت مع الزمن وأصبح هي الأرض القفر أو الأرض اليباب. للشاعر الإنجليزي صموئيل تايلور كوليردج مقولة حكيمة تنص على (يرى القزم أبعد من العملاق، عندما يكون لديه أكتاف العملاق ليصعد عليها) وهذا ما يحصل ففي زمن سقوط عمالقة الشعر ليس من المستغرب أن نجد أقزام الشعراء يتقافزون على ظهور العمالقة ويتخطونهم. مع تلاشي جيل الرواد من الشعراء الأقحاح تصبح الساحة الأدبية متاحة لأشباه الهواة من الشعراء والأدباء وبحكم أن الشعر يعتمد على (ذائقة) المتلقي له أكثر من كونه نظم شعري (موزون) خصوصا في الشعر الحر وشعر التفعيلة وقصيدة النثر ومن هنا قد يحصل ومن باب المصادفة أن ديوان شعر لأديب مجهول يحظى فجأة بقبول وانتشار واسع غير متوقع.

في تاريخ الأدب الأمريكي لا يوجد شاعر حظي بالمكانة المرموقة التي نالها صحب ديون (أوراق العشب) الشاعر والت ويتمان ومع أنه نشر قصائده قبل 167 سنة إلا أنه من المحتمل أن عدد النسخ التي بيعت من هذا الديوان لم تبغ خانة مئات الآلاف إلا قليلا. قارن ذلك مع الواقعة الغريبة التي حدثت مع الشابة روبي كور وهي شاعرة كندية من أصول هندية بدأت في عام 2015م وهي في سن 23 بنشر بعض قصائدها من خلال تطبيق (إنستغرام) بعد أن كسبت جمهورا واسعا وذلك بعد الضجة الكبيرة التي حصلت لها لأنها نشرت صورا لها وعلى ملابسها وأغطية سريرها بقع دم الحيض. على كل حال استطاعت تلك الشابة التي أصبحت تلقب بـ (شاعرة إنستغرام) أن تبيع عددا هائلا جدا من ديوان شعرها المطبوع باسم (حليب وعسل) وصل حتى الآن في حدود ثلاثة ملايين نسخة ربما لتصبح أكثر الشعراء (أو في الواقع المستشعرين) انتشارا من ناحية بيع دواوين الشعر. بالمناسبة أحد أكثر الشعراء شهرة في أمريكا هو الشاعر اللبناني جبران خليل جبران (بالإضافة للشاعر جلال الدين الرومي فله هو الآخر شهرة طاغية في الغرب) ومع ذلك لم يباع في الولايات المتحدة من كتابه المشهور (النبي) المكتوب باللغة الإنجليزية إلا حوالي 11 مليون نسخة بالرغم من أنه طبع قبل مائة سنة بالتمام أي في عام 1923ميلادي. على كل حال سبب المبيعات العالية لكتاب جبران خليل جبران ليس لأنه ديوان شعر ولكنه كتاب حكمة وفلسفة ورومانسية بينما دواوين الشعر الخالص لا يكتب لها الذيوع والانتشار. وهذا يؤكد بالفعل أن الشعر في حالة انحسار وعزلة عن المجتمع بالمقارنة مع الأشكال الأخرى للأدب مثل الرواية فمثلا الرواية ذائعة الصيت (الخيميائي) للكاتب البرازيلي باولو كويلو قد بيع منها حتى الآن أكثر من 165 مليون نسخة. وسبب انتشارها الكبير أنها رواية مكتوبة بأسلوب أدبي رفيع وتحتوي على الحكمة الفلسفية والتشويق القصصي على خلاف قصائد الشعر السطحية كما هو ديوان الشاعرة سابقة الذكر روبي كور.

وفي الختام لا بد من أن أعرج على ذكر بعض أسباب كتابة هذا المقال في هذا التوقيت بالذات فبالإضافة إلى أنه يأتي في سياق ملائم لاختيار هذه السنة لتصبح (عام الشعر العربي 2023) ومع ذلك معالم البرنامج الثقافي لفعاليات هذه السنة ما زالت باهتا وغير محددة بشكل كاف مما يعزز الشعور بوجود أزمة حقيقة للشعر وانحسار تأثيره. عنوان المقال الحالي (انحسار الشعر وأزمة القصيدة) ولا أدل من انحسار الشعر وخفوت وهج الشعراء من أن الشاعر السوري والناقد الأدبي البارز الدكتور نذير العظمة الذي ذكرناه خبر أمسيته الشعرية في أول المقال، هذا الرمز الأدبي توفي قبل أيام معدودة ومع ذلك مر خبر وفاته رحمة الله دون أن نشعر به بالرغم من أنه من رواد التطوير في الشعر العربي الحديث فهو كما يقول أول من ابتكر ما يسمى القصيدة المدورة.

أما فيما يخص (أزمة القصيدة) في عنوان المقال فلا أدلّ عليها من الغياب شبه التام عن القصيدة في الأزمة الأليمة الناتجة من الكارثة الطبيعية الكبرى التي حصلت من جراء زلزال تركيا وسوريا. ما حدث في الأسبوع الماضي هو واحدا من أكبر المآسي في تاريخنا المعاصر ومع ذلك لم نجد أيا من قصائد الشعر تواكب هذا الحدث الجلل. بينما في المقابل وقبل قرن من الزمن وبالتحديد في عام 1908م عندما حصل زلزال هائل في جزيرة صقلية الإيطالية المسيحية نجد أن شاعر النيل حافظ إبراهيم يكتب واحدة من أشهر قصائده وأكثرها عاطفة صادقة. لقد كان لقصيدة حافظ إبراهيم (زلزال مسينيا) صدى طيب بأن الشاعر مواكب للأحداث الدولية الكبرى فضلا عن أحداث عالمة العربي والمحلي. وهذا يحمد لحافظ إبراهيم والذي تميز كذلك بقصيدة (غادة اليابان) التي ناصر فيها الشعب الياباني في حربه ضد الحكومة الروسية ونحن الآن يمكن أن نجد من بني جلدتنا من يؤازر الجيش الروسي في قصفه لمدينة حلب السورية وقتله وترويعه للشعب العربي الشقيق.

الشعر العربي في عام الشعر العربي وفي عزّ الحزن العربي في سوريا وفلسطين ينبغي أن يكون حاضرا و(ديوان العرب) الذي نوثق من خلاله أحداث اليوم لذاكرة جيل المستقبل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق