السبت، 19 أغسطس 2023

( الجدال حول مطالع الهلال )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في عام 1876م وصل الرحالة الإنجليزي تشارلز داوتي إلى منطقة تيماء وعاش لفترة من الزمن بين البدو ولهذا وثق في كتابه الضخم (ترحال في صحراء الجزيرة العربية) مشاهداته عن عادات بدو الجزيرة في صوم رمضان ومظاهر عيد الفطر. وفي ضوء الجدل الحالي عن (رصد) الهلال نجد أن داوتي قبل حوالي قرن ونصف من الزمن (يرصد) لنا حالة الجدل القديمة والمتكررة بين البدو فيما يتعلق بالهلال. لقد شاب رصد هلال رمضان في تلك السنة (1876م) شيء من عدم الدقة في تحديد بداية شهر رمضان حيث تبين لأهل البادية أن هلال اليوم الأول من رمضان مرتفع كثيرا مما يعني أنهم في الواقع في اليوم الثالث من الشهر وعليه هم صاموا شهر رمضان في تلك السنة 28 يوما فقط كما حصلنا مع الجيل الطيبين في عام 1404هـجري.

وما يهم هنا أنه أثناء (الجدال) والنقاش الذي دار بين البدو حول هذا النقص وهل سوف يجرح صومهم يذكر داوتي إن أحد البدو علق بقوله إن الناس في المدن يعتمدون على الحساب الهندي في تحديد الشهر وإن ذلك الحساب دقيق ولا يخطئ مطلقا. والغالب أن المقصود بالحساب الهندي في تحديد مطالع شهر رمضان هي تلك الجداول الفلكية التي وضعها أبو يحي زكريا القزويني واشتهرت منذ ثمانية قرون باسم (جدول الشهور والأيام) وهي في الأصل مستله من البيانات الفلكية التي رصدها عالم الفلك المروزي حبش الحاسب الذي أنتج زيجا فلكيا خاص عرف باسم الجدول المجرد استخدم لتحديد موعد رؤية الهلال.

وفي ضوء ما سبق نعلم أنه في التاريخ العربي تم ومنذ زمن بعيد تداول جداول فلكية وكتب منشورة تبين التواقيت الحسابية لمطالع هلال رمضان أو هلال العيد ولهذا نعلم الآن أن اللواء المصري محمد مختار باشا عندما قام في عام 1311 هجري بنشر كتابه (التوفيقات الإلهامية) كان يستند على معرفة فلكية عربية عريقة. وكما هو معلوم في الأيام الماضية تم وبشكل كثيف تداول خبر هذا الكتاب الفريد وكيف أنه في جزء منه يوثق لكل سنوات التاريخ الإسلامية قديما وفي المستقبل (حتى عام 1500 هجري) تواريخ هلال شهر رمضان وهلال العيد. وهذا يعني أنه في حدود 14 سنة فقط من (الجدال) الذي (رصده) تشارلز داوتي بين بدو تيماء حول الحساب الهندي لرؤية هلال رمضان تم بالفعل نشر وطباعة مؤلف وكتاب عربي يحدد مواعيد تلك المناسبات الدينية الهامة.

البعض منا استغرب كيف أمكن ومنذ أكثر من مئة سنة حساب الموعد الدقيق لتوقيت ظهور هلال العيد لعام الذي نحن فيه كما نشر في جداول كتاب (التوفيقات الإلهامية) في حين أننا نغفل أنه ذكر في القرآن الكريم الآية الكريمة (الشمسُ والقمرُ بحسبان) ويقول أهل التفسير إن المعنى أنهما يجريان بحساب معلوم لا يختلف يمكن من خلاله تحديد منازل ومطالع القمر. وهذا أمر موجود ومعلوم في كل الحضارات البشرية القديمة فمنذ الزمن القديم للهنود والإغريق تم وضع جداول فلكية عن حركة الأجرام السماوية ومنها الشمس ومنازل القمر. بل وصل الأمر إلى أن الإغريق تمكنوا منذ أكثر من ألفي سنة من صنع أداة فلكية ميكانيكية (آلية أنتيكيثيرا) تستطيع التنبؤ بمواعيد الخسوف والكسوف وكذلك تحديد حركة الشمس والقمر وبالتالي بداية الشهر القمري.

والمقصود أن المعرفة البشرية فيما يخص حركة الأجرام السماوية دقيقة بشكل مذهل في القديم والحديث ومع ذلك يبدو أنه فيما يتعلق بالشعائر الدينية كانت الحكمة النبوية الشريفة أن نعتمد على الرؤية المباشرة للهلال لأن أهل الحساب المجرد قد يختلفون، بل ويختصمون ويتهارشون كما (رصدنا) جميعا تلك المهزلة التي حصل في عيد هذه السنة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق