الأحد، 10 ديسمبر 2023

( زيارة لحارة اليهود )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في تاريخ العلوم الجيوسياسية تغيرت منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط بشكل هائل في عام 1948م وذلك بعد الإعلان الأثيم عن ولادة الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي وعليه تغير شكل الخارطة الجغرافية. وفي نفس التوقيت وفيما يخص الديموغرافيا السياسية حصل تغيرا كبيرا في طبيعة التركيبة السكانية لأهل المنطقة نتيجة للأحداث السياسية والصراعات المسلحة التي أفرزت الهجرة والهجرة المعاكسة.

كلنا يعلم بأن (التغريبة الفلسطينية) الأليمة حصلت أثناء حرب 48 عندما قامت عصابات الهاجاناه الصهيونية بترويع سكان المدن والقرى الفلسطينية ودفعهم للهجرة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ودول الطوق العربي. ولكن في الواقع نغفل أحيانا بأن عملية تهجير العرب في (التغريبة الفلسطينية) كانت تقريبا متزامنة مع هجرة معاكسة لليهود من الدول العربية إلى الكيان الإسرائيلي فيما عرف باسم هجرة (الخروج الثاني لليهود Second Jewish Exodus). ويقصد بذلك تكرار هجرة وخروج اليهود من أرض مصر إلى أرض فلسطين كما حصل في زمن نبي الله موسى عليه السلام في الهجرة الأول وإن عملية الإبعاد والتهجير للجاليات اليهودية المقيمة في الدول العربية بعد حرب 48 وكأنها الهجرة الثانية لليهود.

الغريب في الأمر أن الهجرة العربية والهجرة المضادة العبرية التي حصلت بعد عام 1948م لها أعداد متقاربة فالتقديرات التاريخية تشير إلى أن حوالي 700 ألف عربي ممن خرجوا من فلسطين أصبحوا لاجئين في الدول العربية وفي المقابل حوالي 800 ألف يهودي تم تهجيرهم من الدول العربية إلى أرض فلسطين بالدرجة الأولى.

في الواقع وفي غفلة من الشعوب العربية وبمؤامرة دنيئة من الدول الاستعمارية التي كانت تحتل أغلب بلدان المنطقة حتى إلى ما بعد منتصف القرن العشرين، في هذه الأجواء من حالة الضياع العربي حصلت عملية تهجير (اليهود العرب) إلى أرض فلسطين. وفي الوقت الذي حصل التخاذل من قبل الأنظمة العربية في إيقاف تهجير الشعب الفلسطيني نجد أن بعضها يتعاون أو يغض النظر عن عملية هجرة اليهودي إلى فلسطين مثل عملية الإخلاء التي نفذتها الوكالة اليهودية عام 1949م لتهجير حوالي 50 ألفا من يهود اليمن. مؤامر عجيبة كأنها من نسج الخيال تلك التي نفذتها الصهيونية واشترك فيها الاحتلال الإنجليزي في عدن وبمباركة من حاكم اليمن الإمام أحمد بن حميد الدين بتسهيل تهجير يهود اليمن إلى أرض فلسطين ولهذا لا غرابة أن نعلم أن تلك الحادثة حملت اسم (عملية بساط الريح).

والأغرب من ذلك أن (الذاكرة الجمعية) للأمة العربية تلاشى منها بشكل شبه كامل أخبار تهجير أو خروج exodus مئات الآلاف من اليهود العرب إلى أرض فلسطين

لدرجة أنه من المحتمل أن عملية (عزرا ونحميا) ساهمت في نقل حوالي 120 ألف يهودي عراقي إلى أرض فلسطين. وكأنهم بذلك يكررون عودة اليهود من العراق إلى فلسطين كما حصل في زمن الملك الفارسي قورش الأول في القرن الخامس قبل الميلاد عندما سُمح ليهود السبي البابلي بالعودة إلى وطنهم الأم وبحكم أن تلك الهجرة القديمة قام رجلان اسمهما عزرا ونحميا بقيادة الشعب اليهودي من العراق إلى فلسطين فلهذا تم تسمية عملية التهجير والتسفير اليهودية باسميهما. وكما ساعد وسهل الاحتلال الإنجليزي لليمن والعراق ومصر في هجرة اليهود العرب إلى أرض فلسطين سهل كذلك الاحتلال الفرنسي هجرة يهود المغرب والجزائر وتونس إلى أرض فلسطين لدرجة أنه يقال بأن الجزائر كان بها حوالي 140 ألف يهودي لم يبق منهم إلا أقل من خمسين شخصا.

صحيح أن اليهود العرب ما زال يمكن مشاهدتهم في جزيرة جربة التونسية أو في حي الملاح (الدرب اليهودي) في مدينة الدار البيضاء المغربية ولكن في الواقع عدد اليهود التوانسة أو اليهود المغاربة لا يزيد عن ألفي شخص في كل دولة. وفي المقابل تلاش اليهود بشكل كلي تماما من أغلب الدول العربية لدرجة انه أصبح من المستغرب الآن أن نعلم بأنه كان في السابق يوجد يهود عراقيون أو سوريون أو ليبيون فضلا عن وجود يهود كويتيون أو بحارنة أو عمانيون. بالمناسبة حتى زمن ليس بالبعيد كان يوجد في منطقتنا المحلية مجموعة من اليهود في منطقة الأحساء واستمر وجودهم حتى عام 1913م أي زمن ضم ذلك الإقليم للدولة السعودية الثالثة. ولعشاق الأدب توجد رواية عنوانها (الليدي تالين) للكاتب السعودي فوزي صادق محور أحداثها الرئيس عن يهود الأحساء وهم عبارة عن بعض عشرات من العوائل اليهودية التي كان تسكن في منطقة السنود في وسط مدينة الهفوف ولهذا كانت تلك المنطقة قديما تعرف باسم (حارة اليهود).

اليهودي العربي من جار إلى عدو

في حين أن رواية (الليدي تاين) الصادرة عام 2015م هي تقريبا أحدث رواية عربية تدور أحداثها ضمن (حارة اليهود) نجد أن إحدى أقدم الروايات العربية التي ارتبطت بحارة اليهود كان بالفعل عنونها المباشر (حارة اليهود) وهي رواية الأديب المصري الكبير نجيب الكيلاني رحمة الله والتي أصدرها عام 1981ميلادي. في عام 1848م زار الرحالة اليهودي بنيامين هشيني مدينة دمشق وذكر بأنه يسكنها ما يقارب 600 عائلة يهودية والبعض يقول بأن عدد اليهود في دمشق ربما وصل في وقت ما إلى حوالي 30 ألف يهودي وقد كان لهم فيها 22 كنيسا ومعبدا وبالتالي ربما في الواقع كان لليهود أكثر من حارة واحدة في دمشق فقد كانوا موزعين بين حي جوبر وحي باب شرقي وأكبر حارة لهم كانت في حي الأمين.

وبالعودة إلى رواية (حارة اليهود) لنجيب الكيلاني تجدر الإشارة إلى أن العنوان البديل لتك الرواية هو: (دم لفطير صهيون) وهي مبنية على قصة حقيقة وقعت في عام 1840م في حارة اليهود في مدينة دمشق. وقد ذكر الروائي نجيب الكيلاني أنه اطلع على وثائق وصور التحقيق في حادثة اختفاء ومقتل القسيس المسيحي الأب توما في حارة اليهود وكيف أنهم استدرجوه هو وخادمة ليقتلوهما بغية الحصول على دمائهم لتحضير نوع من خبز الفطير الذي يوزعه الحاخامات على الأسر اليهودية في عيد الفصح. وعلى كل حال وبالرغم من حالة التعايش السلمي والتداخل الاجتماعي لقرون طويلة بين الطوائف الدينية المسلمة والمسيحية واليهودية في الشام إلا أنها كانت لا تخلو من حزازات وشكوك وإشاعات متبادلة.

وهذا يقودنا للحديث عن (حارة اليهود) ولكن في مدينة حلب السورية هذه المرة ويبدو أنه كانت توجد حالة من التشكك والخوف العام من غدر اليهود ولهذا يذكر الفقيه والعالم السوري مصطفى الزرقا أنهم وهم صغار عندما كانوا يعشون بمدينة حلب في بداية القرن العشرين كانت الأمهات يمنعن أولادهن الصغار من الخروج وحدهم حتى لا يخطفهم اليهود لكي يذبحونهم ويستنزفوا دمائهم. كما يذكر الشيخ الزرقا أنهم عندما أصبحوا في مرحلة المراهقة كانوا يتم تحذيرهم كذلك بأن لا يدخلوا حارة اليهود وألا يمروا بهم منفردين وأنه إذا داعهم يهودي لدخول بيته لإيقاد النار بحجة أنهم لا يمسون النار في يوم السبت فكانوا ينصحون بأن لا يستجيبوا لذلك كنوع من الحذر ألا يُغدر بهم في حارة اليهود لأجل قتلهم وأخذ دمائهم.

ومع ذلك يجب أن نقول إنه بالجملة في أغلب التاريخ العربي والإسلامية كانت العلاقة طيبة وطبيعة بين اليهود والعرب بدليل أنه عندما حصل التضييق على اليهود في الأندلس من قبل النصارى هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى العالم العربي ومن أبرزهم الفيلسوف والطبيب اليهودي المشهور موسى بن ميمون والذي ولد في قرطبة ثم تنقل بين المدن العربية في فاس والقدس والقاهرة. وإذا انتقلنا من حارتي اليهود الدمشقية والحلبية إلى حارة اليهود في القاهرة نجد أنه حتى اليوم أحد أبرز المعالم التاريخية فيها هو كنيس ومقام موسى بن ميمون لأنه توفي ودفن في حارة اليهود المصرية. بقي أن نقول بأن الفيلسوف وعالم التوراة موسى بن ميمون كان بارعا جدا في مهنة الطب لدرجة أنه كان الطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي وهذا مؤشر أن علاقة العرب باليهود في ذلك الزمان كان يسودها الثقة في التعاملات التجارية (كانت القاهرة مركز التجار اليهود الذين عن طريقهم تتم المتاجرة مع البندقية وجنوه الإيطالية) والمعالجات الطبية لدرجة أن سلطان المسلمين وملكهم الأيوبي لم يكن يغشى أن يقوم طبيبه اليهودي بتسميمه أو تصفية دمه.

بقي أن أقول في الختام إنني سبق وإن زرت مدينة القاهرة أكثر من خمس مرات في سنوات مختلفة وبهذا مررت على أغلب معالمها السياحية وفي الوقت الحالي وأنا في زيارة جديدة لأرض مصر المحروسة مع كوكبة من الزملاء الأفضال وبسبب إفتتاني الدائم بمعالم القاهرة الفاطمية، لذا رغبت في زيارة من نوع خاص لذلك المكان الساحر وذلك من خلال زيارة (حارة اليهود) في حي الجمالية. والدافع في الحقيقة لزيارة حارة اليهود هو كنوع من العزاء الروحي لما يقع هذه الأيام لأخوتنا في أرض فلسطين وذلك للتفكير المتأمل أن الواقع السياسي والاجتماعي والديموغرافي يمكن أن يتغير في زمن قصير نسبيا. يقال إنه حتى لحظة الإعلان عن قيام الكيان اليهودي الغاصب في عام 1948م كان يوجد بأرض مصر حوالي 80 ألف يهود وقطعا حارة اليهود بالقاهرة كان يقيم بها الآلاف منهم. وحتى عام 1956م كان اليهود أغلبية كاسحة في تلك الحارة وبعد تهجيرهم بعد حرب 56 لم يبق منهم إلا المئات وأخيرا قبل سنوات قليلة مضت توفي آخر شخص يهودي كانت تعيش في حارة اليهود.

وعليه بعد أن تلاشى كل أولئك الـ 80 ألف يهودي من مصر و140 ألف يهودي من العراق و120 ألف يهودي من الجزائر و50 ألف يهودي من اليمن و105 ألف يهودي من تونس بل وحتى ذلك الرقم العجيب المتمثل في تلاشي الربع مليون يهودي من المغرب ليتبقى منهم ألفين فقط، فهل يمكن في مستقبل الأيام أن تقر أعين وتهدأ قلوب إخوتنا في فلسطين عندما يتقلص عدد اليهود في أرض الجهار والرباط إلى أعداد لا تذكر.

من كان يعيش من العرب قبل عام 1948 بالقرب من حارة اليهود في بغداد أو دمشق أو القاهرة ربما كان يستبعد تماما أن يتلاشى اليهود من الدول العربية في غضون سنوات قليلة ولكن هذا ما حدث فهل يمكن بالفعل بعد سنوات قليلة تتحقق نبوءات ومخاوف بعض اليهود بأن دولتهم وسطوتهم وحكمهم سوف يتلاشى عندما تحل عليهم (لعنة العقد الثامن). فكما هو معلوم قبل حوالي سنة حذّر الصهيوني إيهود باراك رئيس الوزراء السابق للكيان الغاصب من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الثمانين لها وفيما أنا أمشي في أزقة حارة اليهود بوسط القاهرة وهي خالية تماما منهم أتمم في نفسي باحتمالية أدراك (بداية) تلاشي حكمهم من أرض فلسطين والله غالب على أمره ولو كره الكافرون (فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق