الأحد، 10 ديسمبر 2023

( غزة أولاً )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 يقال إن الجنرال الفرنسي الشاب نابليون بونابرت عندما غزا مصر في نهاية القرن الثامن عشر وتوجه لاحقا لاحتلال الشام والقدس مر في طريقه على مدينة غزة كما فعل ذلك عبر التاريخ عدد لا يحصى من الأباطرة والملوك وجنرالات الحروب، وهنا وصف نابليون الأهمية الاستراتيجية لمدينة غزة ملتقى القارات بأنها (مخفر أمامي لإفريقيا وباب آسيا). ولهذا المستعرض لتاريخ مدينة غزة يجد أن اسمها أرتبط بشخصيات مهمة في التاريخ كلهم مر وأقام في مدينة غزة ولو لعدة أيام فمنهم الفرعون المصري رمسيس الثاني (فرعون موسى) وهو في طريقة إلى معركة قادش لمحاربة الحيثيين في سوريا. وفي الواقع بعد وصول رمسيس الثاني لمدينة غزة وذلك في حدود 1274 قبل الميلاد أرسل منها وحدة عسكرية من جنود النخبة اتجهت شمالا عبر الساحل وحاولت التواصل مع قادة الشعوب الكنعانية في أرض فلسطين لكي تكسب ولائهم في معركة قادش والتي لو انتصر فيها ضمن أن يوسع نفوذ مملكته من الجنوب (أفريقيا) إلى الشمال (آسيا).

وبعد مرور رمسيس الثاني بمدينة غزة وبعد حوالي ألف سنة من تلك اللحظة نجد أن الإسكندر المقدوني يحاول هو الآخر توسيع دائرة نفوذه وحدود إمبراطوريته، ولكن هذه المرة بالاتجاه من الشمال إلى الجنوب مرورا بـ (غزة أولا). بعد أن سيطر الإسكندر الأكبر على سوريا ولبنان رغب في احتلال أرض الفراعنة في مصر ولهذا قام في عام 332 ق.م بحصار مدينة غزة لأنها كما وصف نابليون هي نقطة الحماية (المخفر) للقارة الإفريقية. في تلك الفترة كانت مدينة غزة تقع تحت حكم الإمبراطورية الفارسية ويعيش بها طائفة واسعة من العرب وبعد ثلاث محاولات فاشلة وحصار لمدة شهرين تمكن أخيرا جيش المقدونيين من اقتحام أسوار غزة وذلك وفق ما ذكره المؤرخ الروماني القديم آريانوس في كتابه (تاريخ حروب وفتوحات الإسكندر الأكبر). ولكن تجدر الإشارة إلى أن المراجع التاريخية الرومانية القديمة توثّق لبعض الصعوبات التي واجهها الإسكندر المقدوني عند محاولة اقتحام أسوار غزة فمثلا المؤرخ آريانوس سالف الذكر يسجل في كتابه أن الإسكندر حصلت له حادثة مزعجة أثناء أداءه لطقوس التقرب للإلهة قبل المعركة وعندما سأل العرّاف عن معنى ذلك قال له: أيها الملك إنك سوف تستولي على المدينة ولكن عليك أن تعتني بنفسك في هذا اليوم.

وهذا ما حصل فبالفعل أثناء محاولة الإسكندر اقتحام المدينة أصيب بجرح خطير وغائر في كتفه من جراء شظية من حديد قذيفة المنجنيق. وكذلك حصل للإسكندر حادثة أخرى هامة ومميزة بعد اجتياح مدينة عزة وقد ذكرها المؤرخ الروماني كورتيوس في كتابه (تاريخ الإسكندر الأكبر) عندما ذكر أن العرب قاتلوا بشراسة اثناء معركة حصار غزة وأضاف بقوله إن أحد المقاتلين العرب تظاهر بالاستسلام وبعد نقله إلى المعسكر المقدوني حاول اغتيال الإسكندر ولكنه فقط أصيب بجروح طفيفة من ذلك الهجوم. ومن هذا وذاك وبسبب بسالة المدافعين عن غزة نعلم لماذا بالغ الإسكندر المقدوني بعد احتلال غزة في إعدام الآلاف من الجنود المدافعين عنها وبيع النساء والأطفال كعبيد. ونتيجة للحنق الطاغي الذي أصاب الإسكندر من مقاومة أهل غزة قام بربط رجل قائد الحامية المدافعة عن غزة (الجنرال الفارسي باتيس) بعربة الإسكندر الحربية وسحله وهو ما زال حيا تحت أسوار غزة وكأن الإسكندر يتأسى ويقلد أخيل البطل الإغريقي عندما سحل خصمه فيكتور تحت أسوار طروادة حسب ما ورد في الإلياذة.

أما كيف اصبحت مدينة عزة تحت حماية الكتيبة العسكرية الفارسية فهذا يعود لأن الملك قمبيز الثاني ابن قورش وهو أشهر ملوك الفرس الذين أسسوا الإمبراطورية الفارسية في القرن السادس قبل الميلاد أراد أن يوسع ملكه هو الآخر بالاتجاه من الشمل إلى الجنوب ومن غرب آسيا إلى شمال أفريقيا وهكذا كالعادة كان يجب أن يمر بـ (غزة أولاً). ولكن كما واجه الإسكندر مقاومة شرسة من أهل غزة، تشير بعض المصادر التاريخية أن المدينة الوحيدة التي قاومت الإمبراطور الفارسي قمبيز وهو في طريقة لتحقيق لقب ملك الشمال والجنوب وموحد الأرضين كانت مدينة غزة التي أضطر هو الآخر كما فعل الإسكندر لأن يحاصرها لفترة من الزمن. وهذا نص شهادة المؤرخ اليوناني القديم بوليبيوس عن بسالة الغزاوية القدماء (إن شعب غزة هو الشعب الوحيد في سوريا الذي قاوم وواجه هذا الغزو كرجل واحد وخضع للحصار، بينما تملك الرعب سكان المدن الأخرى نتيجة القوة الضخمة للمعتدين وقاموا بتسليم أنفسهم وبلادهم للفرس).

 الطريق من حطين إلى عين جالوت يمر بـ غزة أولاً

المؤرخ اليوناني هيرودوت يستحق لقبه المشهور (أبو التاريخ) لأنه بدأ في تأليف كتابه تاريخ هيرودوتس (Historiai) في زمن متقدم جدا أي في حدود العام 450 قبل الميلاد وما يهمنا هنا الإشارة له أن هيرودوت ذكر في كتابه عند الحديث عن تاريخ مدينة غزة أن سكانها كانوا من العرب وأن حاكمها زعيم عربي. وفي هذا السياق المرتبط بعراقة الوجود العربي بمدينة غزة ومنذ العصور القديمة نعلم لماذا كانت (غزة أولاً) في قصة العلاقة بين العرب وأرض فلسطين. منذ عصور الجاهلية الأولى كانت قوافل التجارة بين مكة وأرض الشام دائما ما تمر بـ (غزة أولا) وبهذه المعلومة يمكن أن نستوعب الآن لماذا مدينة غزة تعرف قديما باسم (غزة هاشم) وذلك لأن جد الرسول صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد مناف في إحدى رحلاته التجارية الصيفية مر على مدينة غزة وتوفي ودفن بها. وعلى نفس نسق تعزيز سردية (غزة أولاً) تجدر الإشارة إن أن بعض المؤرخين يقررون بأن مدينة غزة كانت أول مدينة يفتتحها المسلمون من المدن الفلسطينية وذلك في العام 13 هجري بينما لن يدخل المسلمون القدس إلا بعد ذلك بسنتين.

ومن غرائب الموافقات التاريخية أن القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي عندما انتصر في معركة حطين في يوم 25 ربيع الثاني من عام 583 هـ كانت هذه المعركة الحاسمة هي مفتاح الطريق إلى بوابات مدينة القدس. في الحقيقة موقع معركة حطين في أقصى شمال فلسطين بالقرب من بحيرة طبريا ومع ذلك فإن صلاح الدين لم يتوجه مباشرة لبيت المقدس وإنما فضل أن يتجه نحو الجنوب على الساحل الفلسطيني للاستيلاء على مدن الساحل أولا ولهذا بعد أشهر من معركة وعندما توجهه صلاح الدين أخيرا لفتح بيت المقدس لم يفعل ذلك إلا بعد أن استرجع (غزة أولاً).

ومن معركة حطين وما تلاها من إعادة فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين وأن ذلك النصر المبين سبقه المرور على غزة أولا ننتقل الآن إلى المعركة الفاصلة ضد جحافل المغول معركة عين جالوت وأعتقد أن القارئ العزيز سوف لا يتفاجأ كثير بعد أن بدأ يستوعب سردية (غزة أولا) أنه بالفعل قبل معركة عين جالوت مرت الجيوش الإسلامية المظفرة على غزة أولاً. وهذا بالفعل ما حصل في نهاية شهر شعبان من عام 658 هـ عندما تحركت الجيوش الإسلامية من مصر بقيادة قاهر التتار السلطان المملوكي سيف الدين قطز ومرت في طريقها على مدينة غزة العزة وانتصرت في معركة صغيرة على الحامية المغولية التي تتحصن بمدينة غزة. وبعد ذلك بحوالي شهر تقريبا وبعد المرور على (غزة أولاً) وصلت الجيوش الإسلامية في يوم 24 رمضان من عام 658 هـ إلى موقع معركة عين جالوت لكي تسجيل التاريخ الخالد لملحمة الجهاد العربي.

وقبل أن نغادر مشهد الحروب الصليبية ومجازر الهمجية المغولية أود أن أنبه إلى أن مدينة غزة وكما كانت ممرا لمشاهير الغزاة في التاريخ القديم مثل رمسيس الثاني وقمبيز الثاني والإسكندر ابن فيليب الثاني فقد ارتبط تاريخ غزة كذلك بأهم وأشهر الشخصيات التاريخية المرتبطة بالحروب الصليبية والاجتياح المغولي. فمثلا من الأساطير التاريخية المتداولة تلك التي تقول بأن صلاح الدين تقابل مع الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد في مدينة غزة وذلك للتعارف الشخصي وليس للقتال وهذه محض خرافة ومع ذلك بالفعل المراسلات بين صلاح الدين وبين قلب الأسد لعقد معاهدة الرملة حصلت أثناء ما كان ريتشارد قلب الأسد يقيم في الغالب في مدينة غزة.

مراسلات أخرى مهم بين اثنين من أقطاب التاريخ والمعارك كان لمدينة غزة ارتباط بها وهي تلك التي حصلت بين القائد المغولي الرهيب هولاكو وبين قادة المجاهدين من المماليك سيف الدين قطز والظاهر بيبرس. تذكر كتب التاريخ أن هولاكو بعد أن قام بتدمير بغداد واحتلال دمشق رغب في السيطرة على مصر ولهذا سار على خطى الغزاة من قبله فوصل إلى مدينة غزة ومنها أرسل رسالته المشهورة التي أوردها المقريزي بنصها المشحون بالوعيد والإرجاف لأهل مصر إذا لم يستسلموا. وكان رد سيف الدين قطز أن قتل رسل المغول الأربعة الذين حملوا الرسالة وعلق رؤوسهم على باب زويلة ثم اتجه بجيشه لمعركة عين جالوت والباقي معروف للجميع.

 الانطلاقة الفتحاوية والانتفاضة الحمساوية من غزة أولاً

ذكرنا في أول المقال الوصف الدقيق لنابليون بونابرت لمدينة غزة بأنها (مخفر أمامي لإفريقيا وباب آسيا) وفي المواقع من المحتمل أن نابليون قال هذه العبارة أثناء إقامته في مدينة غزة في نهاية شهر فبراير من عام 1799 ميلادي. كحال الغزاة العتاة من قبله حاول نابليون أن يحمل لقب الملك الفارسي قمبير (ملك الشمال والجنوب وموحد الأرضين) فبعد أن سيطر نابليون على الديار المصرية في صيف عام 1798م خطط بعد سنة من احتلاله الغاشم أن يسيطر كذلك على أرض فلسطين وبلاد الشام وكالعادة كان يجب أن يعبر من ممر الحضارات وبوابة آسيا وذلك بأن يحتل (غزة أولاً). صحيح أن نابليون لم يجد صعوبة كبيرة في اجتياح مدينة غزة الضعيفة جدا في ذلك العصر لكن بمجرد أن تخطاها وبدأ في حصار مدينة يافا حتى حصل الفرج الإلهي والذي تمثل في ظهور وباء الطاعون بين جنوده مما تسبب في هزيمته المذلة تحت أسوار عكا ومن ثم انسحابه التام والسريع ليس فقط من أرض فلسطين الأبية ولكن حتى من ديار مصر المحروسة.

في الواقع كان الهدف النهائي لنابليون من احتلاله لأرض فلسطين أن يدخل دخول الفاتحين لمدينة القدس انطلاقا من أرض مصر وبالرغم من فشل خطة الجنرال الفرنسي نابليون إلا أن هذا ما حصل بالضبط مع الجنرال الإنجليزي إدموند ألنبي. في نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد حالة الضعف الهائلة التي أصابت الجيوش العثمانية قرر قادة الحرب في بريطانيا أنه قد حان الوقت لاحتلال سوريا وفلسطين ومرة أخرى الطريق للقدس يمر عبر مدينة (غزة أولاً). لقد خاض الجيش البريطاني ثلاث معارك شرسة (كما خاض الإسكندر ثلاث معارك شرسة) حتى استطاع أخيرا اقتحام مدينة غزة وذلك في مطلع شهر نوفمبر من عام 1917م وذلك بعد أن تم قصف مدينة غزة لأول مرة في التاريخ بالطائرات وإسقاط القنابل الضخمة عليها بالإضافة للقصف المدفعي العنيف من البارجات البحرية. وبعد شهر واحد من سقوط مدينة غزة استطاع أخير الجنرال الإنجليزي إدموند ألنبي من دخول مدينة القدس معيدا بذلك مأساة الحروب الصليبية ولهذا لا غرابة أن ذلك الجنرال استبشر باستيلاء على غزة ولذا قال (كانت غزة منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا بوابة الفاتحين).

صحيح أن سقوط مدينة غزة في يد الاحتلال الإنجليزي في يوم الثاني من شهر نوفمبر من عام 1917م يتوفق تماما مع نفس تاريخ اليوم الذي صدر فيه ذلك الوعد المشؤم (وعد بلفور) والذي دعم تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، ولكن هذا لا يعني أن غزة كانت أول مدينة يهودية بل على العكس من ذلك تماما. فيما يتعلق بالاحتلال الأثيم للأراضي الفلسطينية من قبل العصابات الصهيونية الغاشمة لم تكن (غزة أولاً) ولكن كانت في الواقع (غزة آخرا). فكما هو معلوم الكياني الصهيوني ظهر للوجود في عام 1948م بينما تسارع تساقط المدن الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني خلال ذلك العام إلا أن مدينة غزة كانت آخر مدينة تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي وذلك بعد حوالي عشرين سنة أي بعد نكسة عام 1967 ميلادي.

في قصيدته الخالدة (ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ) يورد شاعرنا الكبير أبو العلاء المعري بيتي الشعر التالين:

 وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ         لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

لدى موطنٍ يشتاقهُ كلُّ سيدٍ            ويقصُرُ عن إدراكهِ المُتناولُ

 وما نريد أن نصل إليه أنه كما كانت قصيدة المعري رمزا للإباء والعزة فكذلك كانت غزة العزة هي رمز الإباء والصمود وهي وإن كانت (الأخير زمانهُ) من حيث زمن وقوعها في الاحتلال الصهيوني إلا أنها سوف تأتي (بما لم تستطعه الأوائل) من المدن الفلسطينية التي وقعت في الأسر اليهودي. وفي استمرار مسيرة (غزة أولاً) ولكن هذه المرة في مساق النضال والجهاد ضد اليهود كانت غزة أول مدينة فلسطينية كبرى تخلصت من اليهود فهي منذ أكثر من قرن من الزمن لا تقيم داخلها أي عوائل يهودية. وبعد الهزيمة المذلة للعرب في نكسة 67 كانت أرض مدينة غزة موقع إحدى أوائل معارك النضال العربي التي قامت بها حركة فتح وذلك في العملية التي حملت اسم (الانطلاقة) والتي نفذ فيها أكثر من 128 عملية فدائية في غزة استمرت لمدة ثلاثة أسابيع وتسببت في مقتل العشرات من جنود العدو وتدمير آلياته العسكرية.

ومن (الانطلاقة) إلى (الانتفاضة) حيث كانت (غزة أولا) هي الموقع الملائم لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية لأول مرة وذلك في يوم 8 ديسمبر من عام 1987 وبعد ذلك بأيام وبالتحديد في يوم 11 ديسمبر 1987 ومن غزة العزة تم الإعلان عن إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس). ومن هذا التاريخ الطويل والمتواصل في النضال والصمود لم يكن من المستغرب أن تكون مدينة غزة مرة ثانية هي أول مدينة يتخلى عنها الكيان الصهيوني ويسلمها للسلطة الفلسطينية وذلك في عام 1994م وذلك في الاتفاقية المشهورة التي حملت عنوان (غزة – أريحا أولاً). عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية بسواعد أطفال الحجارة سببت كارثة كبيرة للمحتل الصهيوني لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين قال (أتمنى أن أستيقظ ذات صباح لأجد البحر وقد ابتلع غزة بالكامل). لقد ظن العدو أنه سوف يتخلص من ذلك الإزعاج بمنح الفلسطيني شيئا من الحكم الذاتي في منطقة (غزة أولاً) ولم يعلم بأن الكابوس الحقيقي قد بدأ من تلك اللحظة وأنه لم ولن ينعم بالطمأنينة أبدا أبدا لأنه كما ورد في التوراة في سفر القضاة بأن الفلسطينيين سوف يكونون دوما شوكة في خاصرة اليهود.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق