د/ أحمد بن حامد الغامدي
في كتب الأدب أو في الحديث الدارج أحيانا يوصف لهيب حر الصيف بأنه جمرة القيظ والبعض يصفه بأنه (حَمَارّة القيظ) كما ورد ذلك في المقولة الشهيرة للإمام علي رضي الله عنه في كتاب نهج البلاغة (فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ .. وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر).
وبالرغم من أن (حمّارة القيظ) التوصيف هنا مأخوذ
من أن (حَمرة) كل شيء أشده إلا أن الطريف في الأمر أن البعض يربط بشكل خاطئ بين (حَمَارّة
القيظ) مع المورث الشعبي المرتبط بخرافة (حمارة القايلة). فكنوع من التحذير الأسري
للأطفال من الخروج للعب في شدة لهيب الشمس وهي في كبد السماء يحذر الأهل الأبناء
من أن تختطفهم (حمارة القايلة) التي لا تخرج إلا في شدة القيظ.
حمار القايلة أو حمارة القايلة في الأساطير
الشعبية المعاصرة لها نوع ارتباط بنوع آخر من الحيوانات والأساطير العربية القديمة
ونقصد بذلك (حمار الوحش) الذي أُتخمت دواوين الشعر العربي القديم بوصفه وذكر أخبار
صيده. من الأساطير العربية التراثية أنه كان في أرض اليمن نارا عظيمة تسمى نار
ضروان وكان لها سدنة يقومون عليها وإذا حصل خلاف بين قبيلتين أو بين شخصين يأتون
إلى هذه النار وعندها يقوم سادن النار بوضع الكبريت والملح فيها فيزداد لهيبها
وشدة حرارتها. وهنا يطلب من المتخاصمين كل
على حدة أن يحلف أمام تلك النار شديدة الحرارة ولذا يزعمون أن الشخص البريء لا
يصيبه ضرر نار ضروان بينما الشخص الآخر إذا كان ظالما فإنه يبتعد ويصد ولا يحلف
أمام هذه النار المهولة.
ومن هنا أخذ هذه الأسطورة العربية القديمة
الشاعر الجاهلي أوس بن حجر ووصف في قصيدة بديعة مشاهد الصراع في رحلة الصيد ولكن
بدلا من أن تقتنص وتلتهم حمارة القايلة الأطفال نجد أن الفارس العربي هم من يقتنص
ويلتهم صيد الحمار الوحشي. وما يهمنا من تلك القصيدة الطويلة هو وصف الشاعر لحمار
الوحش وشدة معاناته من حر الشمس وجمرة القيظ ولهب الظهيرة فهذا الحيوان إذا وقف أمام
الشمس الحارقة صد بوجهه عنها وكأنه رجل وقف لكي يحلف أمام النار المهولة المتأججة
أي نار ضروان في اليمن:
إذا استقبلته الشمس صدّ بوجهه كما صدّ عن نار المُهوّلِ حالفُ
تخويف الأطفال من اللعب المنفرد وقت الظهيرة وشدة القيظ أمر منطقي بسبب أن أغلب الناس لا يخرجون إلى الرمضاء ويقيلون وينامون في منازلهم ويهجرون الخروج للطرقات وبالتالي لا يوجد شخص ينقذ الطفل حال تعرضه للأذى أو الاعتداء. ولهذا وقت (القايلة) يسمى كذلك وقت (الهاجرة) أو الهجيرة وقال الفيروز آبادي في كتاب القاموس بأن الهاجرة هي نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنه قد تهاجروا. والمقصود أن في وقت الظهيرة يكون الحر على أشده وهذه الفترة قد يتأذى منها الحيوان كما يتأذى الإنسان، ولكن البشر يلوذون بالجلوس في منازلهم أما (دراما) معاناة الغزلان والظباء من قيظ الرمضاء فيصفها الشاعر والزاهد الأموي مسكين الدارمي بقوله:
وهاجرةٌ ظلت كأنّ ظباءَها إذا ما اتقتها بالقرونِ سجودُ
تلوذ لشؤبوبٍ من الشمس فوقها كما لاذ من حر السنانِ طَريدُ
والمعنى أن شاعرنا الكبير يقول لممدوحه الخليفة الأموي إنه في سبيل تحصيل بعض الخير لمن يعول فهو قد سافر إليه في وقت الظهيرة وزمن الهجير والهاجرة الذي من شدة حر القيظ فيه كانت الظباء لا تجد ما تحمي نفسها من وهج الشمس إلا أن تتقي بما لا يكاد أن يغني شيئا. لقد وصف مسكين الدارمي كيف أن مساكين الظباء والغزلان تسجد وتطأطئ لكي يصب أبدانها بعض الظل الذي تشكله قرونها على جسده وهذا أقصى ما يمكن أن تفعله هذه الظباء لكي تلوذ من حر الشمس.
وإذا كان القارئ الكريم قد استوعب حالة
اليأس والضعف التي تجده الحيوانات وقت القيظ وأنها لا تجد ما تقي وتحمي نفسها منه
إلا أقل القليل من الظل فربما من الملائم التذكير بمعاناة البشر والحيوان من قيظ
الظهير وحر الهاجرة والذي وصفه الشاعر الأموي ذو الرمة بوصف قريب من وصف معاصره
مسكين الدارمي:
وهاجرةٌ حرّها واقدٌ نصبت لحاجبها حجابي
تلوذ من الشمس أطلاؤها لياذ الغريم من الطالبِ
في كتاب المنجد في اللغة مذكور أن معنى (حواجب الشمس) أشعتها وبهذا نجد أن ذا الرمة يقول إن من شدة حر وهج الشمس وقت الهاجرة والظهيرة فإنه لم يجد ما يحجب عن جسمه أشعة الشمس إلا أن يتظلل بحواجبه. والمعنى أنه كما لن ينفع ظل قرون الظباء من الوقاية من حر الشمس فكذلك لن تنفع حواجب ذي الرمة من لهيب الرمضاء. وبسبب جمرة القيظ وحرارة الشمس يذكر ذو الرمة أن الغزلان والظباء والمطالي (كلمة أطلاؤها في بيت الشعر) تلوذ وتحتمي من الشمس كما يحتمي ويختفي المدين من الدائن.
وصف الشعراء لمعاناة زواحف الصحراء
الوقوف الطويل في عز الهاجرة وقيظ الظهيرة
أمام الأبواب أمر شائع الاستخدام في الشعر العربي القديم كوسيلة لبيان الخضوع للمخاطب
بالقصيدة من ذي جمال محبوب أو ذي مال مرغوب. ومن الطرائف أن العدوى بتقليد الشعراء
في أساليب (الخيال الشعري) التي يؤلفون بها قصائدهم الشعرية يمكن أن تنتقل من
المادح (الشاعر) إلى الممدوح (الخليفة أو السلطان). تذكر كتب الأدب أن الخليفة
العباسي أبا جعفر المنصور انصرف في إحدى السنوات من الحج وعندما كان مع حاشيته في
الطريق إلى العراق أصابهم يوم شديد الحر وقد قابلته الشمس فقال أبو جعفر المنصور
لمن حوله من الشعراء: إني أقول بيتاً من الشعر فمن أجازه (أي جاء ببيت شعر مكمل
له) فله جبتي، وعند ذلك انشد الخليفة البيت المشهور التالي:
وهاجرةٌ وقفت بها قلوصي يُقطّع حرُّها ظَهرَ العِظايه
ولا يهمنا هنا من استطاع بسرعة بديهة من الشعراء أن يجيز بيت شعر الخليفة وهل نال الجائزة على ذلك الشاعر بشار بن برد أم أبا العتاهية ولكن ما له سياق بموضوع المقال هو التنبيه على عجز بيت الشعر الجعفري: بأن شدة الحر زمن الهاجرة كان من أثر سموم القيظ أن تسببت في تقطيع جلد ظهر حيوان العظاءة وهو نوع من السحالي.
في زمن العلم الحديث يقال لنا إن حيوانات
الزواحف متكيفة مع البيئة الصحراوية القاسية وإذا بنا مع (الخيال الشعري) لأدباء
العصر الذهبي للشعر العربي نجدهم يبالغون في ذكر معاناة الحيوانات مع هجير الصيف
لدرجة أن الجلد القاسي للسحلية يتشقق ويتقطع. بينما نجد أن الشاعر الأموي الطرماح
يطلق الوصف المتردد كثيرا في كتب الأدب في بيان شدة حرارة نار وأوار الظهيرة وأنه (يذيب
دماغ الضب) ولهذا يقول في بيته الشعري:
يلاوذن من حرّ يكاد أواره يذيب دماغ الضب وهو خدوع
ومن معاناة السحالي والضُبان مع هجير الرمضاء ننتقل إلى نوع آخر من الزواحف والحيوانات الصحراوية ومع الأخذ في عين الاعتبار أن فصل الصيف يتوافق من الناحية الفلكية مع ظهور نجم (الشعرى اليمانية). ومن الخيال الشعري عند الشعراء إلى الرصد العلمي لسلوك الحيوانات ومعاناتها مع حر الصيف فهذا الشاعر الجاهلي الشنفرى يرصد في قصيدته المشهورة (لامية العرب) كيف أنه في أيام الحر الشديد وقت ظهور نجم الشعرى تتقلب الأفاعي على الرمضاء وتتململ:
ويومٍ من الشّعرى يذوب لُوابُهُ أفاعية في رمضائه تتململُ
قديما كان العرب وغيرهم من الشعوب البائدة يحددون دخول وقت الصيف بظهور نجوم الجوزاء وهي متعددة وأشدها لمعانا نجم الشعرى اليمانية المذكور في شعر الشنفرى. وبدخول موسم الجوزاء يشتد الحر ويكاد من لهيبه أن يوقد النار حتى في صم الحصى وهنا تكمل معاناة ودراما ليس فقط الحيوانات بل وحتى الحشرات. ويصف الشاعر الحكيم أبو مالك الشريف بركات كيف أن صغار الجراد والجنادب (تسمى جخادب) تلوذ وتحتمي من لهيب الحر بأن تختبأ تحت أكتاف وسواعد الإبل وهي رابضة:
بيومٍ من الجوزاء يستوقد الحصى وتلوذ باعضاد المطايا جخابده
وهنا نصل من رمضاء تراب الصحراء إلى فيحاء سموم السماء ومن الحيوانات الزاحفة إلى الكائنات الطائرة ومعاناتها هي الأخرى مع فوح ولهيب أشعة الشمس.
وإذا كان الشاعر (الشريف) بركات يقول إن حر
الشمس يتسبب حتى في اشتعال الحصى فهذا الشاعر (الشريف) ابن النقيب يصف معاناة
الطيور والنسور وأنها لا تطير في زمان الهجير وحر السعير الذي يذيب لهيبه الصخور:
في زمانٍ يشوي الوجوه بحرٍ ويُذيبُ الجسوم لو كنّ صخرا
لا تطيرُ النسورُ فيه إذا ما وقفت شمسهُ وقارب ظُهرا
وفي الختام، أود أن أشير أن من دوافع كتابة هذا المقال بالذات إنني أطلعت على صورة فوتوغرافية تبين مجموعة كبيرة من الجمال تتقي حر الشمس بالاختباء خلف ظل إحدى اللوحات المعدنية على جانب طريق السفر السريع. العديد من شعراء العرب القدامى تفاخروا بأنهم قطعوا الفيافي القاحلة على ظهور الإبل ومشهورة أبيات وصف الناقة في معلقة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد. في حين أن معلقة الأعشى تعطي تفاصيل أكثر عن شدة المخاطرة بالسفر في الرمضاء المقفرة والبراري الموحشة والتي يكثر بها الجن ويشتد فيه حر القيظ ومع أن ناقة الأعشى بالرغم من أنها (طليح) أي مهزولة وذات عياء إلا أنها استطاعت تعبر به تلك الصحاري المهلكة.
والسؤال الآن لماذا أبل وجمال اليوم لا
تحتمل القيظ كما في زمن الجاهلية وهل ذلك من تغير ظهر في سلوك الحيوان عبر الزمن
أم بسبب زيادة شدة الحر في الوقت الحالي مع موجة الاحتباس الحراري. وإذا كانت الإجابة
العلمية ربما غير ممكنة فهل يمكن من الناحية الأدبية أن ينبري أو يتصدى أحد من
الشعراء المعاصرين ويصف في أبيات شعرية جديدة معاناة تلك الجمال مع الحر والقيظ
كما تصدى الشعراء الرواد القدامى في تصوير معاناة دراما الظباء والجنادب في
الاختباء من حر أشعة الشمس !!. هذا الطلب من باب المباسطة مع السادة معاشر الأدباء
والشعراء يشفع له كذلك أننا في أشهر الصيف من (عام الشعر العربي 2023).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق