السبت، 19 أغسطس 2023

( حج الصفوة وحج النخبة )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من المشهور وصف شعيرة الحج بأنها عبادة شاملة بمعنى أنها عبادة بدنية وعبادة مالية بالإضافة إلى أنها بلا شك هي كذلك عبادة قلبية وقولية. ومع ذلك يغفل البعض بأن فريضة الحج يمكن أن تكون وفق ظروف خاصة مثالا لما يسمى (العبادة المتعدية النفع). كان الحج وما يزال ميدانا للدعوة وفرصة للوحدة الإسلامية والتعارف والتعاون ولهذا كان من مقاصد الحج عند شريحة واسعة من سلفنا الصالح أنه فرصة لأن يتقابل العلماء ورجال الشريعة وأهل الحديث ويتبادلون فيما بينهم المنافع المتعدية بتلقي الأحاديث الشريفة وطلب العلم الشرعي وسماع الفتاوى الدينية مباشرة من كبار الفقهاء.

ومن صور كون الحج عبادة متعدية المنافع أن موسم الحج هو في الغالب فرصة للصدقة والبذل وتقديم النفع المادي للفقراء والضعفاء ومن هذا المنظور نفهم كيف كان لبعض السلف الصالح البصيرة النيرة والإدراك الحكيم في جعل الحج عبادة متعدية النفع عن طريق بذل المال بدلا من الزهد فيه. مشهورة تلك القصة التي بطلها الإمام الفقيه عبد الله بن المبارك مع عابد الحرمين الفضيل بن عياض عندما أرسل له رسالة مع أحد تلاميذه كان ينوي الحج وطلب منه أن يوصل لعباد الحرمين أبياته الشعرية ذائعة الصيت:

يا عباد الحرمين لو أبصرتنا          لعلمت أنك في العبادة تلعبُ

من كان يخضب خده بدموعهِ         فنحورنا بدمائنا تتخضبُ

 وفي تلك القصيدة تفضيل للجهاد والمرابطة على ثغور الإسلام وأن ذلك أعظم فائدة للأمة الإسلامية بمجموعها من شخص يتعبد منفردا وينعزل لتزكية نفسه. موقف آخر سطره الإمام العابد عبد الله بن المبارك في موسم الحج خالف فيه المألوف والدراج عند بعض الزهاد والعباد ممن كان يحرص على الزهد والتخفف التام من الدنيا عند السفر للحج. في كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ورد خبر قيام أحد السلف يعرف بأبي عبد الله المغربي بالحج على قديمة حافيا سبعا وتسعين حجة وفي كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي يوجد خبرا عن زاهدا آخر يدعى حسن الدينوري حج أثني عشرة حجة حافيا ومكشوف الرأس. ما سبق هو تشدد في العبادة ومبالغة في الزهد والتقشف في الحج، ولكن في المقابل نجد بعض أئمة الزهد من مثل الإمام عبد الله بن المبارك كان لهم وجهة نظر أخرى مختلفة تماما وهي أن الحج يمكن أن يستخدم كعبادة (متعدية النفع للغير) من خلال جعل التي تبذل في مصاريف الحج وسيلة للصدقة وصلة وحسن عشرة مع الناس.

قريبا أشرنا لموقف العلامة ابن الجوزي في عدم قبوله للتشدد في الدين لمن حج حافيا ومكشوف الرأس وأن ذلك من تلبيس إبليس بينما في كتابه المعاكس (صفة الصفوة) نجده يذكر بشيء من الإعجاب خبر رحلات حج أمير المؤمنين في الحديث الإمام عبد الله بن المبارك. في كتاب البخلاء للجاحظ سخرية شنيعة بأهل مدينة مرو (موقعها قرب طهران في العصر الحالي) وأنهم بخلاء لدرجة انه ذكر طرائف عن بخل ديكة مدينة مرو. وفي المقابل نجد إمامنا الجليل عبد الله بن المبارك (المروزي) حيث إنه ولد وعاش بمدينة مرو، كان آية ونموذجا عجيبا وفريدا في الكرم والسخاء. ومن ذلك الخبر الوارد في كتاب صفة الصفوة وكيف كان (حج الصفوة) من النبلاء الأثرياء من مثل عبد الله بن المبارك الذي كان يكثر من الحج مع أصحابه وذلك بعد أن يطلب منهم أن يعطونه نفقاتهم والمبالغ التي رصدوها لتكاليف حجهم فيجمعها ويضعها في صندوق. ثم يستأجر لهم الدواب ويسافر بهم إلى بغداد ثم المدينة المنورة ثم أخير إلى مكة وهو طوال الطريق يطعمهم أطيب الطعام ويشتري لهم أطيب الحلوى وفي كل مدينة كبيرة يطلب من كل واحد منهم أن يبتاع أنفس الهدايا للأهلة. ولا يزال يكرمهم ويصرف عليهم طوال رجلة الحج وبعد أن يرجع بهم إلى مدينة مرو يقوم بترميم وتزيين منازلهم ثم أخيرا يجمعهم على وليمة كبيرة ويكسوهم بالثياب وأخيرا يفتح الصندوق ويعيد لكل واحد منهم صرة النقود التي استلمها منه وهي كاملة لم تفتح.

وبهذا نجد أن بصيرة وحكمة إمام الزاهدين وزين العابدين عبد الله بن المبارك جعلته ينظر للأمور من منظار مختلف فيمكن للعابد الزاهد أن يكسب من الأجر في الانفاق على الآخرين في رحلة الحج أضعاف ما قد يكسب من الأجر شخص متصوف قد يخالف الشريعة السمحاء في السفر للحج وهو حافي القدم ومكشوف الرأس. وحيث إننا بدأنا الحديث عن الإمام العابد عبد الله بن المبارك وقصته مع عابد الحرمين الفضيل بن عياض ربما من المناسب الإشارة إلى أنه يقال بأن عبد الله بن المبارك قال للفضيل بن عياض رحمهم الله جميعا (لولاك واصحابك ما أتجرت) والمقصود أن ابن المبارك كان يهتم بالعمل في التجارة والكسب حتى يتوفر له من المال ما يستطيع أن يصرف منه بسخاء متواصل على إخوانه واصحابه من السلف الصالح وأهل العلم والورع والعبادة.

 الحج من التمازج الاجتماعي إلى التمايز الاقتصادي

أمير المؤمنين في الحديث الإمام عبد الله بن المبارك ربما يكون أحد أشهر أثرياء السلف الصالح ولهذا خلد التاريخ أخبار رحلاته المتكررة والفريدة إلى الحج وبعضها لا يثبت مثل تلك التي زعم الرواة أن الملائكة حجت بدلا عنه. ومن قصة أثرى أثرياء السلف إلى أغنى رجال في التاريخ الإسلامي والذي له شهرة طاغية في الغرب بالرغم من أنه شبه مجهول لأغلبنا. الصحفي الأمريكي جاكوب ديفيدسون كتب مقالا في مجلة المال حمل عنوان (أغنى عشرة أشخاص في كل العصور) ووضع في المركز الأول الإمبراطور المسلم منسا موسى حاكم مملكة مالي القديمة والذي تقدر ثروته بحوالي 400 مليار دولار وهو بهذا يتقدم بمراحل عن أثرياء العصر الحديث مثل الملياردير بيل غيت فضلا عن أباطرة المال مثل روكفلر أو كارينجي. أما في تاريخنا الإسلامي فتصف كتب التاريخ بأن منسا موسى كان متدينا محافظا على الصلاة وكان ومحبا للخير وكثير الصدقة والبرّ وهذا أمر واضح من أخبار رحلته للحج والتي هي ربما أغرب رحلة حج سجلها التاريخ. لقد قام سلطان مملكة مالي منسا موسى بأداء فريضة الحج وذلك في عام 724 هجري واصطحب معه حاشية ضخمة جدا يقال إنها ربما وصلت لحوالي ستين ألفا من الأتباع والجنود وكان برفقتهم كمية هائلة من الذهب حيث كانت مملكة مالي في ذلك الزمن تهيمن على مناجم الذهب والملح. وليس بمستغرب فهم كيف يصبح حج السلطان منسا موسى (عبادة متعدية النفع) حيث تسبب في حج الآلاف من الأتباع. كما أنه عندما قطع مسافة ستة آلاف كيلومتر من عاصمة مملكته مدينة تمبيكتو إلى مكة المكرمة كان عندما يمر على المدن والقرى العربية والإفريقية في طريقه إلى الحج يتصدق بكميات هائلة من الذهب أسعدت عشرات الآلاف من الفقراء في تلك البلدان. 

تشير كتب التاريخ إلى أن في قافلة حج منسا موسى كان يرافقها حوالي 100 جمل كل واحد منها محمل بحوالي 300 رطل من الذهب تم توزيعها كلها على أهل المدن التي كان يمر عليها منسا موسى بل وصل الأمر إلى أنه كان يبني مسجدا في كل مدينة أو قرية يصادف مروره بها يوم الجمعة. الغريب في الأمر أن قصة هذا الملك الثري والسخي انتشرت في الغرب وأوروبا لدرجة أن أصبح اسمه واسم عاصمته تمبيكتو مرادفا لديهم للأساطير والأخبار العجيبة والثراء الفاحش. والأغرب من ذلك أن الغربيين ربما يعرفون عن رحلة الحج الفريدة تلك أكثر مما نعرف نحن لدرجة أن الشاعرة والمؤرخة الأمريكية باربرا كراسنر ألفت كتابا خاصا عن تلك الرحلة حمل عنوان (منسا موسى أشهر مسافر أفريقي إلى مكة).

ولكي نختم هذه الفقرة نود أن نؤكد أنه خلال التاريخ الإسلامي الطويل وفد في رحلة الحج إلى الديار المقدسة عشرات الآلاف من الأثرياء والأمراء والتجار والعديد منهم جعل مناسبة أداء الحج فرصة للنفع العام للمسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة أو في طريق الحج. فبعضهم مثل الأميرة زبيدة بنت جعفر المنصور وزوجة هارون الرشيد عندما حجت في عام 176 هـ لمست معاناة الحجيج ولهذا أقامت العشرات من محطات القوافل على (درب زبيدة) وأجرت الماء من عين زبيدة لسقاية الحجاج في مكة. وهذه الأميرة الهندية الثرية (صولة النساء بيغم) عندما حجت بيت الله في عام 1289هجري كانت مساهمتها في جعل الحج عبادة متعدية المنفعة أنها دفعت تكاليف بناء أول مدرسة نظامية في الجزيرة العربية وهي المدرسة الصولتية العريقة التي أقيمت بحارة الباب في جوار المسجد الحرام.

 ومن التاريخ الإسلامي القديم ننتقل إلى الحاضر المعاصر فبعد أن كان تاريخنا زاخرا بقصص وأخبار (حج الزهاد) من مثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي كانت تكاليف حجته 16 دينارا فقط ومع ذلك يقول لابنه عبد الله قد أسرفنا في حين حج إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حبل من العراق إلى مكة وأنفق 30 درهما فقط. هذا كله أصبح من التاريخ ولذا في الزمن المعاصر لا مجال لحج الزهاد وذلك بعد ارتفاع تكاليف السفر والمعيشة ومع تطبيق قانون (لا حج إلا بتصريح) وهذا يعني وجوب التسجيل في حملة حج رسمية قيمة رسوم تكاليف الشخص الواحد فيها لا تقل عن خمسة آلاف ريال وفي الأعم الغالب التكلفة ضعف هذا المبلغ.

ومن حج الزهاد الذي تلاشى تماما الآن نجد ومنذ سنوات ظاهرة استجدت في موسم الحج ألا وهي (حج النخبة) من الأثرياء والأغنياء الذين أصبح حجهم نوع الرفاهية الباذخة (lavish luxury). تتفاوت الآراء الفقهية في جواز الإسراف في البذخ والترف أثناء ممارسة شعائر الحج والتي هي في الأصل تحث الناسك على البساطة والبذاذة والإخشوشان والتفث بترك الطيب والإدهان لدرجة أن يصبح المرء أشعث أغبر فكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه وترك أنواع الاستمتاعات).

أحد أكبر الخسائر التي يقع فيها من يحج حج النخبة وحج الأشخاص ذوي الأهمية القصوى Very VIPs أنهم في الغالب سوف يعزلون عن مخالطة عامة الحجاج وبالتالي تضيع عليهم فرصة التعرف على إخوته في الإسلام من كل أصقاع الأرض. في الزمن القديم كان التاجر الثري أثناء رحلة الحج وحتى أثناء الإقامة في بيوت مكة أو خيام المشعر الحرام غالبا سوف يحتك بغيرة من العوام وربما يتصدق عليهم أو يتسبب في تقديم خير أو منفعة لهم كما تقدم ذكره. قارن ذلك مع ما يحصل في حج التمايز الاجتماعي المعاصر وذلك عندما ينتشر إعلان يشير إلى أن تكلفة الجناح التنفيذي في مكان إقامة نخبة النخبة وصفوة الصفوة cream of the cream قد يصل لمبلغ فلكي باهظ يتمتع مقابله الحاج برفاهية الاستقبال في صالات الطيران الخاص والإقامة في فنادق السبعة نجوم في جدة ومكة وضيافة خاصة في مشعر عرفات بإطلالة مميزة على جبل الرحمة.

 وختاما لن نحرم على الناس الاستمتاع والتوسع في المعيشة سواءً داخل حدود الحرم أم خارجه كما لن نمانع كما مانع قديما الإمام سفيان الثوري على إقامة السرادقات والفساطيط الفارهة على أرض منى ولكن مع ذلك نقول إنه كما كان من أبرز معالم الحج تشابه الحجاج عند ارتدائهم ملابس الإحرام البيضاء فربما من الأفضل عدم المبالغة في التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين الإخوة الحجاج.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق