الأحد، 10 ديسمبر 2023

( محطات الانكسار في مسيرة صلاح الدين الأيوبي )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 للجنرال الأمريكي المعاصر مايكل لي لاننج عدة كتب متخصصة عن تاريخ المعارك الحربية وأبرز القادة العسكريين في التاريخ وفي الواقع في كل من كتابه (100 قائد عسكري The Military 100) وكتاب (أهم 100 معركة حربية The Battle 100) نجد فصول خاصة عن القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي وانتصاره الأسطوري في معركة حطين الفاصلة. الجدير بالذكر أن الإعجاب بشخصية صلاح الدين ونبل أخلاق الفروسية لديه بالإضافة لعبقريته العسكرية متجذر في الثقافة الغربية والكتابات الأوروبية لدرجة أنه تم تأليف كتب خاصة عن جوانب الأسطورة في رؤية الغربيين لصلاح الدين ومن ذلك كتاب (أسطورة صلاح الدين في الأدب والتاريخ الغربي) للباحثة البريطانية في الدراسات الأدبية مارغريت جوب وكتاب (حياة وأسطورة السلطان صلاح الدين) للمؤرخ البريطاني جوناثان فيليبس.

والمقصود أن الخصوم قبل الحلفاء والأعداء قبل الأصدقاء كلهم فتنوا وأعجبوا بالمسيرة الجهادية المباركة والنضال الحربي البطولي لصلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس وقاهر الصليبيين والقائد الذي استطاع أن يجمع كلمة ومواقف العرب والمسلمين في هدف واحد.

وكما هو معلوم للقاصي والداني فإن طريق ومسيرة النصر تمر على محطات الهزيمة ولحظات الانكسار ومواقف الضعف كما تمر على محطات النصر ولحظات السمو ومواقف القوة. في فن الحرب وباستقراء نتائج مسيرة المعارك الفاصلة في التاريخ أصبح من الشائع قبول القاعدة والحكمة العسكرية التي تقول (لكي تكسب الحرب لا بأس أحيانا من أن تخسر بعض المعارك). عندما وصل القائد والثائر القرطاجي هانيبال أخيرا بأفياله وجيشه الجرار إلى الأراضي الإيطالية ضل لمدة سبع عشرة سنة وهو ينتصر في سلسلة من (المعارك) الصغيرة لكن لم يتمكن على الإطلاق من تحقيق النصر الحاسم في (الحرب) ضد الإمبراطورية الرومانية. لا يوجد في التاريخ أي قائد عسكري انتصر في جميع المعارك التي خاضها لأن أمثال هذا القائد المظفر دائما هو مجرد خيال ومصيره الهلاك ففي ملحمة الإلياذة لهوميروس كان البطل الأسطوري آخيل ينتصر في كل معركة يخوضها وفي النهاية قتل بسبب جرح بسيط بسهم في كعب قدمه بينما البطل الفارسي الأسطوري رستم وإن كان ينتصر دائما في معاركه كما أوردها الفردوسي في ملحمة الشاهنامة ومع ذلك قتل بمجرد أن سقط في بئر.

وما أريد الوصول له أن مسيرة الجهاد لدى القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي هي من أرض الواقع وليست مجرد أسطورة من نسج الخيال وبحكم أنها كذلك فقد تمكن ولله الحمد من النصر في (الحرب) ضد الصليبيين، ولكن هذا لا يعنى أنه لم يخسر العديد من (المعارك). وهذه نقط تاريخية مهمة وجديرة بالتوضيح وخصوصا في زمننا الحالي مع زيادة المكابدة التي يعاني منها إخوتنا المجاهدون في أرض فلسطين فهم قد يخسرون بعض (المعارك) ولكن بمشيئة الله النصر لهم في (الحرب) ضد الصهاينة الغاصبين.

وهذا يقودنا وبشكل عام للإشارة والاستعراض السريع لبعض محطات ومراحل التعثر والانكسار في المسيرة الجهادية للمثل الأعلى للمجاهدين العرب القائد المسلم السلطان صلاح الدين. فمنذ بدايات المسيرة الجهادية لصلاح الدين واجهته العقبات والمصاعب الواحدة تلو الأخرى ففي سن السابعة والعشرين تعرض الشاب صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه لحصار خانق لمدة ثلاثة أشهر في مدينة بيلبيس في شمال القاهرة. ذلك الحصار الخطر أشترك فيه الصليبيون ممثلين بملك بيت المقدس عموري الأول وحليفهم الخائن الوزير الفاطمي شاور السعدي. وما كاد الشاب صلاح الدين ينجو من ذلك الحصار بالقرب من القاهرة حتى تعرض لحصار أخطر وأصعب، ولكن هذه المرة في مدينة الإسكندرية حيث حاصره من البحر الأسطول الصليبي القادم من جزيرة صقلية بينما كانت تحاصره من البر قوات مملكة بيت المقدسة الصليبية.

ويبدو أن لحظة الحصار العصيبة هذه في الإسكندرية أثرت كثيرا في نفسية الشاب صلاح الدين وأعادت تشكيل طريقة تفكيره فهو مثلا عندما طلب منه السلطان المجاهد عماد الدين زنكي أن يرجع مرة ثانية لحماية مصر من هجوم الصليبيين تقهقر صلاح الدين وتراجع. وحسب ما أورده المؤرخ الكبير ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ فإن صلاح الدين قال (أمرني نور الدين بالمسير إلى مصر فالتفت إلى عمي أسد الدين شيركوه فقال تجهز يا يوسف فقلت والله لو أُعطيت ملك مصر ما سرت لها فلقد قاسيت بالإسكندرية وغيرها ما لا أنساه أبدا). وتحت إصرار نور الدين زنكي وعندما أجبر أخيرا صلاح الدين على المسير مع عمه أسد الدين إلى مصر كان بغير رغبة منه لدرجة أن صلاح الدين وصف حاله وكأنما هو يساق إلى الموت. ويقال إنه بسبب استشعار صلاح الدين لخطورة أن يقاتل الصليبيين وظهره مكشوفا للأعداء كما حصل في حصار بلبيس وحصار الإسكندرية توصل إلى قناعة ضرورة الاستيلاء على حكم مصر وسحبها من يد الدولة الفاطمية الشيعية. 

 أوقات عصيبة في ساحة الجهاد

بعد سنوات قليلة من استقرار زمام الحكم في مصر للسلطان صلاح الدين وتمكنه من تأسيس الدولة الأيوبية استطاع خلال معارك متعددة انتصر فيها جميعا وبشكل متدرج من توسعة دائرة حدود ملكه لتشمل كامل بلاد الشام وشمال العراق واليمن وتونس وأطراف ليبيا. وأخيرا كان لا بد من تبدأ فصول المعركة الحاسمة مع أهل الصليب ولكن للأسف ربما لم يكن بعد صلاح الدين ولا رجاله مستعدين لها بالشكل المطلوب. في الواقع بعد نصر سريع وسهلة في مدينة عسقلان تعرض صلاح الدين والجيش الإسلامي لامتحان حقيقي في معركة تل الجزر بالقرب من مدينة الرملة وبعد أن تعرض صلاح الدين في شبابه لأهوال حصار مدينة الإسكندرية على يد ملك بيت المقدس عموري الأول إذا به الآن وفي موقعة الرملة يتقابل مع ولده بلدوين الرابع ملك بيت المقدس وقائده الخطير أرناط أمير الكرك. لقد تعرض صلاح الدين وجيشه لهزيمة ثقيلة في تلك المعركة لدرجة أنهم ظنوا أن صلاح الدين قد قتل وبالفعل أستشهد وتم أسر بعض إخوانه وأقاربه بالإضافة لعدة آلاف من المجاهدين. وفي الواقع كانت تلك هزيمة شنيعة حتى وإن سماها المؤرخ بهاء الدين ابن شداد في كتابه عن سيرة صلاح الدين (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) بأنها (كسره) ومع ذلك قال إن الله سبحانه وتعالى في معركة الرملة قدّر كسرتهم فانكسروا كسرة عظيمة. في الحقيقة كارثة هزيمة تل الجزر حصلت عام 573 هـ أي بالضبط قبل عشرة سنوات من النصر الكبير للمسلمين في معركة حطين ولكن للأسف لا يمكن اعتبار محطة الانكسار تلك مرحلة نادرة لن تتكرر وأنها فقط حصلت في بدايات جهاد صلاح الدين رحمة الله ضد الفرنجة. بل أن الهزيمة الأخطر التي تلقاها صلاح الدين وجيشة كانت بعد النصر الكبير في معركة حطين وبعد شرفه الله باستعادة بيت المقدس.

في الواقع بعد أن استعاد الملك العادل صلاح الدين بيت المقدس يمكن أن نعتبر تلك اللحظة هي إرهاصات بداية الحروب الصليبية الثالثة وذلك عندما تداعى الفرنجة والنصارى لاستعادة القدس وفلسطين من أيد المسلمين. ولهذا في عام 587 هجرية وصل الملك الإنجليزي ريتشارد الأول (ريتشارد قلب الأسد) إلى مدينة عكا وسيطر عليها وهنا بدأت المشاكل الضخمة لصلاح الدين. فأولا قام الملك الإنجليزي بتنفيذ مجزرة شنيعة ضد المسلمين في عكا مما تسبب في حرج بالغ لصلاح الدين ولاحقا خسر صلاح الدين معركة حربية أمام ريتشارد اسمها معركة أرسوف وثالثا أصابت صلاح الدين رحمة الله نوع من الإهانة والانشقاق الداخلي فيما يتعلق بالمحافظة على مدينة عسقلان. ما حدث أنه مع بداية الحملة الصليبية الثالثة استطاع الملك ريتشارد الأول وملك فرنسا فيليب استطاعوا السيطرة السريعة على بعض المدن الساحلية المهمة مثل عكا ويافا وهنا أستشعر صلاح الدين الخطر البالغ فيما لو سقطت كذلك قلعة مدينة عسقلان. في كتاب الكامل في التاريخ لابن الثير توثيق للمحادثة بين صلاح الدين وبين الأمراء وقواد جيشه وكيف أنه طلب منهم أن يذهبوا لتحصين قلعة عسقلان لكيلا تقع في أيد الفرنج لكنهم رفضوا ذلك وخافوا أن يقتلوا كما حصل لأهل عكا. بل إنهم قالوا لصلاح الدين (إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد) وبهذا تم أجبار صلاح الدين على أن يوافق على يقوم المجاهدون بأنفسهم تخريب حصن عسقلان وكذلك تخريب حصن مدينة الرملة.

وبالجملة كان لصلاح الدين رحمة الله شهرة أسطورية كبرى عندما حقق النصر في معركة حطين ومن ثم أصبح لجدارة تامة يلقب بـ (محرر المسجد الأقصى) ولفترة من الزمن كان يلقب كذلك بـ (قاهر الصليبيين). ولكن للأسف فالمؤرخ الأمريكي المعاصر توماس مادن والمتخصص في الحروب الصليبية يقول إنه بسبب النجاح النسبي للحملة الصليبية الثالثة فإن (معظم انتصارات صلاح الدين في أعقاب معركة حطين تم مسحها).

أما وقد صلت معي أيه القارئ الكريم إلى هذه المحطة في سيرة محطات الانكسار في مسيرة المجاهد الأكبر والبطل الأشهر السلطان العادل صلاح الدين الأيوبي أود أن أنبه أن الهدف من السرد السابق ليس الاستنقاص من نصاعة تاريخ الجهاد والنضال لشيخ المجاهدين (كما حاول ذلك الكاتب المأزوم يوسف زيدان أخزاه الله). ولكن الهدف الأساسي هو التماس العذر للمجاهدين في أرض فلسطين في الزمن المعاصر أنهم قد تمر عليهم لحظات الضعف والهزيمة والانكسار كما هو حال جميع المجاهدين والأبطال في كل التاريخ بل إنهم قد يخسرون بعض المعارك ولكنهم في خاتمة المطاف ينتصرون بمشيئة الله في حرب الكرامة والنضال.

وفي الختام أود أن أوكد بأن أرض فلسطين بالذات كانت دائما أرض الملاحم والمعارك الكبرى ومن ذلك مثلا أنه في عام 614م حصلت معركة كبرى بين الفرس بقيادة الملك خيسرو الثاني وبين الروم بقيادة الإمبراطور البيزنطي هرقل ونتج عن ذلك سقوط القدس في يد المجوس والغالب والله أعلم أنه هذه الهزائم التي نكب بها النصارى هي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الروم (الم * غُلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون).

وهذا ما حصل فكتب التاريخ تقول أن الإمبراطور الشاب هرقل الذي ذاق طعم الهزيمة ذاق طعم النصر بعد ذلك بسنوات قليلة إذ أخذ ينتصر في معارك متلاحقة ضد الفرس. وبالتحديد في عام 629م استطاع هرقل أن يعيد انتزاع بيت المقدس من الاحتلال الفارسي المجوسي له وفي هذه الفترة تقريبا حصل صلح الحديبة وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل عظيم الروم يدعوه للإسلام. في هذا التوقيت كان أبو سفيان في دمشق وهنا استدعاه هرقل لكي يسأله عن هذا النبي الذي ظهر في بلاد العرب وقد كان من ضمن أسئلة هرقل لأبي سفيان: (كيف قتالكم إياه؟ فقال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منّا وننال منه) وبعدها كان رد الإمبراطور هرقل بقوله (وسألتك كيف كان قتالكم إيّاه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة).

ويبدو أن هذا قدر المجاهدين في أرض الرباط والملاحم في فلسطين الحرب بينهم وبين عدوهم حرب سجال وتداول للنصر والهزيمة، ولكن في خاتمة المطاف العاقبة للمؤمنين والمجاهدين الصابرين بمشيئة الله (في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق