د/ أحمد بن حامد الغامدي
ما يحدث هذه الأيام في أرض فلسطين محير ومتغير والغالب والله أعلم أننا ربما نشهد لحظة مشابهة لفكرة تحول أو ثورة البارادايم (النموذج الإرشادي) Paradigm Shift وهي فكرة فلسفية طرحها عام الفيزياء الأمريكي البارز توماس كون لتفسير تطور المعرفة العلمية وأنها في صلبها هي (حركة من خلال الصراع) تُنتج طفرة علمية هائلة في فترة محدودة نسبيا. الحركة من خلال الصراع هو بالضبط ما تحاول كتائب عز الدين القاسم في قطاع غزة أن تغير من خلاله الواقع السياسي البائس في منطقتنا العربية. ومع ذلك وبحكم أننا نخوض ونتحدث عن ظاهرة تاريخية وحدث سياسي فربما الأفضل لفهمه أن نستشير شيخ مشايخ تفسير التاريخ ألا وهو المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي صاحب نظرية التحدي والاستجابة لدراسة فلسفة التاريخ. التحدي عند توينبي هو نقطة البدء في عملية التحول الحضاري وطريقة ذلك أنه كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة حتى تصل بأصحابها إلى ما يسميه بـالوسيلة الذهبية golden mean وهي الطريقة المثلى للاستجابة للتحدي.
في كتابة الموسوعي الضخم (دراسة للتاريخ)
يناقش توينبي باستفاضة شواهد نظريته لتفسير ظهور وتكوين ونمو ومن ثم سقوط وتفكك
الحضارات عبر التاريخ وما يهمنا هنا توظيف (قانون) أو نظرية التحدي والاستجابة
لمحاولة فهم كيف استطاعت كتائب عز الدين القسام وغيرها من الكيانات والدول تطوير
ترسانتها العسكرية بالرغم من الحصار والصعوبات والمعوقات. أمر آخر يقرره توينبي وهو
أن الاستجابة للتحدي ليست فقط تتم من خلال الوسيلة الذهبية ولكن أيضا من ينفذ ذلك
هم في الغالب قلة من الناس أي صفوة من المجتمع تتحدى المعوقات وتجابه الشدائد من
أجل الارتقاء بأمتها. هذه الاستجابة للتحدي من خلال الوسائل الذهبية التي قصدها
توينبي قد تكون نتيجة عمل عباقرة من الأفراد أو نتيجة لابتكارات مجموعة سماها (أقليات
مبدعة creative
minorities ).
وبالمثال يتضح المقال كما يقال وبما إننا في
وارد الحديث عن التطور المذهل في ترسانة الأسلحة الموجودة لدى المجاهدين
الفلسطينيين بالرغم من الحصار وشح الموارد لعل من الملائم استحضار العبقرية التي
أبدعها أحد مشاهير العلوم في نصرة مدينته ضد الحصار الخطير والجيوش الغفيرة التي
تحاول اقتحامها. وتلك هي قصة عالم الرياضيات الإغريقي الشهير أرخميدس وهو خير مثال
لنظرية التحدي والاستجابة في جانبها العسكري على الأقل ففي عام 212 قبل الميلاد
عندما حاصرت الأساطيل البحرية الرومانية مدينة سيراكيوز عاصمة جزيرة صقلية شكل ذلك
تحديا عسكريا هائلا. أما الاستجابة التي قامت بها مدينة سيراكيوز حيال هذا
التهديد/التحدي فتمثل من خلال الوسيلة الذهبية المتعلقة بالمقاومة التقنية واختراع
وسائل الدفاع العلمية المتطورة التي أبدعتها عبقرية أرخميدس كما حصل عندما سلط
(شعاع أرخميدس الحراري) وهي أشعة الشمس المنعكسة من عدد من المرايا الضخمة والتي
أحرقت سفن العدو. ومن الاختراعات العسكرية التي طورها أرخميدس كاستجابة لتحدي
الحصار والهجوم البحري على مدينته يقال إنه اخترع كذلك رافعة ضخمة تستطيع أن تقبض
على سفن العدو بكماشة حديدة سميت مخلب أرخميدس ثم ترفعها وتقذف بها على الصخور ولا
غرابة في ذلك فأرخميدس هو مطور أنظمة البركات الرافعة وهو صاحب مقولة (أعطني مكان
لأقف فيه وسأحرك الأرض). ولمن تتاح له الفرصة لزيارة متحف أرخميدس في مدينة
سيراكيوز الصقلية سوف يشاهد نماذج مصغرة من هذه المخترعات وغيرها من مثل آلات
المنجنيق وقاذفات الأسهم والرماح الحديدة.
(استجابة) العبقري أرخميدس (لتحدي) الغزو
البحري الروماني لجزيرة صقلية هو تجسيد للمقولة الذائعة (الحاجة أم الاختراع) فتلك
الاختراعات الحربية لم تكن لتظهر لولا الحاجة المُلحة لمقاومة الغزو ومن هنا حصلت
(ولادة) تلك الاختراعات. في حين أن الدافع العسكري لتحسين جودة تلك الأسلحة قاد
إلى تطويرها وبهذا كانت الحرب وكأنها (مرضعة) تقوم بتغذية الاختراعات العسكرية وتُنميها
وترعاها. استجابة مشابهة لتحدي مشابه يمكن أن نستخلصها من قصة مقاومة المجاهدين في
أرض فلسطين لحصار وغزو الصهاينة الإسرائيليين وعلى قاعدة (الحاجة أم الاختراع) نجد
كذلك أن المقاومة الفلسطينية الباسلة اخترعت (من خلال الأقلية المبدعة التي ذكرها
توينبي) عددا كبيرا من أسلحة وترسانة المقاومة العسكرية. وفي خلال سنوات قليلة
انتقل الفدائيون في فلسطين من النضال بمجرد قذف الحجارة والمقاومة ببعض المسدسات
والبواريد العتيقة إلى استخدام الصواريخ والطائرات المسيرة بل وحتى الطوربيدات
البحرية والسلاح السيبراني!!. فمثلا الجيل الجديد من صواريخ القسام من نوع (عياش 250)
يصل مداه إلى حوالي 250 كيلومتر في حين أنه عندما ظهر أول صاروخ للمقاومة (قسام 1)
كان مداه فقط ثلاثة كيلومتر. علما بأن المقاومة تملك صواريخ أسمها (فاتح 110)
تتميز بأنها تحمل رؤوس حربية قد يصل وزنها إلى 500 كجم من المتفجرات والمثير للاهتمام حقا أنه
يتوقع بأن ترسانة أسلحة الصواريخ القسامية يمكن تصل إلى حوال 30 ألف صاروخ !!.
لقد أرضعت حرب الجهاد مواليدها من أسلحة
القتال ونمّتها مع الزمن من مجرد قذف الدبابات بالحجارة إلى استخدام الصواريخ
والمقذوفات المضادة للدروع مثل قذائف (الياسين 105) التي بفضل الله تستطيع تعطيل
وإعطاب دبابات الميركافا فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية بزعمهم. وكما على البر
فكذلك في الجو والبحر وعبر الأثير استطاعت المقاومة أن تطور طائرات مسيرة مثل
طائرات الدرون المسماة (أبابيل) التي تستطيع التحليق والتحويم واسقاط متفجرات وقنابل
يدوية. وبالإضافة لذلك يمكن استخدام طائرات (شهاب) أو مسيرات (الزواري) الانتحارية
التي تحمل رؤوس متفجرة مصغرة. أما الحرب البحرية فقد طورت المقاومة طروبيد محلي
الصنع حمل اسم (العاصف) وهو نوع من الغواصات المسيرة تحت الماء تم استخدامه بالفعل
أثناء عملية طوفان الأقصى. وبمناسبة ذكر طوفان الأقصى حصل أثناء الهجوم المفاجئ
تشويش على بعض أنظمة المراقبة والرصد الصهيونية ولهذا من المحتمل أن المقاومة
الفلسطينية ومن خلال وحدة (جيش القدس الإلكتروني) استخدمت أسلحة (سيبرانية) متقدمة
لشن حرب تشويش لشل التحصينات الدفاعية للعدو. علما بأنه سبق في سنوات سابقة
استطاعت كتائب عز الدين القاسم شن هجوم سيبراني تسبب في تعطيل أنظمة التحكم في عدد
من المؤسسات الأمنية والقواعد العسكرية الصهيونية واختراق كاميرات المراقبة
الأمنية الإسرائيلية وكذلك اختراق ترددات أجهزة الاتصال اللاسلكي لوحدات الجيش
الصهيوني.
معجزة عسكرية أم ردة فعل مبالغ فيها
ولعلنا نختم العلاقة بين التحدي العسكري
والاستجابة التقنية بالحالة الغريبة والشاذة نسبيا لدولة كوريا الشمالية فمن
المعلوم أنه بعد الحرب الكورية التي نشبت في عام 1950م واستمرت لمدة ثلاث سنوات
تدهور الوضع الاقتصادي بشكل مريع في شبه الجزيرة الكورية لدرجة أن جمهورية كوريا
الجنوبية وحتى عام 1960 كانت من أفقر دول العالم وتقارن في اقتصادها بدولة غانا
الإفريقية. صحيح أن (المعجزة) الاقتصادية الكورية جعلت تلك الدولة ليس فقط من أقوى
النمور الاقتصادية الآسيوية، ولكن من أقوى الاقتصادات الدولية المعاصرة ومع ذلك
ينبغي ألا نغفل أن قصة نجاح الاقتصاد الكوري الجنوبي كانت في بدايتها تعتمد بشكل
كبير على المساعدات الخارجية خصوصا من أمريكا من خلال (برنامج الإنعاش الآسيوي)
المشابهة لمشروع مارشال لدعم الاقتصاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية أو من
خلال الدعم الدولي لكوريا الجنوبية من خلال وكالة الأمم المتحدة لإعادة إعمار
كوريا.
ما أود الوصول له أنه وفق استراتيجية
الاحتواء التي اتبعتها الولايات المتحدة وحلفائها أثناء الحرب الباردة بهدف منع
انتشار الشيوعية لذا حرصت أمريكا على مد يد المساعدة المالية والعسكرية والإدارية
للنظام الحاكم في جمهورية كوريا الجنوبية لكي يجابه ويمنع تقدم الشيوعيين من الجار
الشمالي أي من كوريا الشمالية. ومع الزمن سوف تحصل (المعجزة) العسكرية في كوريا
الشمالية في مقابل المعجزة الاقتصادية في كوريا الجنوبية وذلك أنه وفق (قانون)
التحدي والاستجابة السالف الذكر، هنا سوف يجد نظام الحكم في بيونغ يانغ عاصمة
كوريا الشمالية أنه يجب أن (يتصدى) ويستجيب للتحدي (الوجودي) الذي يتهدده من
أمريكا وحلفائها القاصي والداني. في الواقع وطوال التاريخ المعاصر لطالما وصفت
كوريا الشمالية بأنها الدولة المعزولة بسبب رعونتها الشديدة لدرجة أنها قبل شهرين
فقط أعلنت بأنها ستغلق سفاراتها في العديد من الدول علما بأن علاقتها بجيرانها
عدائية وبحلفائها مثل الصين وروسيا متذبذبة. وبمختصر الكلام كوريا الشمالية دولة
شبه معزولة ومحاصرة بدول في حالة عداء معها وعلى علاقة متوترة جدا مع العالم
الغربي ومع هذا التحدي السياسي والمقاطعة العسكرية (لدرجة أن الصين صوتت مع قرار
الأمم المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية عليها) والعداء العسكري إلا أن كوريا الشمالية
استطاعت وبشكل شبه منفرد في تحقيق معجزة عسكرية مدهشة. لقد أذهلت كوريا الشمالية العالم
بقدراتها الخارقة في الصناعات العسكرية فهي ليس فقط استطاعت تصنيع قنبلة ذرية بل إنها
تمكنت كذلك من إجراء تجارب أولية لتصنيع القنبلة الهيدروجينية الأكثر تعقيدا وتدميرا.
ومن جانب آخر تمكنت التقنية العلمية المتقدمة في كوريا الشمالية ليس فقط في تصنيع
وتطوير صواريخ حربية بالستية عابرة للقارات وصواريخ كروز متقدمة بل إنها توصلت
كذلك لتصنيع صواريخ فضاء قادرة لإرسال الأقمار الاصطناعية التجسسية الكورية إلى
الفضاء الخارجي. والغريب أنه في السنوات الأخير اخترعت كوريا الشمالية أسلوبا جديدا
في منظومة الردع والتهديد العسكري وذلك بمحاولة تصغير القنابل الذرية لدرجة
تحميلها على طائرات مسيرة مصغرة.
وواضح جدا مما سبق وصفه أن تطوير الصناعات
العسكرية وتوسيع ترسانة إنتاج الأسلحة الحربية في كوريا الشمالية يستنزف نسبة كبير
من اقتصاد تلك الدولة المعزولة والمشاغبة. وعليه في الختام سوف نقع في حيرة في
التنبؤ في مستقبل هذا الكيان الشاذ والغريب فمن جهة ووفق نظرية التحدي والاستجابة
يتنبأ توينبي بأن التحدي المفرط سوف يسحق الحضارة (ويمكن أن نقول الدولة) بينما
التحدي القليل جدا سوف يؤدي إلى ركودها ولكن الدورة المستمرة من التحدي والاستجابة
سوف تساهم في تطور ونمو واستمرارية تلك الكيانات. وعليه (الأقلية المبدعة) في كوريا
الشمالية بجهودها المتواصلة في إيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي يواجها النظام
الكوري بالفعل قد تساهم في بقائه وصموده. ومن جانب آخر مختلف تماما نجد أنه وفق
نظرية المؤرخ الأمريكي المعاصر بول كينيدي حول صعود وسقوط القوى العظمى وبعد
استقراء التاريخ (كما فعل أرنولد توينبي) يقرر أن التوسع العسكري المفرط والضاغط
على الاقتصاد يقود في نهاية المطاف إلى أفول سيطرة الدول الكبرى وفقدانها للقوة
والنفوذ.
كلمة أخيرة، بلا شك التاريخ حمال أوجه ويمكن تفسيرها بطرق مختلفة ووضع النظريات والقوانين المتعددة والمتوهمة في محاولة تحليل ماضيه واستشراف مستقبله ومع ذلك لعلنا فيما يتعلق بواقعنا العربي على الأقل نركن إلى السنن الإلهية التي تعد بالنصر والتمكين لمن نصر الدين ولو بعد حين حتى وإن لم يملك المجاهد والمناضل إلا ما تيسر. فوفق الإرشاد الرباني (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) كانت احتمالات النصر في أول الأمر يمكن أن تصل أن يغلب عشرون صابرون مئتين وتستطيع كتيبة من مئة من المؤمنين هزيمة جيش من ألف من الكافرين وأعداء الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق