الاثنين، 20 مارس 2023

( متاحف الشعراء والذاكرة الأدبية )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الشعر .. شكل من أشكال التذكر وهذه الملحوظة مقتبسة من مقولة الشاعر الأسكتلندي المعاصر دونالد باترسون: (القصيدة بمعنى ما هي ليست أكثر أو أقل من آلة صغيرة لتذكر نفسها .. وبالتالي فإن الشعر هو في الأساس عمل تذكاري). وبحكم إننا بعد حوالي يومين سوف نشترك جميعا في (تذكر) الشعر والشعراء بمناسبة حلول (اليوم العالمي للشعر) الذي يتوافق سنويا مع تاريخ 21 من شهر مارس ومع ذلك هل يمكن أن نقبل المبالغة الزائدة عن الحد في مقولة الناقد الأدبي والفيلسوف الإنجليزي القديم وليم هازلت عندما صرح بأن (الشعر هو كل ما يستحق تذكره في الحياة !!). تذكر الشعر والاحتفاء به حق واجب مستحق على كل مثقف وبالنسبة لي فهذه ثالثة مقالة ثقافية أخصصها عن الشعر والأدب بمناسبة إعلان وزارة الثقافة عن تخصص هذه السنة الحالية لتصبح (عام الشعر العربي 2023) وإن كنت أشعر بالغصة والاستغراب أنه حتى الآن لم (أشعر) بأي اهتمام ملموس (بالشعر) في سنة الشعر فها نحن ذا على مشارف نهاية الشهر الثالث من سنة الشعر ولا أثر للشعر والشعراء وهذا ما كنت أخشى منه عندما كتبت مقال (انحسار الشعر وأزمة القصيدة).

وما زاد في (استشعار) خفوت الاهتمام بالشعراء والشعر أنني في الأسبوع الماضي كنت في دولة أذربيجان ووجدت لذلك الشعب احتفاء واضحا بالشعر وأهل القصيدة ففي كل مدينة كبرى حديقة وشارع باسم الشاعر الأذري الكبير (نظامي الكنجوي) كما له العشرات من التماثيل والمجسمات وهو أمر يتكرر مع شعراء آخرين كثر لدرجة أن تم إطلاق اسم الشاعر (فضولي) على اسم مطار حديث في أذربيجان. أما أكثر ما لفت نظري لشدة تعلق وتقدير أهل أذربيجان بشعرائهم وأدبائهم أنه تم ومنذ حوالي قرن من الزمن تدشين (متحف خاص) للشعراء في قلب العاصمة الأذرية باكو. وذلك هو (متحف نظامي للأدب الأذري) والذي يقع في نهاية شارع نظامي التجاري والسياحي الشهير في العاصمة باكو وبالقرب من أسوار المدينة القديمة ويتميز ذلك المتحف بتصميم واجهاته الجميلة التي تحمل لوحات وتماثيل لعشرات الشعراء الأذربيجانيين.

من الأمور الشائعة في العديد من البلدان والمجتمعات وجود متحف مخصص لشاعر واحد أو أديب فرد، ولكن كانت تلك أول مرة أجد فيها متحفا ضخما وبديع التصميم مخصص لكوكبة من الشعراء ولذا هذا المتحف الذي تأسس في عام 1939م يعرف أحيانا باسم: (المتحف الوطني للأدب الأذربيجاني). وفي ضوء معرفة أنه هذا المتحف الشعري يحتوي على حوالي 120 ألف مادة أدبية معروضة أو مخزنة في هذا المتحف والذي يقوم كذلك بإجراء البحوث العلمية ونشر الكتب والدراسات عن الأدب الأذربيجاني، نعلم أنه تحققت على أرض الواقع مقولة الشاعر دونالد باترسون السالف الذكر عندما نطق فقال (الشعر في الأساس عمل تذكاري). وبمعرفة أن الشعر الأذري شديد الشبه بالذات بالشعر الفارسي لدرجة أن مخطوطات الملاحم الشعرية لأعمال الشاعر نظامي مثل شرين وخسرو وليلى والمجنون وإسكندرنامه مكتوبه باللغة الفارسية كما أن ثاني أشهر شاعر أذري هو فضالي يعرف كذلك بالشاعر البغدادي لأنه عاش في العراق وتوفي ودفن في كربلاء. وعليه تعجب من الأمة والشعب الأذري وشدة اعجابه تفاخره بالشعر والشعراء بالرغم من أن أصوله أدبه هجينة وليست نقيه وفي المقابل الشعر وأهل القصيد في علمنا العربي لا يحضون بمثل ذلك (التجسيد) للاحتفاء والاحتفال بالشعراء من خلال انشاء متاحف خاصة بهم تضمن تخليد ذاكرتهم الأدبية.

وعلى حد علمي أمثلة قليلة جدا يمكن ذكرها لمتاحف أدبية تم تدشينها لتخليد ذاكرة شعراء العربية ومع ذلك ينبغي التنبيه أن أغلب هذه المتاحف هي في الأصل تلك المنازل والبيوت التي كان يسكن بها هؤلاء الشعراء المحتفى بهم والقليل عددهم. فمثلا متحف أمير الشعراء أحمد شوقي هو في الأصل إعادة استخدام لمنزله الأنيق على كورنيش النيل بحي الجيزة المسمى كرمة ابن هانئ ولهذا لم يبذل جهد حقيقي في الاحتفاء بشاعر النيل غير المحافظة على مكتبته العامرة وأثاث منزله وبعض الصور ونماذج رسائله وقصائده الشعرية. وفي كثير من الحالات لا يكفي على الإطلاق تحويل منزل الشاعر إلى متحف وخذ على ذلك مثالا الشاعر بدر شاكر السيّاب أهم شاعر عراقي في زمننا المعاصر فكل الذي حصل عليه من الاحتفاء والاحتواء هو تحويل منزل عائلته في قرية جيكور جنوب البصرة إلى متحف بسيط. والمشكلة إن هذا المنزل عتيق جدا ومبني في الأصل من الطين ونظرا لحالة الفقر المدقع كان شبه خالي من الأثاث. ولهذا على خلاف متحف ومنزل أحمد شوقي الفخم على ضفاف النيل الذي يجذب الزائرين أصبح مصير متحف ومنزل بدر شاكر السيّاب الإهمال لأنه في منطقة معزولة ومنظره لا يسر الناظرين. وبدرجة أقل نجد أن منزل الشاعر العراقي المعاصر محمد مهدي الجواهري عندما حول إلى متحف يحتاج الزائر أن يمر بين أزقة ومتاهة شوارع منطقة الكرخ في بغداد حتى يصل إلى ذلك المنزل الصغير والبسيط. وما أود الوصول إليه أن أنشاء وبناء متحف كبير ومنظم على أحدث مستوى وذلك لتخليد ذاكرة لفيف وكوكبة من الشعراء والأدباء أفضل بكثير من مجرد اجتهادات مبسترة لمجرد تحويل منزل متواضع ومعزول لفرد واحد من الشعراء إلى متحف لا يلفت الأنظار ولا يجلب الزوار.

متاحف الشعراء .. التكريم الجماعي للأدب

توجد مشكلة أخرى في التوسع في تحويل منازل الشعراء والأدباء إلى متاحف وهي مشكلة التشتت والتكرار فعلى سبيل المثال شاعرنا الكبير السالف الذكر الجواهري له متحف الآن في بغداد وقد يظهر من يطالب بفتح متحف له في منزله الذي ولد فيه في مدينة النجف أو حتى في البيت الذي أقام فيه زمن النفي والتشريد عندما سحبت منه الجنسية العراقية وعاش ردحا من الزمن في مدينة دمشق التي توفي ودفن فيها. هذا فضلا عن أن الجواهري استقر لفترة طويلة في دولة التشيك وبالتأكيد يوجد بها سكن أو شقة يمكن أن نجد من يطالب بتحويلها يوما ما إلى متحف. للوهلة الأولى يبدو (السيناريو) السابق لتعدد وتكرر المتاحف لنفس الشاعر ضرب من الخيال المبالغ فيه، ولكن لننظر لواقع حال متاحف و(مزارات) الشاعر الإنجليزي البارز ت. س. إليوت. بحكم أن الشاعر إليوت الذي أبدع قصيدة (الأرض اليباب) والذي حصل على جائزة نوبل في الأدب يعتبر حتى الآن آخر شاعر عالمي بارز ومميز ولم يأت بعده من هو أكثر شهرة وأهمية منه لذا لا عجب أن نجد له العديد من المواقع والمباني المنسوبة له، بل إن مجرد زيارته لإيطاليا أو أقامته في إيرلندا أو دراسته في جامعة السوربون الفرنسية تعتبر مصدر فخر لتلك الدول. وبحكم إن  ت. س. إليوت هو في الأصل شاب أمريكي هاجر إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها وتوفي بها لذا نجد أن الأمريكان أكثر احتفاءً بأبنهم الشاعر وتذكير الجميع أنه ينتسب إليهم ولذا تحول المنزل الذي ولد فيه بمدينة سانت لويس الأمريكية إلى أحد المعالم التاريخية city landmark الرسمية للمدينة. بينما المنتجع والمنزل الصيفي لأسرة توماس إليوت والذي شهد مراحل مهمة من طفولة الشاعر، نجد هذا المنزل في مدينة غلوستر على الساحل الغربي لأمريكا تم تحويله إلى متحف لترسيخ وتخليد الارتباط بين هذا الشاعر البارز بين الأمة الأمريكية. أما الوضع في مدينة لندن التي هاجر إليه إليوت وتوفي بها فهي تحتضن المؤسسة الثقافية الخاصة به (T.S. Eliot Foundation) والتي من المحتمل أن تهتم في تحويل أحد المنازل أو الشقق التي تنقل للسكن بها في مدينة لندن إلى متحف خاص به بالرغم من أن هذه الشقق معروضة الآن للبيع بأسعار فلكية قد تصل إلى ستة ملايين دولار لا لشيء إلا أن هذا الشاعر البارز قد سكن فيها لفترة من الزمن.

أيه القارئ العزيز لعل الصورة الآن اتضحت والحُجة تأكدت أنه بدلا من تحويل منازل الشعراء إلى متاحف مبعثرة ربما من الأجدى والأذكى تشييد معالم عمرانية مركزية كبرى للأدب والشعراء تكون بمثابة متاحف ثقافية ومراكز بحثية لتخليد الذاكرة الشعرية خصوصا إذا كان الحديث عن جيل الرعيل الأول من رواد الشعر العربي الذين اندثرت منازلهم منذ قرون. صحيح أن بعض الدول الخليجية لها مبادرات ثقافية رائدة في خدمة الشعر والشعراء ونخص بالذكر هنا الوجيه الكويتي سعود البابطين صاحب الصرح الضخم (مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي) ومؤسسة سعود البابطين الثقافية التي تمنح عددا من جوائز الإبداع الشعري هذا بالإضافة لمجالس الشعراء المسماة (بيت الشعر) الموجودة في مدينة دبي وأبوظبي والشارقة، ومع ذلك الحاجة ما زالت ماسه لدينا في الخليج وفي كل الدول العربية لتدشين (متاحف الشعراء).

وبحكم أن أقطاب الشعر الأموي مثل جرير والفرزدق والأخطل اشتهروا بأنهم (شعراء النقائض) لأن شعر الهجاء الذي كان يقع بينهم كان يتم في الغالب في ساحة سوق المربد في مدينة البصرة ولذا نقترح على وزارة الثقافة العراقية أن تطرح مبادرة أنشاء متحف خاص لفحول الشعر الأموي يحمل اسم (متحف شعر النقائض) يتم بنائه في مدينة البصرة. وعلى نفس النسق وبحكم أننا في عام الشعر العربي يا حبذا من ينبري لتنبي فكرة تدشين متحف أدبي في سوق عكاظ بضواحي مدينة الطائف يحمل عنوان (متحف المعلقات العشر). أما منطقة الحجاز فلها ارتباط راسخ مع الشعر العربي الأصيل والفضيل ولذا يمكن اقتراح إقامة صرح ثقافي في المدينة المنورة يحمل مسمى متحف (شعراء حول الرسول) علما بأن أغلب شعراء الرسول كانوا من الأنصار رضي الله عنهم. ونجد منطقة الحجاز هي كذلك الموقع الجغرافي لتحركات شعراء الغزل العفيف من مثل قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وكثير عزة وجميل بثينة لذا لعلنا نجد ذلك مسوغ مقبول لطرح مطلب إنشاء (متحف الشعر العذري) في المدينة المنورة مرة أخرى. ولعل الفكرة اتضحت بالمقصود من مقترح افتتاح (متاحف الشعراء) المختلفة الأنواع والأفكار وسوف أتوقف هنا قبل أن ادخل في دوامة اقترح مكان ملائم لاحتضان موقع (متحف شعراء الصعاليك) خوفا من أن أتسبب في إهانة غير مقصودة والله يعلم لأي طرف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق