د/ أحمد بن حامد الغامدي
على قاعدة أن التاريخ كثيرا ما يعيد نفسه لذا لا مناص من الوقع في أسر استحضار تاريخ الماضي لمحاولة استشراف مآلات المستقبل. وفي أجواء تأجج الصراع العربي والإسرائيلي كان من الحكمة دراسة تاريخ الصراع العربي (الصليبي) واستخلاص الدروس والعبر لأسباب الهزيمة وعوامل النصر. ومن هنا كان ذاك الكتاب البديع (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) للمفكر الإسلامي والمؤرخ الأردني ماجد عرسان الكيلاني. وفي المقابل نجد أن المؤرخ اليهودي يوشع براور صاحب كتاب (قرون حطين) المستخلص من الأوراق العلمية المنشورة في مؤتمر غربي ضخم بمناسبة مرور ثمانية قرون على معركة حطين، يحاول هو وزملائه خدمة الكيان الصهيوني من محاولة استنباط الدروس والعبر لأسباب انتصار صلاح الدين على مملكة الصليبيين في بيت المقدس وذلك بهدف محاولة الحرص على عدم تكرار التاريخ لنفسه بانتصار العرب مرة أخرى.
وبحكم أننا الآن في الشهور الأخيرة من (عام
الشعر العربي 2023) فلعل من الملائم الربط بين مثلث التاريخ والأدب والسياسة في
محاولة استقراء الذاكرة الشعرية للأدب العربي المصاحب للصراع العربي الصليبي على
القدس وأكناف بين المقدس. ونظرا لأن العرب في الزمن المعاصر هم (ظاهرة صوتية) كما
يقال فربما لن نضيف الكثير من فتح دواوين الشعر العربي المعاصر لاستعراض قصائد أدب
رثاء المدن الفلسطينية المحتلة أو الأعمال الأدبية لمشاهير الشعراء في نصرة النضال
الفلسطيني والمقاومة العربية والجهاد الإسلامي. الجميع يعلم عيون قصائد الشعر السياسي
في دعم القضية الفلسطينية التي أبدعها رموز الأدب العربي المعاصر مثل عمر أبو ريشة
وعلى محمود طه وعبدالرحيم محمود ونزار القباني ومحمود درويش وسيمح القاسم وفدوى
طوقان وأحمد مطر وعبدالرحمن العشماوي. ولكن الغريب في الأمر أن قصائد الأدب العربي
القديمة المتزامنة مع الاحتلال الصليبي للقدس والصراع العربي المسيحي في أرض
فلسطين شبه مجهولة أو على الأقل غير متداولة بشكل كاف.
الأغرب من ذلك أنه في أواخر سنوات القرن
الخامس الهجري بدء مسلسل الانهيار بسقوط المدن العربية في يد النصارى (مدينة
طليطلة في عام 478هـ ومدينة القدس في عام 492هـ) ومع ذلك اشتهرت قصائد رثاء المدن
الأندلسية المحتلة من قبل الفرنجة في حين لا نكاد نعلم قصيدة مشهورة في رثاء القدس
أو المدن الفلسطينية المحتلة من قبل الصليبيين. ويبدو أن انهيار الأمة العربية في
القرن الخامس الهجري كان شاملا في جميع المحاور السياسية والعسكرية والأدبية
بدلالة السهولة النسبية لمرور الصليبيين على بلاد الشام وسيطرتهم على أرض فلسطين دون
حتى ردود فعل ملائمة لا في مجال القتال بالسنان ولا مجال المقاومة باللسان. ففي
القرن الرابع الهجري كان أمير بني حمدان يجاهد جحافل الإمبراطورية البيزنطية
المسيحية ويسانده كبار الشعراء مثل أبي الطيب المتنبي بقصائد معارك سيف الدولة
وأبي فراس الحمداني بقصائد الروميات. وكمحاولة لإعادة إحياء التراث العربي الجهادي
في جانبه الأدبي وفي سياق ترسيخ قاعدة (التاريخ يعيد نفسه) لعله من باب التفاؤل
وبث الأمل أن نسترجع بعض القصائد العربية العريقة زمن الحروب الصليبية وكيف تحولت مواضيعها
من مجرد الفجيعة باحتلال ديار المسلمين إلى الحض والحث على الجهاد والنضال لتصبح
أخيرا قصائد الفخر والمديح للسلطان صلاح الدين وتهنئته بتحرير القدس وأكناف بيت
المقدس. وها نحن ذا وبعد عقود وعهود من تدبيج القصائد في الفجيعة بسقوط أرض فلسطين
تحت القهر الصهيوني الخبيث وبعد مئات القصائد في مديح النضال والمقاومة ننتظر أن
يدور الزمان دورته لكي يأتي زمان
تحبير قصائد الاحتفاء والاحتفال بالنصر
المبين على الصهاينة أعداء الدين.
الذاكرة الشعرية للقصائد المقدسية
عندما سقطت مدينة طليطلة في يد ألفونسو ملك
قشتالة وذلك في عام 478هـ رثاها وتفجع على ضياعها عدد من شعراء الأندلس ذكرهم الأديب
المقري التلمساني في كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) مثل الشاعر ابن عسال
وقصيدة أخرى طويلة لشاعر مجهول. ولكن بعد
ذلك التاريخ بحوالي 14 سنة وعندما سقطت القدس في يد الدوق جودفري قائد الحملة
الصليبية الأولى لم نسمع صدى محسوسا لهذه الفاجعة وذلك ربما للضعف الشامل للأمة الإسلامية
تحت حكم الدولة الفاطمية في ذلك العصر. صحيح أن الشاعر أبا المظفر الأبيوردي عاصر
زمن الحروب الصليبية وله قصيدة مشهورة في التفجع على مصيبة أهل الشام وما عانوه من
المذابح والجرائم على يد الروم:
وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ |
إذَا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ |
وكيفَ تنامُ العينُ ملءَ جفونها |
على هَفَواتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نائِمِ |
وإخوانكمْ بالشَّامِ يُضحي مقيلهمْ |
ظهورَ المذاكي أوْ بطونَ القشاعمِ |
تَسُومُهُمُ الرُّومُ الهَوانَ وَأَنْتُمُ |
تجرُّونَ ذيلَ الخفضِ فعلَ المسالمِ |
ومع ذلك تلك القصيدة لا يوجد بها إشارة
واضحة وصريحة عن سقوط القدس ومسجد الأقصى بيد أهل الصليب وكأنما القصيدة هي في
سياق استصراخ (صناديد الأعراب) إلى نصرة إخوانهم في الدين والعروبة ورفع الظلم
عنهم دون الإشارة إلى إعادة استرجاع القدس لحظيرة الإسلام.
وهذا يقودنا لفكرة أن توظيف الأدب من خلال
(الجهاد بالشعر العربي) يقصد به أن تصبح القصيدة وسيلة للتحريض على قتال الأعداء
واستنهاض الهمم واستصراخ الأمم للجهاد والنضال ضد أعداء الدين والأوطان.
وبالمناسبة أشهر قصيدة في دواوين الشعر العربي في مجال أدب رثاء المدن وهي القصيدة
النونية (لكل شيء إذا ما تم نقصان) للشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي حتى وإن ورد
فيها رثاء مدن قرطبة وإشبيلية (حمص) وبلنسية ومرسية وجيان فإن الهدف الأساسي
لتدبيج هذه القصيدة ليس مجرد (رثاء الأندلس) ولكن الدافع لها طلب الدفاع عما تبقى
من المدن الأندلسية قبل أن تسقط تحت حكم النصارى. وفي الواقع هذه القصيدة ارسالها
أبو البقاء الرندي إلى ملوك بني مرين في المغرب كمحاول لاستنهاض حميتهم الدينية
واستثارة حكمتهم السياسية لضرورة المسارعة في نصرة أهل الأندلس قبل أن يزول حكم
الإسلام بالكامل من الأندلس ثم ينتقل الخطر إلى أرض المغرب وهذا بالضبط ما حصل بعد
السقوط النهائي للأندلس بعد قرنين من الزمن من قصيدة أبا البقاء الرندي الباكية
تلك.
وفي هذا السياق نستحضر كذلك دور الأمير
والفارس والشاعر العربي الكبير أسامة بن منقذ ليس فقط في شنّه الجهاد المتواصل بسيفه
وسنانه ضد الصلبيين (ولد فقط قبل أربع سنوات فقط من سقوط بيت المقدس) ولكنه أيضا
جاهد كذلك بقلمه ولسانه من خلال قصائده الشعرية في وصف قتال الروم وكذلك في حث
الأمراء والسلاطين في العراق والشام ومصر للتكاتف والتحالف لحرب الصليبيين. ومن
ذلك محاولة أسامة بن منقذ اغراء واقناع الملك العادل نور الدين زنكي حاكم الشام
والعراق بتوحيد حملة الجهاد ضد الصليبيين بالتحالف مع الوزير الفاطمي طلائع بن
رزيك ولهذا كانت القصيدة التي أُرسلت إلى نور الدين:
فلو أن نور الدين يجعلُ فعلَنا
فيها مثالا
ويسيّرُ الأجنادَ جهراً كي ننازلهمْ نِزالا
ويفي لنا ولأهل دولتهِ بما قد
كان قالا
لرأيتَ الأفرنج طراً في
معاقلها اعتقالا
وتجهّزوا للسيرِ نحو الغربِ أو قصدوا الشمالا
وبما أن سيرة نور الدين وعلاقته بالدولة الفاطمية انفتحت فنختصر الحديث ونقول بأن نور الدين أرسل صلاح الدين وعمه أسد الدين للسيطرة على مصر وبعد أن تمكن الناصر صلاح الدين الأيوبي من إتمام سيطرته على أرض مصر وأصبح (يوسف بن أيوب) أي صلاح الدين هو (عزيز مصر) الجديد ولهذا قام بعض الشعراء بتوظيف هذه الملابسات في استنهاض صلاح الدين لينقذ أهل فلسطين كما أنقذ نبي الله يوسف عزيز مصر أهل الإيمان في الشام. وهنا نجد الشاعر عماد الدين الأصبهاني يتمنى أن يطول به العمر حتى يشاهد انتصار يوسف الأيوبي وهو يسفك دماء فرسان الأسبارطية (الأسبار) ويهد سقف كنيسة الأسقف النصراني:
أيبلغ دهري قصدي وقد قصدتُ
بمصر ذُرى يوسفِ
ويوسفُ مصر بغير التقى وبذلُ
الصنائع لم يوصفٍ
فسر وافتح القدس واسفك به دماء متى تجرها ينظفِ
وأهدِ إلى الأسبار البتار وهُدّ السقوفَ على الأسقفِ
وخلّص من الكفر تلك البلاد يُلخصك الله في الموقفِ
ومن الشاعر العماد الأصبهاني الفارسي إلى الشاعر عبدالمنعم الجلياني الأندلسي ودوره هو الآخر في تحريض واستنهاض همة وحمية الناصر صلاح الدين لحرب الفرنجة بني الأصفر الذين حان الزمان لكي تصفر وتخلو أرض المقدس منهم:
الله أكبر أرضُ القدس قد صَفَرتَ من آلِ الأصفرِ إذ حينَ به حانوا
أسباطُ يوسف من مصر أتو ولهم من غير تيهٍ بها سلوى وأمنانُ
لهم فلسطينُ أن يخرج مُنفرجا عنها
وإلا عدّت بيضٌ وخرصان
ولابن أيوب في الإفرنج ملحمةٌ دلت
عليها أساطير وحسبانُ
وبحكم أن تجهيز الجيوش وترتيب الصف الداخلي للأمة العربية يحتاج زمنا طويلا ولهذا عندما تأخر قليلا عزيز مصر الجديد صلاح الدين في إكمال مسيرة الجهاد أخذ بعض الشعراء وفي تصعيد لظاهرة (الجهاد بالشعر والقصيدة) يكررون ويعاودون حثّ وحض وتحريض صلاح الدين بل أن الشاعر العماد الأصبهاني عندما توفي المجاهد الكبير نور الدين زنكي كتب قصيدة يرثيه فيها ومع ذلك قال يعاتبه:
كم قد أمرت بحفر خندق معقلٍ حتى سكنت اللحد في محفورهِ
أوما وعدت القدس أنك مُنجز ميعادهُ في فتحهِ وطهورهِ
فمتى تجير القدس من دنس العدا وتقدس الرحمن في تطهيرهِ
وهذا الشاعر الفاطمي عمارة اليمني يبالغ في استنهاض صلاح الدين للسيطرة الكاملة على مصر ثم المسير إلى أرض فلسطين من غير تكاسل أو فتور:
قل لابن أيوب وكم ناصح أنفع ممن هو شاكي السلاحِ
واصدم بها شعث النواصي ربي غزة أو ما حولها من نواحِ
قولا لمن في عزمه فترة ارجع إلى الجد وخل المزاحِ
وربما في هذا السياق نفهم أنه عندما تأخر الناصر صلاح الدين في عدم الوصول للقدس إلا بعد أن يضمن السيطرة على أغلب مدن الساحل وتطهير مساجدها ودورها من نجس الاحتلال الصليبي، نفهم مغزى الأبيات المشهورة التي أرسلت إلى صلاح الدين ونظمها أحد الشعراء على لسان المسجد الأقصى وهو يستنهض ويستنجد:
يا أيها الملكُ الذي لمعالم الصُلبان نكّس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المُقدّس
كلُّ المساجد طُهرت وأنا على شرفي أُدنس
وفي الختام نستعرض الفرق الجوهري بين أدب المقاومة المعاصر في زمن سيطرة الصهاينة وأدب الجهاد في زمن اندحار الصليبيين وهو أن شعراءنا وأدباءنا لهم قصائد المواساة لجراحات المسلمين والحث على الصمود والجهاد لكن لم يشهد عصرنا بعد كتابة قصائد الاحتفاء والاحتفال بتطهير أرض فلسطين من تدنيس الصهاينة. بينما نجد الشاعر عبدالمنعم الجلياني السالف الذكر يمدح صلاح الدين وينظم القصيد في تهنئته بفتح القدس:
وكنتُ أرى ذا الفتح من قسم يوسفَ فلله ذاك القسم ما كان أسعدا
كفى مطهرا من طهر القدس واحتوى بني
أصفرٍ سبيا وقتلا وتعمّدا
هنيئا لبيت القدس الآن طُهرهُ وللناصرِ المنصورِ غبطته غدا
ومن المعروف أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب هو من (أول) افتتح بيت المقدس ولهذا كان من وسائل المديح لصلاح الدين أنه هو (ثاني) من افتتح بيت المقدس ولهذا استخدم هذه الفضيلة الشاعر الدمشقي ابن الساعاتي فقال يمدح صلاح الدين:
هو الفاتح البيت المقدس بعدما تحامته الدنا ومسودها
فضيلة فتح كان ثاني خليفة من القوم مبديها وأنت معيدها
وعليه لا شك أنه في مستقبل الأيام عندما يعاد للمرة الثالثة بمشيئة الله فتح بيت المقدس، فإن شعراء ذلك الزمن سوف يمدحون ويثنون فاتح القدس الجديد بأنه يسير على خطى عمر بن الخطاب وصلاح الدين وأنه (ثالث) فاتح للقدس. طبعا ذلك حلم بعيد المنال وهو كذلك ينطوي على الكثير من المخاطر والصعاب ففي رواية (عمر يظهر في القدس) للأديب المصري الكبير نجيب الكيلاني نجد أن حبكة تلك الرواية تفترض أن يتعرض الخليفة عمر بن الخطاب لمحاولات اغتيال ربما يشارك فيها بعض المسلمين الذين كذبوه أو شعروا بالخطر من وجوده.
ومن التقاطعات بين الماضي والمستقبل في
مشكلة سلامة الفاتح الجديد للقدس سواء كان عمر جديد أو صلاح جديد أنه في آخر قصيدة
نزار قباني المشهورة عن صلاح الدين نجده يصرخ في أرض العروبة لتلد صلاح الدين
الجديد:
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهي وتأمُر
رفاقك
في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في
حطين صلوا وكبروا
أيا فارسا أشكو إليه مواجعي ومثلي له عذر ومثلك يعذرُ
وأصرخ
يا أرض المروءات احبلي لعل صلاحا
ثانيا سوف يظهرُ
ولكن الطامة لو ظهر صلاح الدين الجديد في القدس فهل سوف يكون مصيره مثل المصير الذي تخيله نجيب الكيلاني في رواية عمر يظهر في القدس ولعل الجواب الصادم نجده في أبيات الشاعر العراقي الثائر أحمد مطر في قصيدة (ورثة إبليس):
إن تندبوا: " قم يا صلاح الدين ، قم
" ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة،
كم مرة في العام توقظونه،
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة،
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه،
لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق