د/ أحمد بن حامد الغامدي
ما أريد الوصول له أنه في بدايات القرن
العشرين ومع تبلور مفهم السياحة والسفر وانتشارها لشرائح واسعة من المجتمعات
(الأوروبية خصوصا) ظهرت عادة وصف شهري يوليو وأغسطس بأنهم هما (موسم الذروة peak
season) للسياحة والسفر بينما في السابق كانت فترة نهاية الربيع وبداية الصيف
(المتزامنة مع شهري مايو ويونيو) هي الفترة المفضلة أكثر للسفر بسبب أن الطقس ألطف
وجمال الطبيعة أوفر. وهذا يقودنا إلى شهر يونيو والذي نحن الآن في الثلث الأول منه
حيث كان هذا الشهر مرتبطا عبر التاريخ أكثر من غيره بالرحلات والسفر والسياحة، بل
وحتى أشهر الاستكشافات الجغرافية. وفي السابق عندما كانت الإجازة الصيفية لدينا
تمتد لأكثر من ثلاثة شهور كان شهر يونيو يحظى بنصيب جيد من ذكريات وتجارب السفر
والسياحة الخارجية.
بعد ثلاثة أيام وبالتحديد في يوم 14 يونيو سوف
تمر ذكرى بداية الرحلة الأشهر في تاريخ السفر والاستكشاف ألا وهي لحظة انطلاق ابن
بطوطة في دروب الارتحال والسفر والتي حصلت في منتصف شهر يونيو من عام 1325م
(الثاني من رجب لسنة 725 هـ). للذاكرة الجمعية للأمة العربية حققت رحلات ابن بطوطة
ثروة معرفية زاخرة باستكشاف جهات وبلادن مجهولة للإنسان العربي مثل الكشف عن مجاهيل
بلاد الصين وغرائب أرض الجليد في تتارستان ومدن الملح في الصحراء الكبرى ونساء جزر
المالديف العجيبات ذات الثدي الواحد.
لبعض القراء في ذلك الزمن ربما كانت تلك المعلومات
في كتاب رحلات ابن بطوطة أشيه بالخيال والأساطير بل أن كتاب رحلات ماركو بولو
ووصفه لعجائب أرض الصين لم يصدقها في البداية القارئ الإيطالي الذي كان يعيش في
عصور الظلام ولهذا أطلق على كتاب رحلات ماركو بولو كتاب (المليون كذبة). والمقصود
أن عالم الاكتشافات الجغرافية القديمة كان يتداخل فيها الخيال بالأوهام والكذب
ولعل من اللطائف التي يمكن ذكرها فيما يخص ارتباط شهر يونيو بالرحلات والسفر وكذلك
بالخيال والخرافات أن أحد أشهر كتب أدب الرحلات وهي الرواية الخيالية للأديب الإنجليزي
جوناثان سويفت (رحلات جوليفر) والتي لها نوع ترابط بموعد بداية رحلة ابن بطوطة. كما
ذكرنا بدأ رحالتنا العربي الكبير مشوراه في يوم 14 يونيو بينما بطل رحلات جوليفر
ليس فقط تبدأ قصته بالإبحار من بريطانيا في يوم 20 يونيو من عام 1702م ولكن كذلك
نجد أن أشهر قصة في ذلك الكتاب الماتع وهي قصة (جوليفر في جزيرة الأقزام) بدأت في
شهر يونيو كذلك. وفق خيال الكاتب جوناثان سويفت فإن السفينة التي كانت تحمل الطبيب
جوليفر أكتشف طاقمها وجود جزيرة الأقزام (أرض الليليبوت) في يوم 16 يونيو من عام
1703ميلادي. وتمضي القصة بأن جوليفر سوف يعيش بين أولئك الأقزام لعدة سنين حتى
يغادرها أخيرا ويبحر على طوق خشبي صغير في صبيحة اليوم الثالث من شهر يونيو لعام
1706م.
السفر عبر البحر واكتشاف أراضي وجزر غريبة
خلال شهر يونيو يبدو أنه حديث خرافة وخيال مجنح كما في قصص الأطفال (بالمناسبة
رواية رحلات جوليفر الهدف الأساسي لها كان النقد الحاد للأوضاع السياسية في بريطانيا
بأسلوب غير مباشر بطريقة الكتابة الرمزية) ومع ذلك يبدو أنه في التاريخ القديم كان
شهر يونيو هو الشهر الأكثر حظا في موافقة لحظة المجد بتحقيق اكتشافي جغرافي فريد.
من ذلك مثلا أننا نجد أنه قبل خمس سنوات من وفاة الأديب السالف الذكر جونثان سويفت
تمكن مواطنه الإنجليزي الراحلة والبحّار المشهور جميس كوك من إرساء سفينته على
شواطئ الجزيرة الضخمة (أستراليا) التي هبط هو وطاقم بعثته البحرية على أرضها في
يوم 11 يونيو من عام 1770 ميلادي. وإن كان في عالم الخيال أكتشف جوليفر في يوم 20
يوليو من عام 1703م أن تم تثبيته وربطه بالحبال من قبل تلك المخلوقات الغربية (الأقزام)
لكن في عالم الواقع والحقيقة فإن طاقم سفينة الرحالة جيمس كوك شاهدوا في يوم 23 من
شهر يونيو من عالم 1770م تلك المخلوقات الغريبة (حيوان الكنغر).
ومن اكتشاف أستراليا ننتقل خلال التاريخ ونتحرك فوق الجغرافيا لنصل إلى لحظة اكتشاف كندا وذلك على يد الرحالة والمستكشف الفرنسي جاك كارتييه الذي وصل مع طاقم سفينته إلى الساحل الشرقي من كندا وذلك في شهر يونيو من عام 1534م وكان هو أول من أطلق على تلك البقاع من اليابسة اسم كندا وأعلنها أراضي تابعة للملك فرانسيس الأول. وإذا كان طاقم سفينة جيمس كوك اكتشفوا لأول مرة حيوان الكنغر فإن طاقم بعثة جاك كارتيية جلبوا معهم إلى أوروبا لأول مرة في التاريخ حبوب نبات الذرة. الطريف في الأمر أن (كندا) في الواقع كانت قد اكتشفت قبل ذلك بعدة عقود على يد الرحالة والمستكشف الإيطالي جون كابوت وبتكليف وتمويل من الملك الإنجليزي هنري السابع. بقي أن نقول إنه في ضوء ما سبق (من ارتباط شهر يونيو بالاكتشافات الجغرافية الكبرى) ليس من المستغرب أن نعلم أن هذا الاكتشاف المسبق لأمريكا الشمالية حصل بالتحديد في يوم 24 يونيو من عام 1497 ميلادي. التناقض الأكبر في قصة اكتشاف جون كابوت لأمريكا الشمالية ليس فقط أنه تم تجاهل هذا الاكتشاف الجغرافي والهام وتناسيه، ولكن الأحراج الأشد من ذلك أنه كما أخطأ كريستوفر كولومبوس في عام 1492م وأعتقد أنه باكتشافه لجزر أمريكا الوسطى قد وصل إلى قارة آسيا. نجد كذلك أن جون كابوت قد أقنع الملك الإنجليزي هنري السابع (كما أقنع كولمبس الملكة الإسبانية إيزابيلا) أنه بالإبحار من السواحل البريطانية في الاتجاه الشمال الغربي سوف يصلون إلى الأراضي الصينية والهندية.
الجدير بالذكر أنه ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي والعديد من المستكشفين والراحلة
يحاولون تحديد ما يسمى الممر الشمالي الغربي Northwest Passage
وهو معبر مائي متجمد في الدائرة القطبية الشمالية من المفترض أن يربط بين أوروبا وآسيا
من خلال المرور بالمياه المتجمدة شمال الساحل الكندي. وبعد محاولات متعددة عبر
القرون للعشرات من البعثات الاستكشافية الأوروبية لتحديد مسار هذا الممر المائي
تمكن أخيرا المستكشف النرويجي روالد أموندسون من أن يصبح أول شخص يبحر بنجاح عبر
هذا الممر المائي المتجمد وذلك عام 1906م. وما يهمنا هنا أنه في الوقت الحالي ومع
ظاهرة الاحتباس الحراري أصبح هذا الممر المتجمد شبه مفتوح للملاحة ورحلات السفن التجارية
كل صيف مع ارتفاع درجة الحرارة وذوبان الجليد في شهر يونيو. وقبل أن نغادر سرد الاكتشافات
الجغرافية الكبرى التي حصلت في شهر يونيو لا ينبغي أن نغفل الإشارة إلى أن شهرة
المغامر والمستكشف النرويجي روالد أموندسون السالف الذكر وسبب تخليد اسمه في كتب
التاريخ أنه كان في الواقع أول شخص يصل مع فريقه الاستكشافي إلى منتصف القطب
الجنوب (South Pole). طبعا ارتباط شهر يونيو بهذا الإنجاز التاريخي
الخطير (كما هو معلوم المستكشف البريطاني روبرت سكوت
ورفقائه خسروا حياتهم وهم يحاولون أن يسبقوا أموندسون في الوصل لذلك الشرف) يتمثل
في أن بعثة أموندسون الاستكشافية تلك غادرت النرويج في شهر يونيو.
والمعنى أنه ليس شرطا أن يكون شهر يونيو هو
التوقيت الفعلي الذي تحصل خلاله الاكتشافات المميزة من جراء السفر ولكنه قد يكون هو
الشهر الذي تبدأ فيه (الاستعدادات) لتحقيق رحلة مميزة. وهذا يقودنا إلى قصة أهم
اكتشاف جغرافي على الإطلاق وهو اكتشاف الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس للعالم
الجديد وما يهمنا هنا أنه بعد سنوات عدة من استجدائه لملوك البرتغال وبريطانيا وإسبانيا
أن يقوموا بتمويل رحلته الاستكشافية الجريئة. وأخيرا وبعد مماطلة لعدة سنوات وافقت
الملكة الإسبانية إيزابيلا وزوجها الملك فرديناند على توقيع معاهدة التمويل المالي
لحملة كولومبوس وذلك في شهر أبريل من عام 1492م وعليه من المحتمل أن كولومبوس قضى
شهري يونيو ويوليو من عام 1492م وهو يستعد ويجهز ويخطط لرحلته الصيفية الشهيرة تلك.
في الزمن المعاصر لمن يرغب في السفر للخارج
ولفترة طويلة من الزمن وخصوصا إذا كان بصحبة عائلته يجب أن تبدأ (الاستعدادات) في
وقت مبكر من الموعد الفعلي للسفر. للأسف تعقيدات السفر زادت بشكل مزعج ومقلق فالأمر
في الغالب يحتاج إلى إصدار التأشيرات من السفارات الأجنبية وإلى الحجز المبكر
لمقاعد الطيران بل يفضل كذلك شراء تذاكر القطارات في البلد الذي تخطط للسفر له او
التنسيق لاستئجار سيارة وأحيانا مع سائق ومرشد سياحي.
من هذا وذاك تحول عبر الزمن شهر يونيو من
شهر السفر والرحلات والاستكشاف إلى شهر (الاستعداد) للسفر وتجهيز طلبات الرحلات
السياحية التي لن تبدأ في الغالب لأغلبنا إلا بعد عيد الأضحى المبارك أي بعد انتقال
وهجرة شهر يونيو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق