الأحد، 10 ديسمبر 2023

( الأنفاق سلاح الخلاص من سايغون إلى سراييفو )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 قديما مرت علي القصة الطريفة التي تذكر أن الملك فيصل رحمة الله أثناء تسليمه لكأس الملك لفريق نادي الإتحاد قام بإطلاق وصف (خط ماجينو) على حارس نادي الإتحاد القديم تركي بافرط وذلك لمهارته الفائقة في صد هجمات الفريق المنافس. وخط ماجينو يقصد به التحصينات الدفاعية والقلاع الخرسانية التي أنشأتها فرنسا بطول حدودها مع عدوها اللدود ألمانيا وعلى خلاف (خط بارليف) الإسرائيلي والذي هو عبارة عن ردم ترابي هائل ثبت بالفعل أن خط ماجينو لا يمكن عبوره ولهذا عندما غزا النازيون فرنسا في بدايات الحرب العالمية الثانية تجنبوا تماما هذه العقبة العسكرية المنيعة. وفي الواقع خط بارليف الصهيوني أقيم فوق الأرض ولهذا تم بواسطة دفع خراطيم المياه (تجريف) الأسطورة الإسرائيلية بأنه يستحيل عبوره وذلك لأن لا جذور له تحت الأرض في حين أن خط ماجينو وبالرغم من أنه مكون من خمسين قلعة خرسانية مصغرة إلا أن أحد أسباب قوته وصموده أن هذه القلاع كلها مرتبطة تحت الأرض بشبكة واسعة وعميقة من الأنفاق التي تسمح بنقل الذخيرة الحربية والجنود بينها بسرعة وسرية تامة.  

وإذا كانت الحرب العالمية الأولى تسمى (حرب الخنادق Trench Warfare) فإنه على نفس النسق نجد أنه من الأوصاف التي يمكن إطلاقها على الحرب العالمية الثانية بأنها (حرب الأنفاق Tunnel Warfare) وذلك لكثرة استخدام نظام الإنفاق تحت الأرض في العمليات العسكرية سواءً بهدف الدفاع أو الهجوم وبالمناسبة يمكن تسمية الحرب الباردة بأنها (حرب الملاجئ Bunker Warfare) بسبب شيوع استخدام الملاذات المحصنة تحت الأرض التي يمكن أن تساعد في النجاة حتى من الحرب النووية !!.

وعلى كل حال منذ العصور القديمة تم استخدام الإنفاق الطبيعية مثل أو الكهوف والمغارات أو الإنفاق المحفورة بشكل متعمد لتكون أحد الوسائل الحربية والتكتيكات العسكرية التي يمكن أن تستخدمها الجيوش النظامية أو الجماعات المسلحة. صحيح أن الاستخدام الفعلي لمصطلح (حرب الأنفاق) لم يظهر ويشيع استخدامه إلا في الحرب العالمية الثانية وذلك أثناء حرب المقاومة الصينية ضد الاحتلال الياباني إلا أن هذا المبدأ موجود منذ القدم. فهذا المؤرخ اليوناني بوليبيوس يصف حصار الرومان لمدينة أمبراسيا اليونانية العتيقة وكيف أن هجومهم عن طريق حفر الأنفاق تم مواجهته بهجوم مضاد تمثل ليس فقط في استخدام المدافعين عن أمبراسيا سلاح الأنفاق المضادة ولكن أيضا باستخدام الشكل البدائي من (الحرب الكيميائية) وذلك من خلال تعمدهم توليد دخان كثيف داخل النفق الروماني بواسطة اشعال ريش الطيور مع الفحم.

ولطالما كانت حروب الأنفاق مرتبطة بالأخبار الفريدة والعجيبة فهذه مدينة نوشاباد الإيرانية نجدها هي الأخرى ومنذ أكثر من 1500 وهي محصنة بسلسلة من الأنفاق الدفاعية لدرجة أنها أصبحت مدينة من ثلاث طوابق مشيدة تحت الأرض. وبالإضافة لاستخدام متاهة من الأنفاق التي تتسبب في ضياع وحيرة المهاجمين على مدينة الأنفاق تلك قام أهلها كذلك بحفر أنفاق عميقة داخل الغرف الداخلية يتم تغطيتها بحجارة دوارة التي تسقط إذا تم المشي عليها وهي بهذا تذكرنا بتلك المقاطع الطريفة التي تشاهد في الأفلام السينمائية وأفلام الرسوم المتحركة عن مثل هذه الفخاخ الخطيرة. وطبعا غني عن القول إن هذه الأنفاق العجيبة أصبحت اليوم مزارا سياحيا وسبب شهرة واسعة لتلك المدينة الفارسية الصغيرة والمعزولة.

أما أشهر وأكبر (مدينة أنفاق) على الإطلاق فهي تلك الموجودة في وسط منطقة الأناضول في تركيا وتسمى مدينة الجن لأنها مدينة في باطن الأرض واسمها باللغة التركية مدينة ديرنكويو والتي تعني (مدينة البئر العميق). وإذا كانت مدينة نوشاباد الإيرانية مكونة من ثلاث طبقات تحت الأرض فهذه المدينة التركية مكونة من تسع طبقات ولهذا يصل عمقها تحت الأرض إلى 85 متر. ومن عجائب مدينة الأنفاق هذه ليس فقط عمقها السحيق، ولكن كثرة الأنفاق بها لدرجة أن تلك المدينة المخسوفة تحت الأرض التي تعود بدايات تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي وصل بها الحال في فترة من الفترات أنها كان بإمكانها أن تستوعب حوالي 20 ألف ساكن. ونظرا للحجم الهائل لتلك المدينة تحت الأرض كان بها غرف ضخمة تستخدم كإسطبلات للحيوانات أو كنائس للعبادة أو مستودعات لتخزين الطعام ولهذا لقرون طويلة جدا كانت تلك الأنفاق وسيلة دفاع فعالة للنصارى في حروب البيزنطية مع الخلافة الإسلامية أو للاختباء والاحتماء من هجمات المغول.

وإذا كان برابرة آسيا في القديم هم جحافل المغول فإن همج أوروبا في تلك العصور هم جحافل الفايكنغ وبدورهم عندما غزوا فرنسا في القرن التاسع الميلادي هرب الناس منهم إلى الكهوف والجبال وكان من ضمن ذلك أنفاق مدينة ناورس في شمال فرنسا. ومرة أخرى نجد هنا مدينة متكاملة تقع تحت الأرض بها حوالي 300 غرفة وعدة أميال من الإنفاق وكانت تتسع لسكن وإقامة ثلاثة آلاف شخص.

 دروس الأنفاق من فيتنام إلى سراييفو

ما سبق الحديث عنه يعطي انطباع واضح عن الدور الذي يمكن أن تقوم به الإنفاق تحت الأرض في الدفاع عن السكان من هجمات جيوش الأعداء أو غارات اللصوص والبرابرة، ولكن يمكن أن تستخدم الأنفاق كذلك كسلاح فعال في العمليات القتالية والتكتيكات الهجومية العسكرية. في شمال الصين توجد قرية صغيرة اسمها رانزهوانج اشتهرت بوجود أنفاق تحت الأرض استخدمها المناضلون من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني أثناء مقامة الاحتلال الياباني للصين. وكانت الفكرة من هذه شبكة الأنفاق هذه أنها توفر عددا كبيرا من الفتحات في أرض المعركة وبحكم أن هذه الفتحات مموهة ومخفية بالقش أو بالشجيرات فيمكن أن يخرج منها فجأة رجل (حركة المقاومة) الصيني ويقتل عدوه الياباني. ونظرا للمهانة التي تعرضت لها الصين من قبل جارتها الإمبراطورية اليابانية سواء قبل الحرب العالمية الثانية عن طريق غزو إقليم منشوريا أو أثناء الحرب اليابانية الصينية الثانية التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية حرص الحزب الشيوعي الصيني كثيرا على إبراز دور حرب الأنفاق تلك لدرجة أنها أصبحت مزارا للشعب الصيني لتعزيز الكرامة الوطنية. ولهذا وبشكل دائم تنظم الزيارات لطلاب المدارس ولعامة الشعب لزيارة المتحف الخاص بتلك الأنفاق وكذلك عن طريق إنتاج أفلام سينمائية عالية الجودة حمل أحدها اسم (حرب الأنفاق).

أسلوب الهجوم المباغت من تحت الأرض باستخدام شبكة الأنفاق استخدمته كذلك (حركة المقاومة) الفيتنامية أثناء قتالها للجيش الأمريكي المحتل لأرض فيتنام الجنوبية. وبمناسبة ذكر الأفلام السينمائية عن حرب الأنفاق تجدر الإشارة إلى وجود فليم غربي يحمل عنوان (جرذان الأنفاق) تدور أحداثه عن فرقة عسكرية أمريكية حقيقة ذات تدريب خاص في القتال تحت الأرض كان اسمها فرقة (جرذان الانفاق) ربما على نفس نسق الفرقة الحربية الإنجليزية المشهورة (جرذان الصحراء). عندما قام إخوتنا في (حركة المقاومة) الفلسطينية بتخطيط القائد الميداني محمد الضيف بهجومهم المباغت في صباح يوم السبت السابع من شهر أكتوبر كان ذلك يتوافق مع عيد ديني يهودي اسمه (سمحات توراه) ولهذا كان البعض من القوم من أهل صهيون يقيمون الحفلات الصاخبة. بعض أفراد الجهاد الفلسطيني استخدموا الأنفاق لمباغتة العدو الصهيوني والخروج عليهم من تحت الأرض وهذا التكتيك الحربي له مشابه في أحداث الحرب الأمريكية الفيتنامية واستخدام الأنفاق كسلاح هجوم.

في صبيحة يوم 29 يناير من عام 1968م قام الثوار الفيتناميون المعرفون باسم الفيت كونج وبتخطيط من قبل الجنرال الشهير فو جياب بهجوم عسكري كبير تزامن هو الآخر مع عيد ديني فيتنامي يتوافق مع بداية السنة القمرية. بقي أن نقوم أن ذلك الهجوم المفاجئ الفيتنامي الذي بدأ في يوم 29 يناير المشابه للهجوم المفاجئ الفلسطيني في يوم السابع من أكتوبر، شهد اقتحام عدد ضخم من المواقع العسكرية الأمريكية والصهيونية وتسبب في تكبد كلا من الجيش الأمريكي قديما والجيش الصهيوني حديثا خسائر هائلة في أرواح الجنود والمعدات العسكرية. في حال كان (تاريخ المقاومة) يعيد نفسه فقد ساعدت شبكة الأنفاق الفيتنامية المسماة أنفاق كوتشينغ المنطلقة من مدينة سايغون عاصمة الجنوب الفيتنامي وبذلك الهجوم المباغت في خلخلة التواجد العسكري الأمريكي في فيتنام لدرجة نشوء بداية التفكير الجدي من قبل الأمريكان في مغادرة المقبرة الفيتنامية. ولهذا بمشيئة الله سوف يكون لشبكة الأنفاق الفلسطينية المنطلقة من مدينة غزة عاصمة الجنوب الفلسطيني دورها التاريخي وبصمتها العسكرية في (بداية) هزيمة جيش ودولة وشعب الكياني الصهيوني الأثيم.

في عام 1993م وأثناء حرب البوسنة قامت القوات الصربية بفرض حصار خانق لمدينة سراييفو وكوسيلة لتخفيف معاناة المحاصرين قام أهل البوسنة بحفر نفق يبلغ طوله 840 مترا فقط ومع ذلك قلب ذلك النفق المفرد موازين المعركة حيث كان يتنقل من خلاله يوميا أكثر من 3000 جندي بالإضافة لعشرات الأطنان من المواد الغذائية والذخائر. ونظرا للدور الحاسم لذلك النفق الوحيد في خلاص ونجاة أهل سراييفو لذا لا غرابة أن نعلم بأن ذلك النفق كان يلقب بنفق الحياة أو نفق الأمل أو نفق الخلاص. وعليه بوجود شبكة متشعبة من الأنفاق تحت قطاع غزة قد تزيد عن 2500 نفق وبمجموع أطوال يفوق 500 كيلومتر وفي جميع الاتجاهات نأمل بمشيئة الله أن تكون هذه الأنفاق هي سلاح الخلاص وطريق الأمل ووسيلة تحقيق حياة العزة والكرامة لأهلنا في فلسطين أرض الجهاد والرباط.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق