د/ أحمد بن حامد الغامدي
والمقصود أنه في زمن الفلسفة الغابر كانت
الأكاديميات تختص بوصفها تجمعا ومكانا للخطابة وجدل فقط ولهذا تلاشت مع الوقت في حين
أن الجامعات ترسخت بوصفها كُتباً مدروسة وبذا تنامت مع الزمن. ولهذا أنا قلبا وقالبا
أتفق مع المفكر الأسكتلندي توماس كارليل عندما ذكر في كتابه عن الأبطال والبطولة
في التاريخ مقولة (أعظم جامعة على الإطلاق هي مجموعة من الكتب). ومصداق ذلك أنه
بالفعل في الزمن الحالي أهم وأشهر جامعة في العالم وهي جامعة هارفرد الأمريكية هي
في الواقع (مكتبة تحولت إلى جامعة) في حين أن إحدى أعرق الجامعات في التاريخ على
الإطلاق وهي جامعة أكسفورد هي إلى حد ما (جامعة تحولت إلى مكتبة) أو دار نشر بشكل
أدق.
صحيح إن جامعة هارفرد تنسب إلى عالم الدين
البريطاني الأصل جون هارفرد ولكن في الواقع هو لم يؤسس تلك الجامعة العريقة وكل ما
في الأمر أنه عندما توفي في عام 1638م كتب في وصيته أن يتم التبرع بمحتويات مكتبته
البالغة 400 مجلد ومبلغ كبير من المال لكي يستفاد منها في تدريس طلاب العلم الجدد
من رجال الدين المسيحي. ومن هذه المكتبة الضخمة بمقاييس ذلك الزمن بدأ تأسيس نواة
جامعة هارفرد أغني جامعة في التاريخ البشري حتى الآن وبحكم أن جون هارفرد كان في
الأصل متخرجا من جامعة كمبريدج البريطانية فتعتبر جامعة هارفرد امتدادا لها ولهذا
هي في الأصل مقامه في مدينة (كمبريدج) في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. ومن أقدم
جامعة أمريكية (المكتبة التي تحولت إلى جامعة) ننتقل بالحديث إلى أقدم جامعة بريطانية
ألا وهي جامعة أكسفورد التي تأسست في عام 1096م وربما يصح في وصفها بأنها (جامعة
تحولت إلى مكتبة). وهنا مرة أخرى نجد أن رجل دين مسيحي وهو الأسقف توماس كوبهام
عندما توفي في عام 1327م أوصى أن تمنح مكتبته الخاصة لجامعة أكسفورد وبهذا كانت صناديق
الكتب التي نقلت للجامعة هي نواة مكتبة أكسفورد (المعروفة باسم مكتبة بودليان) والتي
هي من أقدم المكتبات العامة في أوروبا وحاليا هي ثاني أكبر مكتبة في بريطانيا حيث تحوي
أكثر من 13 مليون كتاب مطبوع. وبالرغم من أنني شاهدت مبنى تلك المكتبة من الخارج
واستصغرت حجم المبنى الدائري لمكتبة جامعة أكسفورد بالمقارنة مع مبنى مكتبة جامعة
الملك سعود لكن المظاهر قد تخدع كما يقال.
في الواقع عندما وصفنا جامعة أكسفورد بأنها
(جامعة تحولت إلى مكتبة) فإن مسوغ ذلك ليس فقط لأنها تحتوي واحدة من أكبر المكتبات
في العالم ولكن الأهم من ذلك أن تلك الجامعة أصبحت فيما يتعلق بالكتب هي (صانعة
محتوى) بمعنى أنه ليس فقط دور جامعة أكسفورد أن تحفظ وتخزن الكتب ولكن أيضا لها
اسهام غير مسبوق في إنتاج وتسويق الكتب لأنها (جامعة تحولت إلى دار نشر). في الوقت
الحالي تعتبر دار نشر جامعة أكسفورد (Oxford University Press)
هي أكبر دار نشر جامعية في العالم وتقريبا هي كذلك من أقدم دور نشر وطباعة الكتب
في بريطانيا حيث أنشأت في عام 1478م أي بعد سنتين فقط من دخول المطبعة إلى الجزر
البريطانية. وبحكم أن دار نشر جامعة أكسفورد تعتبر بشكل رسمي هي أحد أقسام departments
الجامعة ونظرا لأنها تنتج في العام الوحد حوالي 6000 كتاب جديد وبحكم كذلك أنها تطبع
كتبا بحوالي مئة لغة مختلفة وأيضا لكون الكتب التي تنشرها متنوعة المستويات لجميع
شرائح المجتمع (بمعنى أنها ليست فقط متخصصة بنشر الكتب الأكاديمية) ومن هذا وذاك
نستشعر إسهام جامعة أكسفورد في كونها وسيلة ووعاء لنقل المعرفة من خلال الكتب.
بالمناسبة لذكر إسهام دور النشر الجامعية في الحراك المعرفي والمورث الثقافي الإنساني،
تجدر الإشارة إلى أن دار نشر جامعة كمبريدج تفتخر بأن المؤلفين والكُتاب الذين
نشروا من خلالها هم من أكثر من 100 جنسية من حول العالم كان منهم أكثر من 170 مؤلفا
هم من حملة جوائز نوبل.
من المعروف اختراع الطباعة ظهر على يد
المخترع الألماني يوهان غوتنبرغ في حدود عام 1440م وخلال عقود قليلة من الزمن وصلت
المطبعة لعدد هائل من المدن الأوروبية وما يهمنا هنا هو محاولة استقراء ارتباط
الطباعة بالجامعات. سبق وأن ذكرنا بأن جامعة أكسفورد أقامت أول مطبعة لها بعد
سنتين فقط من وصول المطبعة لبريطانيا في عام 1476م على يد التاجر الإنجليزي وليام
كاكستون. في حين أن أول مطبعة دخلت إلى الأراضي الأمريكية وذلك في عام 1638م وهذا
التاريخ إذا انتبه القارئ الكريم ليس فقط أهميته بأن هو نفس تاريخ التأسيس الفعلي
لجامعة هارفرد الأمريكية بل يظهر كذلك حقيقة أن هذه المطبعة أقيمت أصلا في داخل
جامعة هارفرد ومنذ اللحظات الأولى لولادة تلك الجامعة العريقة. ولعل من الملائم الربط بين أعرق الجامعات الأمريكية
والبريطانية وقصة ارتباطها بالمطبعة والكتاب ونسوق الحديث إلى معلومة ان أعرق الجامعات
الفرنسية وأقدمها من ناحية التاريخ لها هي الأخرى قصة جديرة بالتوثيق مع المطبعة. في
الواقع سبق الفرنسيون نظراؤهم الإنجليز في استقطاب تقنية الطباعة الحديثة للكتب
بواسطة المطبعة ففي حين كان الدافع لدخول المطبعة إلى بريطانيا عام 1476م كان بسبب
التجارة كما ذكرنا بينما نجد أن إحضار المطبعة إلى فرنسا والذي حصل في عام 1470م
كان بسبب وعي أستاذة جامعة السوربون. في السباق كانت الكتب الدراسية الجامعية textbooks
تكتب عن طريق النسخ اليدوي وهي عملية بطيئة ومكلفة جدا ولهذا قام أستاذان من جامعة
السوربون باستدعاء ثلاثة رجال من الألمان العاملين في مجال الطباعة لكي يؤسسوا في
جامعة السوربون أول مطبعة في فرنسا وبهذا في فترة زمنية قصيرة أصبحت مدينة باريس
واحدة من أهم مراكز الطباعة ونشر المعرفة في القارة الأوروبية. وفي الزمن الحالي تستمر
مسيرة ريادة الجامعات في نشر المعرفة وذلك عندما نراجع شهرة العشرات من الجامعات الأمريكية
بالذات ودورها الرائد في طباعة وصناعة المحتوى العلمي والمعرفي العام كما نجده مع
دور نشر ومطابع جامعات شيكاغو وكولومبيا وستانفورد وبرينستون وكورنيل وغيرها كثير.
في منتصف القرن التاسع عشر ظهرت في الولايات
المتحدة حركة قوية لنشر ثقافة قراءة الكتب من خلال افتتاح المئات بل الآلاف من
المكتبات العامة وسميت تكلك الموجه المجتمعية الراقية بـ (حركة المكتبات Library
Movement). وقد كان لهذه الحركة صدى كبير في تغيير المجتمع الأمريكي لأنها
ركزت على فتح هذه المكتبات في داخل مدارس الطلاب علما بأن الملياردير الأمريكي
البارز أندرو كارنيجي تبرع لبناء أكثر من 1400 مكتبة في أمريكا في ذلك الزمن. ومن
المشهد العالمي إلى المشهد المحلي ومن المكتبات العامة ننتقل الغربية إلى جامعاتنا
الوطنية والتي منذ حوالي خمسين سنة ولها هي الأخرى إسهامها الراقي فيما يمكن تسميته
على نسق ما سبق ذكره بـ (حركة الكتب Books Movement).
والذي نقصده بالضبط أن للجامعات السعودية
وعبر عقود طويلة كان لها إسهام ملموس في نشر الثقافة والمعرفة من خلال تبنيها
لمبادرة إقامة (معارض الكتاب) في عدد كبير من المدن المحلية. فمن يستعرض الأخبار المحلية
في السنوات القريبة الماضية يلاحظ دور الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وجامعة
الملك فيصل في الأحساء وجامعة الملك خالد في أبها وجامعة القصيم وجامعة الطائف وجامعة
جازان وجامعة الجوف وجامعة حفر الباطن وغيرها من الجامعات السعودية، كل واحدة من
تلك الجامعات بادرت بتنظيم سلسلة من معارض الكتاب في تلك المدن. وقبل ذلك بعقود
زمنية طويلة وقبل أن تتولى وزارة الثقافة تنظيم معارض الكتاب الدولية الكبرى في
مدينة الرياض ومدينة جدة كان لجامعة الملك سعود وجامعة الملك عبد العزيز الدور
المحوري في تنظيم معرض الكتاب الدولية التي تقام في المملكة.
وتأتي هذه الإشادة بدور الجامعات في حركة
الكتب وموجة تعزيز دور المكتبات في المجتمع وذلك لأننا نمر في الوقت الحالي بأجواء
العرس الثقافي المتمثل بفعالية (معرض الرياض الدولي للكتاب).
الجدير بالذكر أن معرض الرياض للكتاب له ما
يقارب النصف قرنا من الزمن حيث افتتح لأول مرة في عام 1398هـ (1978م) وذلك بتنظيم
من قبل جامعة الملك سعود والتي استمرت لسنوات طويلة ومتتالية تحتضن وترعى (حركة
الكتب وموجة المكتبات). واليوم وبعد عودة معرض الرياض الدولي للكتاب للافتتاح مرة
أخرى من داخل أسوار جامعة الملك سعود وكأن المشهد هو عبارة عن عودة الابن التائه
وليس الضال كما هو في المثل المذكور في الإنجيل. فعبر السنوات الأخيرة تنقلت إدارة
معرض الرياض الدولي للكتاب من جامعة الملك سعود إلى وزارة التعليم العالي إلى وزارة
الإعلام إلى وزارة الثقافة وأخيرا تمت إحالة الإشراف عليه إلى هيئة الأدب والنشر
والترجمة. ورحلة التنقل لمعرض الكتاب استمرت كذلك فيما يتعلق بموقع إقامة معرض
الكتاب الذي ارتحل عبر السنين المتتالية من الموقع القديم لجامعة الملك سعود
بالملز إلى الخيمة الرياضية بموقع الجامعة الحالي إلى بهو الجامعة ثم إلى كارثة
صغر موقع المركز الدولي للمعارض في حي المروج ثم إلى المبنى الأنيق والحضاري في مركز
المعارض والمؤتمرات على طريق الملك عبد الله ثم لموقع واجهة الرياض بالقرب من مطار
الملك خالد.
على كل حال شعار معرض الكتاب لهذه السنة
يحمل عبارة (وجهة ملهمة) وفي ضوء ما سبق الحديث عنه عن العلاقة الوثيقة بين
الجامعة والكتاب ودور الجامعات المحلية بالذات في تنظيم معارض الكتاب، أتفق تماما
مع هذا الشعار وبالفعل اختيار أروقة جامعة الملك سعود لاحتضان هذه الفعالية الثقافية
البارزة كان قرارا صائبا فبالفعل الجامعة هي (وجهة ملهمة) واختيار موفق ولله الحمد
أصبح مصدر سعادة وفخر لنا جميعا من منسوبي وطلاب الجامعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق