الأحد، 10 ديسمبر 2023

( نجم سهيل وأساطير الليل )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 ها قد مر أكثر من أسبوع على ظهور نجم سهيل وبالفعل بدأنا ولله الحمد نتلمس بداية برد الأجواء في المساء مما يثبت تجدد المقولة الدارجة (إذا طلع سهيل طاب الليل) فمنذ فجر الإنسان العربي في جاهليته القديمة كان ظهور نوء نجم سهيل بشارة وأمل بسهولة وطيب العيش بعد انكسار شدة الحر. ولقد بالغ بعض الشعراء بالفرح و(التفاؤل) بحلول نجم سهيل حتى في أحلك الليالي ظلمة وأشد الأوقات كربه مثل أن يكون الشخص في سياق الموت والفناء. فكم هو مشهور بيت الشعر الذي قاله الشاعر مالك بن الريب وهو في الرمق الأخير من الحياة:

ولمّا تراءت عند مروٍ منيتي        وخَلَّ بها جسمي وحانت وفاتيا

أقول لأصحابي أرفعوني فإنهُ      يَقَرُّ بعيني أن (سُهيلٌ) بَدا لِيا

 وغريب ثنائية التفاؤل والبشارة الممتزجة مع الموت والفناء أثناء ذكر نجم سهيل فليس فقط شاعرنا الغريب عن الديار والفارس الغازي في جيش الخليفة عثمان بن عفان هو من سوف يتوفى بعد طلوع نجم سهيل وذلك بعد أن لدغته أفعى في أرض خرسان. فكذلك في الأساطير اليونانية القديمة نجد أن سهيل الإغريقي عندهم هو كانوبوس قائد إحدى السفن الحربية التي ورد ذكرها في ملحمة الإلياذة والفارس الغازي في جيش مينيلاوس ملك إسبارطة وكذلك كان مصيرة أن يموت جراء لدغة أفعى في أرض غريبة ولكن في مصر هذه المرة.

على كل حال بعد هذا الاستطراد الجانبي التاريخي نرجع ونقول بأن العرب منذ القدم تربط نجم سهيل بالرخاء والخير ولكن كذلك بالخراب والهلاك ولذا قيل: إذا طلع سهيل برد الليل وخيف السيل (ونزل على أم الحوار الويل) والمقصود أنه في زمن تغير الأجواء تتعرض صغار الحيوانات ومنها ولد الناقة (أي الحُوَار أو الفَصيل) للمرض وربما الموت. ولذا على خلاف بيت الشعر الراقي والأنيق لمالك بن الريب نجد أن المتنبي في بيت شعر مسف يقول في آخر قصيدة يعتب فيها على ابن إسحاق التنوخي:

وتُنكر موتهم وأنا سُهيلٌ     طَلعت بموتِ أولاد الزناءِ

 فالمتنبي يقول للتنوخي كما وضّح ذلك المعري في كتابه شرح ديوان المتنبي (معجز أحمد): أتنكر موت حسادي إذا رأوني وأنا سهيل اليماني الذي بطلوعي تموت أولاد الزناء. وذلك أن العرب تزعم أن ما نتج من أمهات الخيل إذا ضرب الفحل أمه من دون إذن صاحبه فإنه يموت إذا طلع سهيل، فكذلك يموت الحساد بسببي.

الغريب في الأمر أن نجم سهيل يعرف في علم الفلك الصيني باسم (تيانجي Tain Ji) والذي يعني قاضي تقدير عمر الحيوانات وعليه انقضاء العمر يعني الموت وهذا يعزز فكرة أن ظهور سهيل مرتبط أحيانا بالويل والثبور لصغار الحيوانات: إذا طلع سهيل وبرد الليل (وللفصيل الويل) وذلك إما بمرضه أو أنه يفطم عن الرضاعة. وهنا يتبلور التناقض ويتضح فظهور وطلوع نجم سهيل قد يكون فأل حسن ودلالة خير وقد يكون خلاف ذلك أي أنه نذير شر بانتشار وباء يقتل صغار الحيوانات ولهذا يعتبر ظهور سهيل عند بعض الشعوب البدائية الأفريقية نذير شؤم فهو توقيت هبوب الرياح العاتية أو انتشار الحشرات والنمل وهو عند الفراعنة القدماء موعد لفيضان النيل وهذا يؤكد مقولة وحكمة (إذا طلع سهيل لا تأمن السيل).

 خرافة سهيل وبنات نعش

وبعد تلك المقدمة وذاك المدخل عن ثنائية التفاؤل والشؤم مع ظهور نجم سهيل لعلنا نعرج على الأساطير العربية القديمة المرتبطة بنجم سهيل وارتباطه العجيب وفق تلك المرويات الشعبية بالمجاميع النجمية الأخرى. في الواقع الناظر في الليل لنجوم السماء يجد أن أهم تلك النجوم على الإطلاق مثل نجوم الجوزاء (كوكبة الجبار) والشعرى (الشامية) والثريا والتوأمان تتواجد بكثافة في وسط السماء وأما في الشمال فنجد كوكبة الدب الأكبر والدب الأصغر والنجم القطبي وكوكبة الجدي ونجمي الفرقدان. وفي مقابل هذه (الحشود) النجمية الكثيفة والمتداخلة نجد أن موقع نجم سهيل فريد ومميز فهو يقع في أقصى جنوب قبة السماء ولهذا يطلق عليه أحيانا (سهيل اليماني) لأنه أول ما يظهر من أقصى جنوب الجزيرة العربية من جهة اليمن ثم يرتفع بالتدريج مع توالي الليالي والأيام. والمقصود أن للرجل العربي القديم فإن موقع نجم سهيل كان محيرا وغريب وكأنه (معزول) عن بقية نجوم السماء فهل هو هارب أو هو طريد ومشرد.

وهنا يتفتق ذهن قدماء العرب عن عدد من الأساطير والخرافات والمرويات الشعبية التي تحاول (أنسنة) نجوم السماء وتحيك وتحبك القصص والحكايا عنها. في وقتنا الحالي يعتبر نجم سهيل من أكثر معالم السماء شعبية وجماهرية ومحبة، ولكن في القديم الجاهلي كان سهيل مرتبط أكثر بالخزي والعار والقتل والفرار. ولذا من أشهر الأساطير المروية عن سبب عزلة سهيل عن بقية نجوم السماء أنه يقال بأن (سهيل) قام بقتل نجم يدعى (نعش) وحيث أنه كان له سبع من البنات فقد أقسمن ألا يدفن والدهن نعشاً حتى يأخذن بثأره من قاتله سهيل. وهنا تتضح محاولة تفسير انعزال نجم سهيل عن بقية نجوم قبة السماء فهو أصبح طريدا شريدا وهاربا من (بنات نعش) السبع الاتي انقسمن إلى قسمين، أربع منهن يحملن نعش والدهن بينما تشيع الثلاث الأخريات ذاك النعش ويمشين خلفه.

في الواقع المجموعة النجمية المعروفة باسم الدب الأكبر تسمى كذلك (كوكبة بنات نعش) وكمحاولة لتفسير شكل تلك الكوكبة التي تأخذ هيئة المغرفة حيث نجد لها أربع نجوم تشكل هيئة المربع (أو النعش) بينما ذراع المغرفة المنحنى قليلا في الأعلى يقال إنهم البنات الثلاث المشيعات للنعش واللاتي يمشين خلفه ولذا زعموا أن الأولى من الثلاث حبلى والثانية برفقة طفل صغير والانحناء في طرف ذراع المغرفة بسبب ان الأبنة الثالثة هي عرجاء وتمشي ببطء.

تجدر الإشارة إلى أن المخيلة العربية القديمة اختلقت ورسمت أسطورة بديلة للنجم سهيل مشابهة بعض الشي لما سبق ولكن مع بعض الاختلافات الطفيفة. فبدلا من أن يكون محور القصة فقط نجوم الدب الأكبر نجد كذلك حضور لكوكبة الدب الأصغر ممثله في أهم وأشهر نجوم السماء على الإطلاق أي النجم القطبي أو نجم الشمال والذي يعرف كذلك بنجم الجدي. ومن التعديلات في القصة البديلة أن من قتل (نعش) ليس النجم سهيل ولكن نجم الجدي وبدلا من أن نجد بنات نعش السبع يطاردن نجم سهيل عوضا عن ذلك هن يدرن ويطفّن حول نجم الجدي (النجم القطبي كما هو معلوم ثابت في السماء وتبدو بقية النجوم وكأنها تدور حوله) ويحاولن الإمساك به لأخذ الثأر منه. أما دور النجم سهيل في القصة فيظهر عندما يستنجد به نجم الجدي ويطلب مساعدته ضد بنات نعش السبع اللاتي يردن قتله وهنا يفزع سهيل لنجدة صديقة نجم الجدي ولكنه أثناء انتقاله من أقصى الجنوب إلى منتصف قبة السماء يقوم بشكل متعمد بشق قربته ولذا يتناثر الماء على هيئة مطر. وبعدها يرسل نجم سهيل رسالة اعتذار لصديقة نجم الجدي يخبره فيها أنه اضطر للرجوع إلى موطنه في الجنوب لكي يتزود بالماء وسوف يأتيه وينجده في العام القادم وهكذا تمر السنين ولا ينفع في الحقيقة نجم الجدي ويحميه من بنات نعش إلا مساعدة نجمي الفرقدان ومن وحي هذه القصة ظهر المثل السائر (فزعة سهيل للجدي) دلالة على الوعود الكاذبة والصداقة الزائفة.

 سهيل ونساء النجوم: الجوزاء والشعرى والثريا

ومن الخيال المجنح في حبك العلاقة بين نجم سهيل وكوكبة نجوم الدب الأكبر والدب الأصغر ونجم الشمال ننتقل الآن لذكر الأساطير الشعبية الشيقة في ربط مأساة نجم سهيل بالفاجعة المتخيلة لنجوم السماء المشهورة من مثل نجمة الشعرى اليمانية أو نجوم الثريا وأيضا نجوم الجوزاء.  ومرة أخرى نجد أن أنسنة نجوم السماء تظهر نجم سهيل في مظهر سيء فهو قاتل وعنيف مع زوجته كما كان قاتل مع أبو (بنات نعش) وهنا نجد أن الأسطورة الثالثة تدور حول قيام النجم سهيل بعشق واختطاف (الجوزاء) وإجبارها على الزوج منه. وبعد ذلك الزواج بالإكراه تختلف الروايات الشعبية فمن قائل إن سهيلا بعد اختلاف وخصام مع الجوزاء ضربها فكسر فقرات ظهرها ومن قائل إن سهيلا قتل الجوزاء جراء نوبة غيرة عليها. وبغض النظر عن سبب الخصام ونتائجه (وهل كانت الزوجة هي الجوزاء أم الثريا) نجد أن نجم سهيل يلوذ بالفرار والهرب، ولكن هذه المرة ليس فقط خوفا من نجوم الدب الأكبر ولكن بصحبة نجمة من كوكبة الكلب الأكبر إلا وهي نجمة (الشعرى اليمانية).

زعموا أنه كان لنجم سهيل شقيقتان هما الشعرى اليمانية والشعرى الشامية وعندما هرب سهيل خوفا من الثأر بعد قتله للجوزاء وفرّ إلى أقصى جنوب قبة السماء بعد أن عبر نهر مجرة درب التبانة. وعليه عندما لحقت به أختاه استطاعت فقط الشعرى اليمانية أن تعبر نهر المجرة وتصل للجنوب (ولذا سميت الشعرى اليمانية أو الشعرى العبور) في حين كانت الأخرى ضعيفة ولم تستطع العبور فجلست عند الضفة الشمالية فسيمت بالشعرى الشامية ونظرا لأنها أحست بالحزن لفراق أخويها فظلت تبكي حتى غمصت عينيها وضعف لمعان تألقها فسميت (الشعرى الغميصاء).

وكما سبق وأن لمحنا بأن هذه الأسطورة تحكي أحداثها بين نجم سهيل والثريا بدلا من الجوزاء ولذا نفس تلك القصة أختصرها الشاعر الأعيمى الأندلسي حيث ساق في إحدى قصائده خبر عشق سهيل والثريا وافتراقهما وخبر انفصال الأختين:

وطالَ ثواءُ الفرقدين بغبطةٍ               أما علما أن سوفَ يفترقانِ

وزايلَ بين الشعريين مُصرّفٌ            من الدهر لا وانٍ ولا مُتوانِ

فإن تذهبِ الشّعرى العبورُ لشأنها        فإن الغُميصا في بقيّةِ شانِ

وجُنَّ سُهيلٌ بالثريّا جنونَهُ                  ولكنْ سلاهُ كيف يلتقيانِ

وهيهاتِ من جورِ القضاءِ وعدْلهِ         شآميةٌ ألوتْ بِدَيْنِ يماني

 بالمناسبة عجز بيت الشعر الأخير (شآمية ألوت بدين يماني) تعزز تأكيد حقيقة أنه كما كانت العقلية والمخيلة العربية القديمة قابلة لتوليد الأساطير الشيقة والإبداعية التي تربط بين نجوم السماء، فكذلك الذائقة الشعرية الرفيعة يمكن أن تبدع ابيات شعرية لطيفة وذكية. يقال انه في زمن الشاعر الأموي عمر بن ابي ربيعة انه عاصر زواج وقع بين رجل يدعى (سهيل) بن عبدالرحمن بن عوف وبين امرأة تدعى (الثريا) بنت علي بن أمية ونظرا للتفاوت بين الزوج وزوجته في الحسن والجمال كتفاوت المسافة في قبة السماء بين نجم سهيل في الجنوب ونجم الثريا في الشمال ولذا كانت تلك الأبيات الذكية واللطيفة:

ايُّها المُنكحُ الثُريّا سُهيلاً        عَمركَ الله كيفَ يلتقيانِ

هي شاميّةٌ إذا ما استقلت        وسُهيلٌ إذا استقل يماني

 وبقي أن نقول إن كان التقاء النجم الشامي بالنجم اليماني مستغربا ومستبعدا كما يعتقد عمر بن أبي ربيعة ومع ذلك يمكن بالفعل أن يتقارب نجم يماني مع نجم عراقي هذه المرة. في علم الفلك يستحيل اقتران نجم سهيل بنجم الثريا ولكن في المقابل نجد أن (تقارب) وأحيانا تزامن ظهور نجم سهيل مع كوكب الزهرة (نجمة الصباح) قبل شروق الشمس تسبب في المزيد من الأساطير. في بلاد الرافدين تعتبر عشتار إلهة الجمال والفتنة هي نجمة الصباح والمساء وهي أيضا كوكب الزهرة ولذا إحدى المرويات القديمة تزعم أن النجم سهيل طلع بأرض العراق والتقى بالزهرة فضحكت إليه وقالت: ألست الذي يقال فيك إنك كنت عشّارا (أي صاحب المُكس ومحصل الضرائب) فمسخك الله شهابا عقوبة لك. فما كان جواب ذلك العشّار لتلك العِشتار إلا أن رد بقوله: ليس كل ما يقول الناس حقاً، فقد قالوا فيك إنك كنت امرأة فاجرة فمسخك الله كوكبا مضيئاً.

حقاً وصدقاً النجوم والأنواء ليس لها أثر في المطر أو تغير الأجواء فنحن نمطر بفضل الله ورحمته وليس بفضل نوء كذا وكذا ومع ذلك من ناحية المتعة الأدبية المحضة ما زال للأساطير العربية والمرويات التراثية المتعلقة بنجوم السماء وكواكب الأبراج قصصها الشيقة وأخبارها الحكيمة التي تقارب في جمالها أساطير الإغريق عن نجوم كوكبة الجبار أورايون والمرأة المسلسلة أندروميدا أو أسطورة الصياد والعقرب وبرج القوس.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق