الاثنين، 20 مارس 2023

( الأحضان وكيمياء السعادة !! )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 البحث عن السعادة سلوك بشري طبيعي ومن وجهة نظر البعض هو (حق إنساني) يجب أن يحصل عليه الجميع ولهذا حرص المفكر والسياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين إن يضع في وثيقة إعلان استقلال أمريكا عبارة أن من الحقوق الراسخة لكل الرجال (السعي وراء السعادة pursuit of happiness). وعلى خلاف الحكمة الشائعة (المال لا يجلب السعادة) نجد أن الغالبية العظمى من البشر في مسعاها وراء السعادة حصرت الموضوع كله في جانب المادي البحت: كثرة المال تصنع السعادة. وفي المقابل نجد طوائف من المفكرين والفلاسفة وأهل التصوف والسلوك تركّز أكثر على (السعادة الداخلية) والطمأنينة الجوانية ومن ذلك مثلا أن حجة الإسلام الأمام الغزالي أّلف كتابا حمل عنوان (كيمياء السعادة) ركز فيه على السعادة بمفهومها الروحاني وسبل تحصيلها من خلال تهذيب الأخلاق ورياضة النفس وعلاج الشهوات. الجدير بالذكر أن هذا العنوان الجذاب (كيمياء السعادة) استخدمه كتابا آخرين في أسماء مصنفاتهم كما نجده عند شيوخ الصوفية مثل محي الدين ابن عربي ومشابهه في الاسم محي الدين بن يحي المقدسي. والسعادة من المنظور الكيميائي هي مجرد تدفق للمواد والمركبات الكيميائية التي تؤثر على الدماغ والإدراك وهي بذلك تؤكد العبارة الشائعة في قواميس اللغة الإنجليزية (كل شي في العقل all in the mind) وهي العبارة المختصرة للحكمة التي قررها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عندما قال: ليس ثمة سعادة أو شقاء في المطلق، وإنما تفكيرنا هو الذي يشعرنا بأحدهما. وهذا يقودنا أن موارد السعادة متعددة فبعضها جسدي مادي ومالي وبعضها روحي وبعضها كيميائي وهذا هو موضع حديثنا اليوم.

في عالم الجسد كما أن المال يجلب السعادة فكذلك الكيمياء تجلب السعادة وليس من فراغ أُطلق على بعض المربكات والمواد الكيميائية بأنها (هرمونات السعادة). وبالاستناد مرة أخرى لملحوظة أن (كل شي في العقل) يمكن نختصر ونحوّر عبارة (وزن معادلة كيمياء السعادة) لنركز فقط على (كيمياء الدماغ). ببساطة يمكن أن نقول إن كيمياء الدماغ تدور حول أن المركبات الكيميائية في جهازنا العصبي هي التي تشكل وتؤثر في مشاعرنا وعواطفنا ومن ذلك الإحساس بالسعادة والنشوة. صحيح أن أهم كيماويات السعادة وهرمونات البهجة هي تلك المركبات الكيميائية المسماة بالناقلات العصبية neurotransmitters والتي هي أساس كيمياء الدماغ من مثل مركب والإندروفين (هرمون النشوة) والسيروتونين (هرمون المزاج) والأدرينالين (هرمون الاستثارة) والدوبامين (هرمون المتعة)، إلا أننا سوف نأخذ بالأحضان ومزيد من الاحتفاء مركب كيميائي فريد يدعى (الأوكسيتوسين Oxytocin).

هرمونات السعادة وكيماويات المشاعر السابقة الذكر لها توصيفات شيقة مثل هرمونات النشوة أو المتعة أو الاستثارة في حين أن مركبنا الكيميائي الذي نحن بصدد الحديث عنه له توصيف غريب (هرمون المعانقة Hug Hormone) والبعض يصفه بهرمون الثقة. السبب في هذه التسمية الغريبة أنه في حالة الرغبة في تحفيز إفراز هرمون السيروتونين مثلا يمكن ذلك من خلال أداء بعض التمارين الرياضية في الهواء الطلق بينما هرمون الإندروفين السالف الذكر يكمن الحصول على المزيد منه من خلال عمل الأشياء الممتعة مثل مشاهدة مسرحية مضحكة أو تناول قطعة شكولاتة في حين أن أحد أفضل أسباب تحفيز (هرمون المعانقة) أن تحضن شخصا ما حتى ولو كان شخصا غريبا. من نواحي بيولوجية ونفسية واجتماعية يفرز جسم الإنسان مركب الأوكسيتوسين كوسيلة لتعزيز العلاقات الاجتماعية بين الكائن الحي وما يحيط به من بشر وحتى الحيوانات ولهذا يمكن زيادة إفراز هذا الهرمون من خلال مداعبة قطتك المدللة.

هرمون الأوكسيتوسين هل هو عطر أم عقار

أحد أشهر الهرمونات الكيميائية الشائعة الذكر هو مركب الأدرنالين والذي من تأثيراته على الجهاز العصبي أنه يزيد التوتر ويقوي الاستعداد للمخاطر والحذر من الغرباء في المقابل نجد أن هرمون الأوكستوسين يقوم بعكس ذلك تماما فهو يساعد على الاسترخاء وهو يعزز العلاقات الاجتماعية وتقبل الآخرين ولهذا البعض يطلق عليه هرمون الثقة أو (الهرمون الاجتماعي) وبالتأكيد هو يحفز العلاقات الرومانسية والزوجية ولهذا لا غرو أن يلقب كذلك بكل بساطة بـ (هرمون الحب). وبالرغم من تعدد تسميات وتوصيفات هرمون الأوكستوسين كما لاحظنا إلا أن أغرب التسميات له وأكثرها إثارة للجدل تسمية الأوكستوسين بـ (الجزيء الأخلاقي the moral molecule). وهي التسمية التي أطلقها عليه عالم الاقتصاد العصبي الأمريكي باول زاك الذي طرح نظرية أن هذا الهرمون يجعل شعورنا تجاه الآخرين أكثر ثقة وأكثر تعاطفا وبالتالي أكثر سلوكا أخلاقيا بفضل مشاعر الفضيلة والثقة ومحبة الغير. في عام 2012م نشر باول زاك كتاب بيع على نطاق واسع على مستوى العالم (وأنا شخصيا اشتريت نسختي منه من مدينة سايغون الفيتنامية) حمل عنوان: الجزيء الأخلاقي وعنوانه الفرعي العلم الجديد لتحديد ما الذي يجعلنا صالحين أو أشرار. وبعد أن أشترك باول زاك مع مجموعة بحث طبية لتحليل مستوى المركب الكيميائي الأوكستوسين في دم مئات الأشخاص في حالات نفسية متعدد مثل حضور حفل زواج أو لعب الكرة أو القفز من الطائرة أو أثناء البيع والشراء توصل إلى أن إحدى أسهل الطرق لتحفيز إفراز الأوكستوسين في جسم الإنسان والتأثير على كيمياء الدماغ يمكن أن يتم بكل بساطة من خلال معانقة وحضن الآخرين. ولهذا أخذ باول زاك ينصح زملاءه ومشاهديه في البرامج التلفزيونية الحوارية التي يظهر فيها بأن يعانق الشخص الواحد منا الأفراد الآخرين حتى لو كانوا غرباء ثماني مرات على الأقل في اليوم لمدة ثلاثين ثانية في كل مرة حتى نحصل على كيمياء السعادة وبحكم إن باول زاك كان يطبق هذه النصيحة ويحرص على معانقة جميع من يقابله ولهذا لا غرابة أن الدكتور باول زاك أصبح يُلقّب بـ (دكتور الحب Dr Love).

في الواقع ما استلزم استحضار خبر الأحضان وكيمياء هرمونات السعادة أن يوم السبت الماضي كان يوافق (اليوم العالمي للمعانقة) والذي يُحتفل به سنويا في توقيت يوم 21 من شهر يناير وذلك منذ عام 1986 ميلادي. وفي الواقع يبدو أن الهدف الرئيس من تشجيع أخذ الآخرين بالأحضان ومبادرتهم بالعناق والطبطبة على ظهورهم هو أن ذلك وسيلة لتعزيز التجانس المجتمعي وتوثيق الأواصر الإنسانية وتبادل المشاعر الإيجابية. ومن الغريب أن هذا ما أثبته العلم والطب الحديث من أن المعانقة والأحضان بالفعل تزيد من مستويات هرمون الأوكستوسين في الدم الواصل للدماغ وبالتالي تعزيز محبة الآخرين وهذا موجود في شرعنا الحنيف من إباحة المعانقة والحث على المصافحة وما شابه ذلك من أمور إظهار المودة بين البشر. ومن الطرائف في موضوع أن مركب الأوكستوسين يشع ويبث (أجواء) المحبة والثقة في الآخرين أنه نتج عن ذلك أن من تقليعات الموضة الحديثة أن يستخدم بعضهم زجاجة عطر من نوع خاص تحتوي على كمية من مادة الأوكستوسين (هرمون الحب). وحاليا في الأسواق بإمكان الواحد منا شراء زجاجة عطر هرمون باريس بخلطة الأوكستوسين (Hormone Paris Oxytocin) والذي يباع بمبلغ 767 ريالا لمن يريد أن يخدع نفسه أنه بمثل هذه الرائحة الكيميائية التي تفوح منه سوف يكسب محبة الآخرين وثقتهم به.

وفي الختام نعود من الهزل إلى الجد لكي نؤكد أن هذا العقار السحري وهرمون المحبة وإكسير الثقة أي المركب الكيميائي المسمى (الأوكستوسين) هو أحد أبرز وأغرب المواد الكيميائية شبه المجهولة للغالبية العظمى منا بالرغم من دوره الفريد في بث سعادة البشر والمجتمعات. هل يمكن تخيل حياتنا من دون هذا الهرمون السعيد الذي يكون أعلى أفرز له في جسم الإنسان وقت قمة النشوة الجنسية أثناء الجماع وهو كذلك يتم إفرازه لكي يسهل ويسرع عملية الولادة ولاحقا إدرار حليب الأم ولهذا ربما يصح أن نضيف له لقب جديد (هرمون الأمومة). في عام 1906م عندما اكتشف العالم البريطاني السير هنري ديل مركب الأوكستوسين لأول مره لاحظ تأثيره على تقلص عضلات الرحم ولهذا أطلق عليها ذلك الاسم المشتق من كلمتين من اللغة اللاتينية تعني (الولادة السريعة oxus tokos). الجدير بالذكر أن السير هنري ديل حصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1936م على أبحاثه على مجموعة من المركبات الكيميائية المؤثرة على الجهاز العصبي (الناقلات العصبية) والتي منها الأوكستوسين. بينما في عام 1955م حصل عالم الكيمياء الأمريكي فنسنت دو فينيود على جائزة نوبل في الكيمياء نظير دراساته وابحاثه التي توصل من خلالها لتحديد طبيعة التركيب الكيميائي الجزيئي لمركب الأوكستوسين وكذلك تحضيره في المختبر وهذا أمر له فوائد طبية كبرى لأنه يعتبر عقار صيدلاني يستخدم في العديد من العلاجات الطبية، بل وحتى النفسية مثل مرض التوحد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق