الأحد، 10 ديسمبر 2023

( محو الأمية أو نحو الأمية !! )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في الغالبية العظمى من دول العالم (باستثناء الدول التي تقع في نصف الكرة الأرضية الجنوبي) تبدأ الدراسة والسنة الأكاديمية الجديدة مع مطلع شهر سبتمبر ولهذا أرتبط هذا الشهر بالذات بالتعليم والتدريس و(المعرفة). ولذا لم يكن من المستغرب أن يكون كذلك يوم أمس الجمعة الموافق للثامن من شهر سبتمبر هو (اليوم العالمي لمحو الأمية) في حين أنه في الولايات المتحدة يعتبر يوم السادس من شهر سبتمبر اليوم الوطني لقراءة الكتاب (National Read A Book Day). بالرغم من أن المدرسة قد تعلم أساسيات أبجدية القراءة والكتابة (بمعنى أنها تمحو الأمية) ولكن للأسف مع تزايد الشكوى من ضعف جودة التعليم أصبحت المنظومة التعليمة تساهم في المزيد من (نحو الأمية) فيما يخص المعرفة والثقافة. ولهذا تبرز أهمية المكتبة والكتاب ومصادر المعلومات الحديثة في تعزيز الرقي المعرفي والرسوخ الثقافي الذي لا تحققه المدرسة في الغالب ولهذا منذ أكثر من قرن من الزمن أطلقها صريحة الأديب الأمريكي مارك توين عندما قال (لم أسمح قط لتعليمي الدراسي أن يشوش على ثقافتي).

من الأقوال والعبارات القاسية التي يتم استحضارها أحيانا للطعن والاستنقاص من دور المنظومة التعليمية مقولة بيرتراند راسل (علم الرياضيات والفيلسوف الإنجليزي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب) في نقد التعليم الإنجليزي القديم على عراقته المشهورة ومع ذلك قال عنه (يولد البشر جاهلين، ولكنهم لا يولدون أغبياء، ثم يصبحون أغبياء بفضل التعليم). قبل عدة سنوات نشر كاتب أمريكي يدعى آلان كارون مقالا في إحدى الصحف الأمريكية يحذر من مغبة نتائج ضعف التعليم في أمريكا وأنه يقود إلى موجه من (صعود الغباء The rise of stupidity) في المجتمع الأمريكي. وهو بهذا يذكر بالتقرير الشهير قبل عقود عن تدهور التعليم في أمريكا (تقرير: أمة في خطر) وحيث إن الأمر ازداد تدهورا مع الزمن لهذا لا غرابة أن تُنشر في أمريكا كتب صادمة تحمل عناوين: (أمريكا الحمقاء Idiot America) أو كتاب (الجيل الأغبى The Dumbest Generation).

وإذا كانت مستويات التعليم في الدول المتقدمة تراجعت بشكل ربما أثر على مهارات التفكير لدى تلاميذ تلك الدول فينبغي التنبيه إلى أن حال التعليم الحالي في العالم العربي أسوء وأشنع. العديد من التقارير الدولية (مثل تقرير منظمة اليونيسف أو تقارير منتدى دافوس) والتصنيفات العالمية (مثل الترتيب العالمي للتعليم الذي تنشره منظمة اليونيسكو أو اختبار TIMSS) كلها تشير للتدهور المريع في جودة التدريس والتحصيل التعليمي في وقعنا العربي. بكل الصدق منذ عقود طويلة كان من المفترض أن نتخطى مرحلة الاكتفاء بتحقيق هدف أن يستطيع الطالب في الصفوف الأولى (أن يفك الخط) فهذا المقدار والمستوى من (محو الأمية) تخطاه الزمن لمن هم في عصر (الذكاء الاصطناعي). التعليم المهزوز الأركان التربوية والأسس الفكرية والذهنية cognitive قد يحقق الحد الأدنى من محو الأمية (فك الخط) لكنه قد يقود نحو (الأمية السلوكية) ورديفتها (الأمية المعرفية).

 أرقام الأمية الرقمية

بعد ثلاث سنوات فقط من إنشاء وزارة المعارف في عهد الملك سعود أي بالتحديد في عام 1376 هجري (1956م) تم تدشين إدارة خاصة بتعليم الكبار ومحو الأمية حملت اسما مميزا (إدارة الثقافة الشعبية) وهو انعكاس للوعي الراقي من وزارة (المعارف) في ذلك الزمن بأن الثقافة لا تقل أهمية عن التعليم. وخلال تلك السنوات المتطاولة انخفضت نسبة الأمية في المجتمع السعودي لتصبح الآن ولله الحمد في حدود %3.7 أغلبها من فئة كبار السن والمعمرين في حين كانت نسبة الالتحاق بالمدرسة للأطفال تقارب 99 بالمائة. وهذا يعني أنه خلال السنوات القادمة يمكن أن يقوم البعض منا بحماقة الاحتفال بوفاة آخر رجل أمي أو آخر امرأة أمية في مجتمعنا المحلي كما احتفلت السويد عام 2008م بوفاة آخر شخص أمي من شعبها. وعليه أتوقع انحسارا كبيرا لأهمية (محو الأمية) التقليدية في أنظمة وزارة التعليم في المدى المنظور وذلك لكي تتحول الجهود والميزانيات المالية من محو أمية (فك الخط) إلى تقليص الفجوة في أنواع متزايدة متعددة من (الأميات) المرتبطة بالتقنية الحديثة.

ربما جميعنا سمعنا بالمصطلحات الجديدة مثل (الأمية الرقمية) ومفهوم (الأمية المعلوماتية) وأمية استخدام الحاسوب والإنترنت فضلا عن أمية الأمن السيبراني وأمية فضاء الشبكات المحوسبة وطبعا النجم الجديد: أمية الذكاء الاصطناعي. وإذا كان واقعنا المحلي مشرفا جدا في مجال مكافحة ومحو الأمية (الأبجدية أو فك الخط) والتي انخفضت إلى نسبة %3.7 لكن للأسف فإن الحال مختلف بشكل مقلق فيما يتعلق بالأمية الرقمية والتي تبلغ تقريبا عشرة أضعاف الأمية الأبجدية. على الصفحة الرسمية لمنصة المشاركة الإلكترونية ترد معلومة أنه وفق تقرير التنافسية العالمية المنشور في المنتدى الاقتصادي العالمي 2020م وبحسب بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2019م فإن نسبة %68 من الأفراد في المملكة لديهم المهارات الأساسية لتقنية المعلومات والاتصالات. وحسب مبدأ مفهوم المخالفة فهذا يعني أن %32 من أفراد المجتمع السعودي لديهم (أمية رقمية) حيث إنهم لا يمتلكون الحد الأدنى من المهارات الأساسية لتقنية المعلومات والاتصالات (يمكن تسميتها أمية تقنية المعلومات IT illiteracy).

المزعج في الأمر أنه لإدراك أبعاد مشكلة الأمية الرقمية أو الأمية المعلوماتية ينبغي أن ننتبه أنه لا يكفي أن يستطيع الواحد منا تشغيل أجهزة الحاسوب والتعامل مع شبكة الإنترنت واستخدام الجولات الذكية في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. وبحكم اهتمام اليونيسكو بالتعليم (اسمها الرسمي: منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) فقد أصدرت عام 2018م تعريفها الرسمي لمفهوم الأمية الرقمية وأنها (عدم القدرة على الوصول إلى المعلومات الإلكترونية وإدارتها وفهمها ودمجها والتواصل بها وتقييمها وإنشاءها بشكل آمن). ومن ذلك التعريف (المزيد والمنقح) لمفهوم الأمية الرقمية يتبين لنا أن التحدي لمحو ومكافحة تلك الأمية الرقمية والمعلوماتية بالقطع سوف يزداد صعوبة في المستقبل المنظور وذلك لتزايد وتشعب التقنيات الرقمية الجديدة التي تتطور مع الزمن مثل التخزين السحابي والبيانات الضخمة Big Data وعلم التشفير وتقنية إنترنت الأشياء IOT والذكاء الاصطناعي ونظم الأتمتة (Automation) وغير ذلك. وبسب القصور الواضح في المنظومة التعليمية الحالية في تأمين حد الكفاية لمحو الأمية الثقافية من المتوقع كذلك ألا تتمكن مناهجنا الدراسية وتقنيات التعليم المستخدمة في مدارسنا من مواكبة التطور التقني والمعلوماتي الهائل فهل نحن بالفعل على مشارف (نحو أمية رقمية).

وعلى كل حال لا أعلم هل القارئ الكريم انتبه عند ورود التعريف المطول من قبل اليونيسكو لمفهوم الأمية الرقمية لمصطلح (دمج integrate) المعلومات الإلكترونية فأنا شخصيا لا أعلم ما هو المقصود بذلك وعليه أنا في هذه (الجزئية) جاهل ومصاب بالأمية الرقمية. وبالرغم من أنني أجهل مدى خطورة أميتي في هذا الشأن (دمج المعلومات الإلكترونية) إلا أنني لا أشعر بالقلق من هذه الأمية الموهومة قدر قلقي الشديد من أمية أكثر خطورة وأكثر انتشارا. في العقود الزمنية الماضية تزايدت وانتشرت بشكل هائل ومفزع جديد من التحايل والسرقة يعرف باسم (الجرائم الإلكترونية). وهنا تظهر خطورة انتشار (أمية الأمن السيبراني) وأنه بسبب الجهل أو الضعف في أساسيات حماية الحسابات الإلكترونية الشخصية أو الأنظمة والشبكات أو البرامج والتطبيقات ضد الهجمات الرقمية المنظمة أو محاولات الاختراق الأمني من قبل (الهاكرز) والمحتالين، فإن كل ذلك سوف يتسبب في عواقب وخيمة اقتصادية وأمنية واجتماعية ونفسية.

 المفزع فيما يتعلق بالجرائم السيبرانية (cyber crimes) أن الإحصائيات تشير إلى تعرض أكثر من بليون حساب بريد إلكتروني لمحاولة الاختراق من قبل الهاكر، وأن واحدا من كل اثنين من مستخدمي الإنترنت في أمريكا تعرضت حساباتهم للاختراق، وأن متوسط خسائر الشركات الأمريكية من الجرائم الإلكترونية قد يصل لحوالي أربعة ملايين دولار لكل شركة. المريع حقا ليس فقط أن هذه الجرائم السيبرانية تقع بكثرة هائلة في أكثر بلدان العالم تطورا من الناحية التقنية الرقمية، ولكن أيضا لأن النصائح التي تذكر للأشخاص (العاديين) لمحو أميتهم السيبرانية تقول التالي: (يجب على المستخدم للفضاء السيبراني أن يكون قادرا على فتح نافذة أو أي أداة نظام أخرى وذلك لكي يدخل أوامر التحقق من حالة الشبكة مثل ما إذا كان الحاسوب لديه عنوان IP صالح وبوابة افتراضية أو تشغيل برنامج ping لاختبار اتصال الشبكة). وهنا يجب أن أعترف بكل شفافية وصدق أنني لم أفهم أي شي من تلك العبارة المفترض فيها أن تعطي إرشاد وتوعية للأشخاص (غير المتخصصين في تقنية المعلومات) عن كيفية حماية بياناتهم الرقمية.

من هذا وذاك لعله اتضحت فكرة هذا المقال إنه كما يقال (لكل زمان دولةٌ ورجال) فكذلك لكل زمان (أُميّته) ولذا ونحن في عصر الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لا يصح أن نكتفي فقط بالاحتفال السنوي بيوم محو الأمية الأبجدية بينما أغلبنا يتجه بسرعة متزايدة نحو الأمية الرقمية والجاهلية المعلوماتية !!.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق