الأحد، 10 ديسمبر 2023

( التعبير عن الانتماء والكتابة بالذرات )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الإحساس بالانتماء هو شعور عاطفي متأصل في السلوك البشري الاجتماعي ينعكس أحيانا في مظاهر متعددة من ضمنها المبالغة لدي بعض الأفراد (للتعبير عن الانتماء) وتأكيد الولاء لمجموعة أو قبيلة أو دولة أو دين. هذا الإبداء المبالغ فيه للتعبير عن الانتماء قد يتمثل في قيام شخص مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل سنوات عديدة من تولية منصب الرئاسة بنصب أكبر سارية للعلم الأمريكي الضخم في منتجعه الرياضي في جنوب مدينة لوس أنجلس. وفي عام 1914م قامت مجموعة من طلبة الهندسة بجامعة أريزونا بالاحتفال والاحتفاء بجامعتهم وكذلك بالتعبير عن فخرهم بولاية أريزونا Arizona بكتابة وتشكل أكبر حرف (A) في العالم وذلك على سفح جبل يطل على مدينة توسان الصحراوية. التعبير عن الانتماء لجامعة وولاية أريزونا أدى إلى انتشار ظاهرة كتابة حرف A في حوالي 60 جبلا وهضبة في تلك الولاية أشهرها على الإطلاق ذلك الجبل المسمى (A mountain) الذي يحتوي حرف (A) الأبيض الهائل الذي طوله 50 مترا.

 وبالانتقال من التعبير عن الانتماء بكتابة وتشكيل أكبر حرف هجائي على سطح الأرض من قبل منسوبي جامعة أريزونا في جنوب أمريكا إلى كتابة وتشكيل أصغر حرف هجائي في الوجود وهو من تحضير أحد منسوبي جامعة إلينوي في شمال أمريكا. وهذا يقودنا للحديث عن العالم العربي الكبير الذي نفتخر به وهو أستاذ علم الفيزياء بجامعة إلينوي وأحد رواد علم تقنية النانو الدكتور منير نايفة والذي استطاع قبل حوالي ثلاثين سنة من (تحريك الذرات) لكي يكتب بها الحرف الإنجليزي (P). لقد استطاع منير نايفة من توظيف التقنية العلمية المتقدمة المسماة المجهر المسحي النفقي (Scanning Tunneling Microscope) ليتمكن من تحريك الذرات المفردة ذرة ذرة لكي يرسم شكل قلب صغير جدا جدا في وسطه حرف (P). طبعا ذلك الشكل البالغ الصغر لا يمكن أن يرى إلا بالمجهر الإلكتروني ولهذا كان لذلك الحدث العلمي البارز صداه الذي وصل لجريدة الواشنطن بوست وللمجلة العلمية الثقافية والإخبارية (نيو ساينتست). بقي أن نقول إن سبب اختيار الدكتور منير نايفة لكتابة حرف (P) بواسطة الذرات هو كنوع من (التعبير عن الانتماء) لمجال علم الفيزياء Physics حيث إن أول حرف في لفظة الفيزياء باللغة الإنجليزية هو حرف (P). ومع ذلك ينبغي التنبيه أن الدكتور الفلسطيني منير نايف يحلو له أحيانا عندما يسأل عن ماذا قصد بتشكل ذلك القلب الذي في داخله حرف P فإنه يرد أنه يقصد أن بلده الأصلي فلسطيني ما زال يحتل الموقع الأهم في قلبه ولهذا حرف P هو الحرف الأول من لفظة فلسطين باللغة الإنجليزية (Palestine).

تلك القصة الطريفة للدكتور منير نايفة عن التعبير عن الانتماء للوطن والاحتمالية المزدوجة لوجود معاني أخرى بديلة تذكرنا بقصة عالم الكيمياء الفرنسي بول إميل ليكوك الذي اكتشف في عام 1875م عنصر الجاليوم Ga والذي زعم في البداية أنه أطلق عليه هذه التسمية Gallium كدلالة وتعبير عن الانتماء لبلده فرنسا. صحيح أن الاسم القديم لفرنسا هو أرض الغال Gaul ولهذا اللفظ اللاتيني لذلك الاسم هو جاليا gallia ومنه يشتق اسم العنصر الجاليوم ولكن البعض يقول إن ذلك العالم الكيميائي بول إميل (ليكوك) كان في الواقع يريد أن يعبر عن الانتماء والاحتفاء لاسم عائلته (ليكوك Le coq). وذلك لأن اسم عائلته باللغة الفرنسية يعني (الديك) وكلمة الديك باللغة اللاتينية هي gallus وبهذا اسم عنصر الجاليوم قد يكون تقديرا لبلد فرنسا (أرض الديكة) أو قد يكون تعبير للانتماء لأسرة العالم الكيمائي آل ليكوك !!.

 أحرف من ذرات تحت المجهر

العلم الحديث بإمكانه أن يعمل المعجزات ومن ذلك أنه بصورة ما يستطيع أن يحول (الجدل البيزنطي) غير المفيد إلى صورة أكثر جدية فمثلا نجد أن بعض العلماء حولوا مهزلة الجدل البيزنطي السخيف في العصور الوسطى عن سؤال (كم من الملائكة يمكن أن يقف على رأس دبوس) إلى سؤال (كم من الكتب يمكن أن نكتبها على رأس دبوس). في عام 1988م تمكن مجموعة من العلماء في جامعة ليفربول البريطانية من استخدام تقنية خاصة من المجهر الإلكتروني لتركيز حزمة من الإلكترونات عالية الطاقة لحفر وكتابة الكلمات على قطعة صغيرة جدا من أوكسيد الألومنيوم. ولهذا من الناحية النظرية يمكن كتابة كامل الأربعة والعشرين المجلد الضخم للموسوعة البريطانية على رأس دبوس. في الواقع العلماء الإنجليز اكتفوا بكتابة صفحة واحدة من الموسوعة البريطانية فقط لكي يثبتوا كفاءة تقنيتهم العلمية المتطورة وكذلك لكي يحاولوا تحقيق التحدي الذي أطلقه عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان والذي أعلن في عام 1959م جائزة (رمزية) بمقدار ألف دولار لمن يستطيع أن: (يكتب الموسوعة البريطانية على رأس دبوس). ذلك التحدي ورد في نهاية المحاضرة العلمية الشهيرة التي ألقاها فاينمان والتي طرحت لأول مرة فكرة إمكانية ترتيب وتحريك الذرات واحدة واحدة لكي تشكل أجساما أو آلات نانوية أو حتى مجرد كتابة أحرف وكلمات ولهذا ظهر التصريح الشهير للدكتور فاينمان (هناك مساحة كبيرة في القاع .. دعوة لدخول مجال جديد للفيزياء).

في الحقيقة (المجال الجديد للفيزياء) الذي تنبأ به ريتشارد فاينمان هو ما نطلق عليه اليوم علم (تقنية النانو) ولتحقيق عملية التحريك والمناورة والتلاعب manipulation بالذرات حتى ترسم الأشكال أو الأجسام التي نرغب بها يتم ذلك بعدّة تقنيات عليمة على درجة عالية من التطور من أهمها جهاز المجهر المسحي النفقي STM الذي ذكرنا أن الدكتور منير نايفة استخدمه لكتابة ذلك الحرف الإنجليزي (P) حمال الأوجه والمعاني.

بالمناسبة تم لأول مرة تصنيع المجهر المسحي النفقي في مختبرات شركة IBM الأمريكية وذلك في معاملها البحثية في مدينة زيورخ السويسرية ومن قبل عالم الفيزياء الألماني جيرد بينيج وعالم الفيزياء السويسري هاينريخ روهرير والذين حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1986م لأنهما استطاعا من خلال هذا (المجهر) من مشاهدة وتصوير الذرات المفرد لأول مرة في التاريخ. كما هو معلوم فإن شركة IBM هي عملاق صناعة أجهزة وبرامج الكمبيوتر ولهذا تحقيق ذلك الإنجاز العلمي الهائل في مجال علم الفيزياء الذرية في المختبرات العلمية لشركة الحاسبات تلك يعتبر من الأحداث النادرة في تاريخ العلم ففي الغالب مثل هذه الاكتشافات البارزة تحصل في مختبرات الجامعات أو المراكز البحثية الدولية (مع استثناء اختراع الترانستور في مختبرات شركة بيل الأمريكية للاتصالات أو اختراع الليزر في مختبرات شركة هيوز للطيران).

على كل حال في عام 1989م تمكن عالم الفيزياء الأمريكي دون إيجلير من تحريك الذرات بواسطة مجهر STM السالف الذكر وبحكم أنه كان يعمل في مختبرات شركة IBM لهذا وربما كوسيلة للتعبير عن الانتماء قام بتحريك الذرات لكي تشكل الحروف الثلاثة لتلك الشركة. ولكي يحقق إيجلير هذا الإنجاز العلمي التاريخي قام بتحريك 35 ذرة من ذرات عنصر الزنون على قاعدة من عنصر النيكل وكان حجم تلك الكتابة النانوية المصغرة بارتفاع خمسة نانوميتر (5 nm) واستغرق من الزمن 22 ساعة لإتمام تحريك الذرات المفردة لكتابة تلك الحروف الثلاثة.

بعد هذا المدخل التاريخي لأعجوبة الكتابة بالذرات بواسطة أجهزة علمية متقدمة (مثل المجهر النفقي الماسح STM ومجهر القوة الذرية AFM) والتي تمت منذ حوالي ثلاثين سنة فليس من المستغرب أن نعلم أن العديد من المراكز البحثية في مختلف دول العالم حاولت خلال تلك العقود الزمنية تطوير هذه التقنية باهضه التكاليف لكي تعمل في ظروف مختبرية أسهل ولإعطاء نتائج أكثر دقة. وهذا المقال الثقافي العام ليس مجالا لذكر تلك التفاصيل العلمية الدقيقة لكن ما أود أن أسجله هنا هو أن أغلب العلماء في هذه المراكز البحثية المتقدمة عندما يقومون بتطوير تقنية جديدة (منقحة ومزيدة) في حرفة الكتابة بالذرات أول ما يحرصون عليها في أوراقهم البحثية التي يرسلونها للنشر في المجلات العلمية المرموقة مثل مجلة الطبيعة Nature أو مجلة العلوم Science أنهم يرفقون صورا تحتوي على الحروف المكتوبة بالذرات لأسماء تلك الجامعات أو المعاهد العلمية.

فمثلا في عام 2013م عندما طور العلماء في مختبرات كلية التثليث بجامعة دبلن تقنية علمية جديدة للكتابة بالذرات كان مما قاموا بتحريك الذرات لكتابة الحروف الثلاثة (TCD) للكلمات المكونة لاسم تلك الكلية (Trinity College Dublin). وعلى نفس النسق في التعبير عن الانتماء قام العلماء في المختبرات البحثية في ألمانيا وكذلك في أمريكا بنفس الأمر فالحروف الثلاثة (INT) تمت كتابتها بذرات النحاس تكريما لأسم معهد تقنية النانو Institute of Nanotechnology بجامعة كارلسروه الألمانية في حين إن الحروف الثلاثة (NRL) المكتوبة بذرات الجاليوم هي الحروف الأولى من اسم مركز الأبحاث الشهير الموجود في مدينة واشنطون: مختبر أبحاث البحرية الأمريكية (Naval Research Laboratory).

بقي أن نقول إن الكتابة بالذرات لم تتوقف عند تشكل الأحرف الهجائية فقط، ولكن أمكن كذلك كتابة كلمات كاملة مثل لفظة (النانو Nano) بينما استطاع علماء اليابان من كتابة كلمة (الذرة) باللغة اليابانية وذلك باستخدام ذرات مفردة من عنصر الحديد على قاعدة من ذرات عنصر النحاس. وبحكم أننا وصلنا في الحديث عن كوكب اليابان فتجدر الإشارة إلى أن أحد العلماء اليابانيين قام في عام 1991م بالاحتجاج على الهجوم الأمريكي على العراق أثناء حرب الخليج الثانية ولهذا استطاع كتابة عبارة: سلام 91 (Peace 91) باستخدام ذرات عنصر الكبريت.

 مشاركة الذرات في اليوم الوطني

في توافق عجيب وغير مقصود حصل عام 2017م قام وبشكل منفصل كل من علماء الفيزياء في كندا وفي المملكة العربية السعودية (بالتعاون مع زملائهم علماء الفيزياء الألمان) بالمساهمة في اليوم الوطني لكل من الدولتين من خلال توظيف الذرات لكي تشكل شعار الدولتين. فيما يخص العلماء الكنديين وبدافع من الشعور بالانتماء فقد قاموا بالمساهمة في الاحتفالات الوطنية بمناسبة مرور 150 سنة على تأسيس الدولة الكندية (150th anniversary of Canada) باستخدام تقنية مجهر STM لتحريك 34 ذرة هيدروجين لكي تشكل الرقم 150 وكذلك الرمز الوطني لكندا المشهور: شكل ورقة القيقب. بينما قام علماء الفيزياء في معهد الملك عبدالله بتقنية النانو بجامعة الملك سعود بالطلب من زملائهم العلماء في جامعة فورتسبوغ الألمانية مساعدتهم ليس فقط في رسم ورقة واحدة ولكن في تشكيل شجرة كاملة.

ففي عام 2017م وضمن الاحتفالات باليوم الوطني السعودي والذكرى 87 لتأسيس المملكة تواصل الزملاء في وقتها الدكتور هشام الهدلق المشرف السابق على معهد الملك عبدالله لتقنية النانو والدكتور حمد البريثن المشرف الحالي للمعهد مع نظرائهم في الفريق البحثي للدكتور ماتيوس بود أستاذ علم الفيزياء في معهد الفيزياء بجامعة فورتسبورغ الألمانية. ومن هنا أمكن تصنيع مجسم نانوي صغير جدا لشعار المملكة السيفين والنخلة والمشكل من ترتيب 54 ذرة فضة تم تحريكها بواسطة طرف إبرة مجهر STM وتثبيتها على قاعدة من 111 ذرة فضة. الجدير بالذكر أن طول ذلك الشعار النانوي يبلغ فقط 25 نانوميتر بمعنى أن ألف وحدة منه لو وضعت جنبا إلى جنب بالكاد يكون طولها قطر شعرة الإنسان (أو بحجم رأس الدبوس !!).

 وفي تجربة أخرى إضافية قام الزملاء الكرام في معهد الملك عبدالله لتقنية النانو بالتعبير عن الانتماء والولاء بعمل لوحة لشعار المملكة النانوي Nano Kingdom Logo لكن هذه المرة بحجم أعلى من حدود تقنية النانو حيث قاموا برص مكعبات من الكربون على شكل ثلاثي الأبعاد لشعار السيفين والنخلة. في هذه المرة تم تحريك 55 مكعب من ذرات الكربون طول كل مكعبا حوالي واحد مايكرومتر(1 µm) ثبتت على قاعدة من معدن الحديد. وبحكم أن هذا الشعار النانوي الكربوني أكبر بحوالي 1800 مرة من الشعار النانوي الفضي فربما يمكن مشاهدة الشعار الجديد والتأكد منه بالمجاهر الضوئية التقليدية بينما شعار المملكة النانوي لا يمكن مشاهدته إلى بنفس التقنية التي صنع بها أي جهاز مجهر المسحي النفقي.

وختاما يتم نشر هذا المقال في يوم السبت الثامن من شهر ربيع الأول لعام 1445هـ (الموافق 23 سبتمبر 2023م) وهو توقيت اليوم الوطني السعودي الثالث والتسعون وقد قمنا في قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود بالتعاون مع الزملاء في معهد الملك عبدالله لتقنية النانو ونادي الكيمياء لتجهيز بوستر خاص يعرض ويشرح بعض المعلومات عن (شعار المملكة النانوي) المكتوب بذرات الفضة والمرسوم بحرف سن إبرة جهاز STM المتطور.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق