الأحد، 10 ديسمبر 2023

( اتصال من تحت الأنقاض )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 قديما قبل عدة سنوات وأثناء الإعلان عن خدمة (الجزيرة موبايل) المتمثلة في استقبال رسائل جوال عن آخر الأخبار العاجلة، استخدمت قناة الجزيرة الفضائية الشعار الدعائي المشهور (الجزيرة موبايل .. لأن الوقت لا ينتظر). من وجهة نظري الشخصية فإن أن صيغة ذلك الإعلان كانت ركيكة وربما كان من الأفضل لو أنها أُذيعت بعبارة (الجزيرة موبايل .. لأن الخبر لا ينتظر). وهذا ما يحصل في الواقع أثناء حدوث الأخبار العاجلة أو الأحداث الهامة المستجدة أنك قد ترغب في أن تسمعها في أسرع وقت (لأن الخبر لا ينتظر).

الغريب في الأمر أن فكرة قناة الجزيرة (قلدتها بعد ذلك قناة العربية وكان شعارها الدعائي: جوال العربية .. معك في كل لحظة) المتمثلة في أن يرسل لك خبر مختصر عن الأحداث العاجلة عبر رسالة تستلمها عبر جوالك، سرعان ما تغيرت عندما أصبح جهاز الجوال (أي الموبايل في إعلان قناة الجزيرة) ينافس بقوة القنوات الفضائية كوسيلة ووسيط لنقل الأخبار العاجلة. وهذا ما نقلنا خلال السنوات القليلة الماضية من عصر (القنوات الفضائية) إلى زمن فضاء (الإعلام البديل) الذي يستخدم فيه جهاز الجوال كأهم وسيط و(قناة) يتم من خلالها تلقي وإرسال الأخبار والمقاطع والصور في لحظات خاطفة.

في زمنٍ ما كتب أمير الشعراء أحمد شوقي بيته الشهير في التعبير عن الإعجاب بأعجوبة الصحافة الورقية عندما قال:

لكُلّ زمانٍ مضى آيةٌ       وآية هذا الزمان الصُحُف

وقبل أحمد شوقي بقرن من الزمن يُذكر عن الإمبراطور/الجنرال نابليون بونابرت أنه قال (أنا أخشى ثلاث صحف أكثر مما أخشى مئة ألف حربة رمح). والمقصود أنه في غابر الزمان كان للصحافة (ولوسائل الإعلام القديمة إجمالا) حضور كثيف وتأثير طاغ في تشكيل الرأي العام والعالم من حولنا ولكن هذا الدور للصحافة والتلفزيون بل وحتى القنوات الفضائية انتقل في الزمن الحالي إلى الأجهزة التقنية صغيرة الحجم ولكن ضخمة الأثر والمسماة أجهزة (الهواتف الذكية). والسبب في ذلك راجع إلى التعديل الذي اقترحناه على شعار الحملة الإعلانية لخدمة الجزيرة (موبايل) وهو: أن الخبر لا ينتظر. قبل ظهور الراديو والتلفزيون عندما يحصل حدث ضخم (أي خبر صحفي بامتياز) فإن المتلقي كان ينتظر يوما كاملا حتى تصدر تفاصيل الخبر في الصحف وهذه فترة طويلة جدا وغير مقبولة بمقاييس اليوم في زمن السرعة. صحيح أن القنوات الفضائية يمكن أن تغطي الخبر بسرعة جيدة، ولكن في الغالب وسائل الإعلام المحترمة عندما يصلها خبر هام على سبيل المثال أن سيارة مفخخة انفجرت في مكان ما من العالم لا تبادر تلك القناة المهنية مباشرة بنقل الخبر قبل (التأكد) من صحته. وهذا كثير ما يفقدها (ميزة) السبق الصحفي و(الخبطة) الإعلامية والتي تذهب في الوقت الحالي لوسائل التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية وخصوصا تطبيق وبرنامج (تويتر) وأفلام قناة اليوتيوب.

ومن هنا أصبح الجوال الذكي في أيدينا (وليس موبايل قناة الجزيرة) هو أهم وأسرع وسيلة إعلامية واستحق ذاك الجهاز الصغير بجدارة أن يتربع على عرش منصة (الإعلام البديل). ومن ذلك ما حصل في الأيام الماضية مع الزلزال المحزن والكارثة المفجعة التي حصلت في جبال الأطلس بمملكة المغرب الشقيقية حيث إن أغلب (الجمهور) تلقى الخبر من خلال شاشات الجوالات وليس من شاشات الفضائيات. وعن طريق أجهزة الجولات شاهدنا اللقطات الأولى لكارثة الزلازل والجدير بالرصد أن هذه المشاهد ومقاطع الفيديو عن ذلك الحدث الجلل كانت مسجلة بكاميرات جولات الأشخاص الذين عاصروا الحدث وليس بكاميرات الأطقم الإعلامية الاحترافية.

 الجوال خير صديق في حال الضيق .. حرفياً !!

فيما يتعلق بكوارث الزلازل والمآسي المتعلقة بها يمكن ملاحظة أن أجهزة الجوال كانت (أقرب للحدث) من كاميرات التلفزة وميكرفونات معلقي نشرات الأخبار أو مراسلي الشبكات الفضائية. ودليل ذلك أنه في السنوات الأخيرة تكررت حالات وجود أجهزة الجوال السليمة التي لا تزال تعمل حتى والشخص المنكوب تحت أكوام هائلة من الركام وجبال من الأنقاض. في عام 2015م نشر المراسل الصحفي الأمريكي تيري كولينز كتابه المصور والذي بعنوان (مدفون تحت الأنقاض Buried in Rubble) والذي جمع فيه العديد من القصص الحقيقة عن أشخاص من دول مختلفة تعرضوا لكارثة الاحتجاز تحت أطنان من أنقاض المنازل المنهارة جراء حدوث زلازل مدمرة. لا شك أن قصص وأخبار الناجين من كوراث الزلازل دائما ما تكون مشحونة بالعواطف والأحزان بل وحتى التشويق وذلك بعد سماع تفاصيل المعاناة التي مروا بها ولكن في الغالب هذه المعايشة للأحداث الألمية التي مر بها الناجون تحدث بعد (انتهاء) الحدث والاستماع لقصصهم بعد إجراء مقابلة صحفية أو تلفزيونية معهم.

ومن هنا يمكن أن نستشعر دور جهاز الجوال الذي قد يكون موجودا في لحظة الحدث وفي متناول الشخص الذي دفن تحت الأنقاض ويمكن الاتصال به من تحت الركام والاستماع (المباشر) لأحاسيسه ومخاوفه ومأساته. في العالم الماضي وفي الأيام الأولى من حادثة الزلزال الهائل الذي وقع في الأراضي التركية والسورية، تناقلت وسائل الإعلام الدولية مقطع فيديو يوثق محادثة هاتفية بين سيدة في فريق الإنقاض التركي وبين امرأة تدعى عزيزة محتجزة مع زوجها وأطفالها تحت ركام منزلها المتهدم. ويبدو أن المرأة المطمورة تحت الأنقاض استطاعت الاتصال بهاتفها الجوال بهدف طلب المساعدة ولهذا أخذت المنقذة ترشد السيدة عزيزة كيف تتصرف في هذا الظرف العصيب بأن تحافظ على شحن بطارية الجوال وكذلك بأن تقدم الدعم المعنوي لأطفالها ولهذا طلبت منها (كل من يوجد معك من أطفالك تكلمي معهم بأسمائهم) وكان كذلك من الإرشادات لها (أخبري أبناءك بأن يتنفسوا ببطء من الحلق وليس من الأنف).

صحيح أن المرأة التركية السيدة عزيزة كانت في كرب عظيم وهي تحت الأنقاض ولكن حالها ربما كان أفضل من حالة الشاب السوري الذي تم هو الآخر توثيق اتصاله الهاتف من تحت الركام. الاتصال بهاتف الجوال حصل بين الشاب السوري وبين أخيه والذي طلب منه يدعو له وأن يسامحه وكذلك أخبر الشاب السوري أن ولده (ساري) تعرض لضربه قوية من جراء الزلزال وأنه ينزف من فمه وأنفه ثم قال بأنه لا يتكلم. وفي ختام تلك المكالمة الهاتفية من تحت الأنقاض ذكر الشاب السوري أن ابنه توفي ثم عقب بقوله وهو في حالة انهيار تام (آه قلبي .. الصبر يا ربي أنا موجوع كتير).

للأسف أغلب الحلات التي تم توثيق تسجيل مكالمات جهاز الجول من تحت الأنقاض تنتهي بالفشل في أنقاض الأشخاص المحتجزين ومن ذلك مثلا أنه في زلزال تركيا وسوريا المدمر والذي راح ضحيته حوالي 60 ألف شخص كان من ضمنهم ثلاثة أشقاء فلسطينيين من أهل مدينة أنطاكيا التركية. في بداية الأمر تمكن أحد الأشقاء الثلاثة من الاتصال بهاتفه من تحت الأنقاض ونبه من في الخارج على احتجازه هو وأخوية تحت الركام وبالرغم من الحملة الإعلامية التي أطلقها بعض النشطاء الفلسطينيين لإنقاذ هؤلاء الإخوة الثلاثة إلا أن موقعهم تحت الأنقاض كان غاية في الصعوبة لدرجة أن جثثهم رحمهم الله لم يتم انتشالها إلا بعد حولي أكثر من ثلاثة أسابيع من بداية الزلزال.

في الواقع ليس من المستغرب استيعاب أنه لا يكفي وجود اتصال من هاتف الجوال لتحديد الموقع الدقيق للشخص المحتجز تحت ركام هائل وهذا ما حصل في عام 2008م عندما حصل انهيار صخري لجبل المقطم في القاهرة نجم عنه طمر العشرات من المنازل والعمائر السكنية. وقد ذكر رجل مصري يدعى محمد صابر أنه تلقى اتصال امن رقم جوال هاتف أخيه من تحت الأنقاض وهو يستغيث ويطلب المعاونة لأن صخور الجبل سوف تقتله هو وأطفاله وللأسف لم يتم تحديد موقعه في وقت مبكر بشكل كاف ولهذا كان وأسرته من الضحايا الثلاثين الذي قضوا في تلك الكارثة. ومن القاهرة ننتقل إلى الإسكندرية ومن الكوارث الطبيعية نتحول إلى كوارث الغش وجرائم بناء العمائر المخالفة للمواصفات الفنية والهندسية. فقبل كارثة القاهرة بسنة واحدة أي في عام 2007م حصل انهيار لعمارة سكنية شاهقة في مدينة الإسكندرية مكونة من 12 طابقا والغريب في الأمر أن أحد سكان العمارة ممن كان يقيم في الطابق الأرضي نجا لفترة من الزمن من أن يسحق بأطنان الركام والأنقاض. لقد استطاع ذلك الرجل المحجوز من الاتصال بالخفير أو بواب العمارة الذي نجا هو الآخر من القتل بأعجوبة وذكر له أنه في ظلام دامس وأنه يسمع صراخ واستغاثات العديد من السكان الآخرين المنكوبين تحت الأنقاض.

وفي الختام نعرج على الحادثة الغريبة والمحزنة التي تربط بين الاتصال بالهاتف الجوال وبين كارثة زلزال المغرب الذي حصل هذا الأسبوع ففي مساء يوم الجمعة الماضي كان الشاب المغربي عمر آيت مبارك يتحدث عبر الجوال مع خطيبته الشابة مينا آيت بيهي. وفجأة عند حدوث الزلزال أثناء المحادثة الهاتفية بينهما سمع الشاب ضجيج تساقط الأواني المنزلية في منزل خطيبته ثم انقطع فجأة الاتصال الهاتفي بينهما وهنا شعر الشاب بالخوف والقلق أن يكون أصاب خطيبته مكروه. ولاحقا كان الشاب عمر موجودا في لحظة انتشال جثة خطيبته رحمها الله من تحت الأنقاض وهي ما زالت تمسك بجهاز الجوال الذي تم تسليمه لخطيبها فيما حُملت الشابة المغطاة ببطانية لكي تدفن في المقبرة المؤقتة مع 68 شخصا آخر من ضحايا الزلزال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق