الأحد، 10 ديسمبر 2023

( جوائز نوبل .. ويستمر الجدل !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لا زلت أستشعر حالة الإحباط والحنق عندما تم الإعلان في عام 2019م عن الفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء والتي خصصت في ذاك العام لتكريم العلماء الذين ساهموا في تطوير بطاريات الليثيوم المستخدمة في أجهزة الجوالات. وبالرغم من أن للعالم الفرنسي الجنسية والمغربي الأصل رشيد اليزمي مكانة علمية وشهرة دولية كبيرة لدرجة أنه حصل في عام 2014م على جائزة علمية مشتركة بلغت قيمتها نصف مليون دولار تقاسمها مع العالم الأمريكي جون غوديناف والياباني أكيرا يوشينو إلا أنه عند الإعلان عن جائزة نوبل في عام 2019 تم منحها فقط للعالم الأمريكي وزميلة الياباني وتم حجبها عن رفيقهم الثالث الباحث المغربي رشيد اليزمي.

وفي مطلع هذا الأسبوع الحالي تكررت المهزلة مرة أخرى عند الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الطب لهذا العالم وبالرغم من أنها مخصصة بشكل حصري لتكريم الجهود الطبية المبذولة لتطوير لقاح وباء الكورونا إلا أن أسماء الفائزين خلت بشكل عجيب من اسم عالم المناعة الألماني الجنسية والتركي الأصل أوغور شاهين. بعد خيبة الأمل في تكريم العالم المغربي رشيد اليزمي في عام 2019م كان التعويض للأمة العربية والإسلامية في بزوغ لمعان نجم الطبيب التركي أوغور شاهين وزوجته الدكتورة أوزليم توريجي خصوصا وأنه قد شاعت وذاعت شهرتهما في العالم كله أنهما هما من طور لقاح شركة فايزر الأمريكية ضد فيروس كوفيد 19. ولهذا لا غرابة أنه في السنوات الماضية تردد كثيرا احتمالية حصولهما على جائزة نوبل في الطب وبالفعل حصل أوغور شاهين في العالم الماضي فقط على حوالي أربع جوائز علمية وطبية مرموقة. ما يهمنا من هذه الجوائز الطبية التي نالها الدكتور شاهين في عام 2022م، جائزة بول إرليش (على اسم الطبيب وعالم المناعة الألماني البارز) وهي أهم جائزة طبية دولية في مجال علم المناعة وقد فاز بها شاهين مع زوجته وكذلك مع طبيبة مجرية تدعى كاتلين كاريكو. ثم في نفس تلك السنة فاز شاهين وزوجته بجائزة طبية أخرى مرموقة مقدمة من كلية هارفرد للطب وهي أشهر وأهم هيئة طبية في العالم وجدير بالذكر أن تلك الجائزة التي تبلغ نصف مليون دولار نالها شاهين بالاشتراك مع كاتلين كاريكو سالفة الذكر ومع الطبيب الأمريكي درو وايزمان. بقي أن نقول إنه بالرغم من الارتباط الوثيق بين العالم التركي أوغور شاهين وبين الباحثة المجرية كاتلين كاريكو وكذلك مع العالم الأمريكي درو وايزمان بدلالة حصولهم على جوائز طبية مرموقة بشكل مشترك إلا أنه يوم الأحد الماضي عندما تم الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الطب لهذا العام 2023م تم منحها فقط للطبيبة المجرية كاريكو والطبيب الأمريكي وايزمان. وتم بشكل غريب وربما مريب حجب هذه الجائزة عن العالم التركي (الألماني الجنسية) أوغور شاهين بالرغم من شهرته في العالم كله أنه له إسهام مذكور ومشهور في تطوير تقنية (لقاحات mRNA) ولذا كان يستحق وبكل جدارة أن يكون الشخص الثالث الذي يحصل على جائزة نوبل في الطب لهذا العام.

 مشاهير ونجوم العلماء بلا جوائز

قبل حوالي سنة بالضبط أي في شهر أكتوبر من عام 2022م نشر عالم الفيزياء البريطاني مايكل رييس والرئيس السابق للجمعية الملكية البريطانية (أقدم وأعرق جمعية علمية في التاريخ) مقالا في مجلة التايمز الأمريكية حمل عنوان (المشكلة مع جوائز نوبل). وفكرة العالم البريطاني مايكل ريس وضاحة ومباشرة: جائزة نوبل لها سمعة وصدى كبير ولكنها كذلك لها نصيبها من الانتقادات والجدل والاستياء كما يحصل في العادة بعد حفل توزيع جوائز الأوسكار في السينما ولهذا وصف رييس جائزة نوبل بأنها جائزة (الأوسكار العلمية scientific Oscars) بكل بريقها الإعلام وكذلك فضائحها المثيرة للجدل.  

عبر السنوات قرأت العديد من الكتب الخاصة عن جائزة نوبل (بعضها تميل أكثر لنقد الجائزة) وكذلك مَرّ عليّ كم كبير من المقالات أو الكتاب العلمية عن حياة العلماء والتي جمعت من خلالها ملف خاص وضخم عن الانتقادات التي وجهت عبر السنوات لجائزة نوبل. الجميع يعلم الفضائح من العيار الثقيل التي لطخت سمعة جائزة نوبل في مجال السلام مثلا بعد منحها لمجرمي الصهاينة الإسرائيليين من مثل مناحيم بيغن وشمعون بيريز وإسحاق رابين. وقد يكون (الجدل) المصاحب لجائزة نوبل في السلام أقل وأخفت من مثل مدى جدارة أن يحصل ستة من رؤساء ورجال السياسة الأمريكان على جوائز نوبل للسلام بالرغم من طغيان حكومات العم سام غير المسالم. وقل مثل ذلك للانتقادات الحادة الموجهة لجائزة نوبل في الأدب عندما تمنح مثلا في عام 2016م جائزتها الأدبية للمغني الشعبي الأمريكي التافه بوب ديلان في حين أنها حجبت عن كبار الأدباء العالميين من مثل مارك توين وجيمس جويس وجورج أورويل وفرجينا وولف وأمبيرتو إيكو وباولو كويلو. في الواقع في دنيا الأدب توجد مكانة هائلة لعمالقة الأدب الروسي من مثل تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ومكسيم غوركي والغريب أن لجان جائزة نوبل لم تقتنع بجدارة هؤلاء الأدباء الكبار بنيل الجائزة التي منحت لشخصيات أدبية هامشية يكاد لا يعرفها إلا القليل.

وكما كان من تناقضات القائمين على جائزة نوبل حجبها عن مشاهير الأدب الروسي نجد كذلك من الأمور المثيرة للجدل في تاريخ جائزة نوبل في المجالات العلمية أنه تم كذلك رفض منح الجائزة لعملاق علم الكيمياء الروسي المعروف للجميع: ديمتري مندلييف صاحب الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. لقد تم ترشيح مندلييف لمرات عديدة للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء وفي الواقع حصل عام 1906م نقاش حاد حول الأشخاص المرشحين للجائزة في مجال الكيمياء وبالرغم من حماس بعض العلماء في أكاديمية العلوم السويدية لمنح الجائزة لمندلييف إلا أنن أستقر رأي اللجنة لمنحها لكيميائي أقل بكثير من الأهمية من مندلييف وهو الفرنسي هنري مواسان مكتشف عنصر الفلور. الجدير بالذكر أن مندلييف توفي بعد عدة أشهر فقط من فرصته الأخيرة لنيل جائزة نوبل ولا يعلم أن كان لهذه الحادثة المؤسفة أي أثر في اضعاف روحه المعنوية ولا أعلم هل عندما توفي الأديب الروسي تولستوي عام 1910م كان حانقا هو الآخر أن جائزة نوبل في الأدب في تلك السنة منحت لسيدة سويدية شبة مجهولة في الأوساط الأدبية العالمية.

وبحكم أن المصائب لا تأتي فرادى كما يقال ففي نفس السنة التي توفي فيها مندلييف أي عام 1907م وهو أشهر علماء الكيمياء على الإطلاق ولم يمنح جائزة نوبل في الكيمياء نجد أن أشهر علماء الفيزياء على الإطلاق يتوفى في نفس تلك السنة ودون أن يحصل هو الآخر على جائزة نوبل في الفيزياء. وكان ذلك الفيزيائي الأسكتلندي الذائع الصيت اللورد كالفن ذو الاثر البالغ في علم الثيرموديناميك والذي أطلق أسمه على درجة الحرارة المطلقة. وعلى ذكر علم الثيرموديناميك لابد من أن نشير كذلك إلى أن عالم الفيزياء الامريكي جوزية جيبس المعروف لكل طلاب المدارس الثانوية من خلال مفهوم طاقة جيبس الحرة (وهي خاصية فيزيائية على درجة عالية الأهمية لأنها تجمع بين في مفهوم الأنتروبي أي مستوى العشوائية ومفهوم الإنثالبي أي المحتوى الحراري) وبالرغم من تلك المصطلحات العلمية الفخمة لم يحصل جوزية جيبس على جائزة نوبل. وكما يعرف طلاب المدارس الفيزيائي الأمريكي جيبس الذي لم يحصل على جائزة نوبل فهم كذلك يعرفون عالم الكيمياء الأمريكي جيلبرت لويس صاحب تعريف لويس للأحماض القواعد ومكتشف الروابط التساهمية ونظرية التكافؤ والمشهور بما يسمى تراكيب لويس للتعبير عن بنية المركبات الكيميائية. ومع هذه الإنجازات العلمية المميزة توفي جيلبرت لويس في عام 1947م أي بعد حوالي نصف قرن من ظهور جائزة نوبل وبالرغم من أنه تم خلال سنوات طويلة ترشيحه 41 مرة للفوز بالجائزة ومع ذلك لم يحظ بها في حين أنها منحت في عام 1945م لعالم فنلندي نظير أبحاثه في الكيمياء الزراعية الهادفة لتحسين أسلوب حفظ الأعلاف !!.

ونختم هذه الفقرة بأنه في العقود الأخيرة وكنوع من التقدير لبعض الشخصيات العلمية المؤثرة في تقدم مسيرة العلم أصبح بعض العلماء يعاملون أشبه بالنجوم أو المشاهير celebrities الذين يعرفهم الجميع من مثل عالم الفلك الأمريكي إديون هابل صاحب تلسكوب الفضاء وعالم الفيزياء الإنجليزي ستيف هوكينغ العبقري المشلول وكذلك سيدات العلوم المظلومات مثل عالمة الكيمياء الألمانية ليز مايتنر أم القنبلة الذرية وعالمة الكيمياء البريطانية روزاليند فرانكلين أم الحمض النووي DNA ومع إسهاماتهم التاريخية في تقدم العلوم إلا أنهم وغيرهم كثير من أبرز العلماء والباحثين ظلموا بعد منحهم جائزة نوبل المثيرة للجدل بحق.

 ربكة في منح الجائزة والإعلان عنها

بالإضافة للفضائح والانتقادات و(الجدل) حول جوائز نوبل خصوصا في حالة العلماء الذين لم يمنحوا الجائزة تجدر الإشارة إلى أنه في بعض الحالات حتى في الجوائز التي منحت بالفعل تقع بعض التناقضات الطريفة والغريبة. من ذلك مثلا أن عالم الكيمياء البريطاني وليم رامزي ورفيقة عالم الكيمياء البريطاني اللورد رايلي اشتركا في اكتشاف عنصر الأرجون في عام 1984م وهو اكتشاف علمي هام لأنه يتعلق باكتشاف الغازات الكيميائية الخاملة. ولكن هذا لا يبرر على الإطلاق منح جائزتي نوبل مختلفتين تماما على نفس الاكتشاف العلمي حيث مُنح وليم رامزي جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1904 وفي نفس اللحظة مُنح اللورد رايلي جائزة نوبل في الفيزياء !!. وفي هذا النسق من العبثية في منح جوائز نوبل قد نفهم لماذا السيدة ماري كوري مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1903م لدراستها عن عنصر الراديوم المشع وبعد ذلك بسنوات مُنحت جائزة نوبل للكيمياء في عام 19011م تقريبا على نفس (الاكتشاف) العلمي الذي لا جديد فيه لأنها لن تستطيع دراسة الظاهرة الإشعاعية لعنصر الراديوم والبولونيوم إلا إذا كانت قد اكتشفتهما في الأصل. وعلى ذكر كيمياء المواد المشعة كان للفيزيائي البريطاني الشهير أرنست رذرفورد (صاحب تركيب الذرة) دورا مهما في دراسة النشاط الإشعاعي والكشف عن جسيمات ألفا وبيتا وأشعة جاما وبالرغم من إعجابه المفرط بعلم الفيزياء لدرجة أنه قال (العلم إما فيزياء وإما جمع طوابع) إلا أنه عندما منح جائزة نوبل حصل عليها في عام 1908م في مجال الكيمياء وليس الفيزياء !!.

وهذا أسطورة العلم الحديث عالم الفيزياء ألبيرت أينشتاين توصل لأحد أهم الاكتشافات العلمية على مدار التاريخ وهي النظرية النسبية الخاصة (توصل لها في عام 1905م) والنظرية النسبية العامة التي طورها في عام 1915م ومع ذلك عندما حصل أخيرا أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1921م نالها في موضوع علمي أقل أهمية بكثير وهو دراسته النظرية عن ظاهرة التأثير الكهروضوئي. لا شك في أن التخبط في منح جائزة نوبل أو عدم منحها راجع للتأثير البشري في القرار النهائي المتعلق بالجائزة فالكتب التاريخية التي خصصت عن جائزة نوبل تذكر تأثير رؤساء لجان جائزة نوبل في تحديد الجوائز فمثلا لو كان رئيس اللجنة على حالة عداء مع عالم محدد فسوف يحاول صرف الجائزة عنه أو العكس إذا كان في حالة تعاطف مع شخص معين فقد تمنح له الجائزة كنوع من المجاملة. فمثلا بالرغم من الشهرة الطاغية في بدايات القرن العشرين لكل من أينشتاين وعالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور (عملاق نظرية الكم) إلا أنهما حصلا على جائزة نوبل في فترة متأخرة نسبيا. بينما أول شخص سويدي يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1912م كان شخصا مجهولا تماما في دنيا العلم (كما كانت أول امرأة تحصل على جائزة نوبل في الأدب هي سيدة كل مميزاتها أنها سويدية الجنسية) وسبب حصول المخترع السويدي جوستاف دالين على جائزة نوبل قبل أينشتاين ونيلز بور هو حالة التعاطف الإنساني معه. حصل في عام 1912م وأثناء قيام المهندس دالين بإجرائه تجارب لتصميم منظم وصمام خاص لتدفق غاز الأسيتيلين في شعلة المنارات البحرية أن حصل انفجار للغاز تسبب في فقدان المهندس ديلين لحاسة البصر. وهنا بعد هذه الحادثة بشهور فقط منحته أكاديمية العلوم السويدية جائزة نوبل في الفيزياء في تلك السنة كنوع من التعاطف والتضامن معه !!.

قبل أن نغادر وننهي هذا المقال أود أن أقول إن أحد أفضل الأمثلة للتدليل على دور العامل البشري والمزاج النفسي في التأثير على ملابسات الإعلان عن جوائز نوبل هو ما حصل في عام 1924م عندما حجبت جائزة نوبل في الكيمياء ولم تمنح لأي أحد. تقول المصادر التاريخية إنه قبل فترة قصيرة من الإعلان عن جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1924م انتشرت شائعة قوية أن الجائزة قد منحت لعالم الكيمياء البولندي كازيميرز فاجانز مكتشف عنصر البروتكتينيوم (العنصر رقم 91 وآخر عنصر طبيعي قبل عنصر اليورانيوم). ولكن نظرا لتسرب خبر حصول فاجانز على الجائزة إلى إحدى المجلات السويدية وبسبب غطرسة وغرور فاجانز بعد هذا الخبر الصحفي، هذه الملابسات العرضية مكنت أحد الأعضاء المتنفذين في لجنة جائزة نوبل من حجب الجائزة في ذلك العام وحرمان فاجانز منها.

بقي أن نقول في الختام إنه ربما يعلم الجميع أنه في يوم الأربعاء الماضي وقبل ساعات من الإعلان الرسمي عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2023 تسربت بشكل غريب أسماء الفائزين وبدأت وكالا الأنباء والعديد من المواقع الإلكترونية للصحف الدولية الكبرى في تداول ذلك الخبر النادر والغريب لأنه تقريبا يتوافق مع مرور قرن بالتمام عن تلك الحادثة القديمة في عام 1924ميلادي. وعلى خلاف النهاية السوداوية لحجب الجائزة عن الكيميائي السويدي فاجانز عام 1924م جاءت الأخبار الطيبة أن أسماء الفائزين التي تم تسريبها لم تحجب عنهم الجائزة وإلا كنا سوف نسمع خبر شؤم ومحزن لأننا كنا سوف نندب حظنا البائس ليس فقط بحجب الجائزة عن الكيميائي المغربي رشيد اليزمي والطبيب التركي أوغور شاهين ولكن كذلك (وهنا الكارثة) حجب الجائزة عن الفائز بها بالفعل الكيميائي التونسي الأصل منجي الباوندي الذي نفخر كلنا بما حققه من إنجاز كيميائي في مجال بالغ الأهمية وهو علم تقنية النانو.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق