د/ أحمد بن حامد الغامدي
ولكن حسب
أحداث تلك الرواية الأدبية والسياحية الشيقة فإن رحلة السفر حول العالم تمت من
خلال 11 دولة فقط (و 23 مدينة). وما يهمنا هنا أن عدد الدول الأوروبية من مجمل تلك
الدول كان أربع دول أوروبية وزمن تنقل بينها كان في حدود أربعة أيام (يعنى في حدود
80 ساعة).
ويمكن أن يكون ذلك مؤشرا في القديم (أحداث الرواية حصلت خلال عام 1872م) وفي
الحديث بأن قارة أوروبا كانت وما زالت أسرع قارة يمكن التنقل بين دولها (ثلث دول
رواية حول العالم في 80 يوم تمت زيارتها خلال أربعة أيام فقط بينما بقية الدول
السبعة الأخرى حصل السفر عبرها في مدة شهرين ونصف).
من الناحية السياحية وجود دول صغيرة متعددة
ومتقاربة جغرافيا ومتباينة من ناحية الثراء التاريخي والحضاري مع ما يضاف لذلك من
التنوع في التضاريس والمناظر الطبيعية والتباين في أجواء المناخ، كل ذلك مغر سياحيا
ومكسب حقيقي للرحالة وعشاق السفر. خذ على ذلك مثال التمتع بمشاهدة المناظر
الطبيعية أليس من الجميل أن تسافر من خلال رحلة نهرية وتزور عددا كبيرا من الدول
بينما في أغلب دول العالم السفر عبر الأنهار قد يكون عبر تضاريس دولة واحدة فقط أو
دولتين.
بينما في الحالة الأوروبية نجد أن نهر
الدانوب وبكل جدارة يستحق لقب (نهر العواصم) فهو يمر عبر أربع عواصم دول أوروبية
هي النمسا وسلوفاكيا والمجر وصربيا (يمر عبر مدن: فيينا وبراتيسلافيا وبودابيست
وبلغراد) بل إن هذا النهر الفريد يمر أو يحاذي عشر دول أوروبية .صغر مساحة القارة
الأوروبية وتقارب دولها يعطي تشكيل جغرافي فسيفسائي لقطع موزاييك متنوعة من الشعوب
والدول التي يسهل الانتقال بينها في سويعات بالطائرة حاليا أو خلال أيام برحلة
نهرية عبر الدانوب ملك أنهار أوروبا أو بدلا من ذلك يمكن السفر بالقطار عبر المسار
الشهير لقطار الشرق السريع.
لعشاق الأدب لا شك أنهم قد استمتعوا بقراءة
رواية (جريمة في قطار الشرق السريع) لملكة الجريمة الإنجليزية أجاثا كريستي، بينما
لعشاق السفر والرحلات لا شك أنهم سوف يستمتعون بالسفر عبر محطات سكة القطار
التاريخية وبالغة الأهمية المسماة: قطار الشرق السريع (Orient Express)
والتي يمكن ان نسميها على نسق نهر الدانوب (سكة قطار العواصم). ما بين الفترة
الزمنية من 1883 ميلادي (سنة تدشين رحلات قطار الشرق السريع) وحتى عام 2009م كان
بالإمكان التنقل عبر سكة القطار التاريخية هذه عبر العديد من العواصم والمدن
الأوروبية بداية من مدينة باريس ونهاية بمدينة إسطنبول ومرورا بمدن عريقة مثل ستراسبوغ
وميونخ وفيينا وبودابيست وبوخاريست. ومرة أخرى الرحلة بالقطار عبر سهول القارة
الأوروبية مثلا من أقصى الغرب في لندن إلى أقصى الشرق في بوخاريست يمكن أن تتم في
حدود أربعة أيام وهذا يعني أنه مرة ثانية يمكن السفر (حول أوروبا في 80 ساعة).من
جانب آخر ولعشاق رحلات الكروز البحرية sea cruises فبالتأكيد لا يوجد موقع يمكن أن ينافس شواطئ
البحر الأبيض المتوسط والتي يمكن أن تتيح لك الفرصة لزيارة أكبر عدد من الدول في
نفس الرحلة البحرية. على سبيل المثال يمكن خلال أربعة أيام (80 ساعة) التنقل
بالرحلات البحرية عبر عباب أمواج شرق البحر الأبيض المتوسط بين المدن الساحلية في
جنوب إيطاليا واليونان وجزيرة قبرص وكريت وسواحل شرق تركيا.
مما سبق ذكره يتبين لنا ميزة اختيار القارة
الأوروبية بهدف السياحة والترحال وخصوصا في زمن اتفاقية (تأشيرة الشنجن) التي تتيح
الدخول من دون الحاجة للمرور عبر منافذ الجوازات البرية بين حوالي 26 دولة أوربية
وهذا من شأنه تسهيل الانتقال لعدد كبير من الدول والمدن في رحلة سياحية واحدة وهذه
ميزة فريدة لا توجد بهذا المستوى في أي موقع جغرافي آخر. وعليه يمكن خلال أربعة
أيام أو 80 ساعة التنقل (باستخدام السيارة أو القطار أو الباخرة) بين عدد ل بأس به
من هذه الدول المتنوعة في تضاريسها ومناخها وثقافاتها وتاريخها وطبائع شعوبها.
من الناحية الجسدية والنفسية قد يكون التنقل السريع بين عدد كبير من الدول والمدن مرهق ويتعارض مع مبدأ (سياحة الاسترخاء) القائمة على ركيزتين أساسيتين وهما: طول الإقامة في موقع واحد وتجنب المدن الصاخبة والهروب إلى المنتجعات الطبيعية الجبلية أو الجزر المنعزلة.ومع ذلك يبقى لثقافة (سياحة الاستكشاف) وهجها وجاذبيتها الثقافية والمعرفية المحفزة والدافعة لتحمل مشاق ووعثاء السفر والانتقال المتكرر والسريع في سبيل الظفر بمشاهدة والتعرف على أكبر عدد من المعالم السياحية والتاريخية والطبيعية في أقصر وقت ممكن. وبالمعذرة من القارئ الكريم ربما احتاج أن أرجع إلى التاريخ القديم فيما يتعلق بالسفر عبر دول القارة الأوروبية وأن هذا الترحال كان من أهم وسائل التعليم والتثقيف في القرون الماضية. كلنا يعلم دور البعثات العلمية إلى أوروبا في عصر محمد علي باشا والي مصر وما تلى ذلك مما يسمى بزمن النهضة العربية وتأثير ذلك على رواد الفكر العربي مثل رفاعة الطهطاوي وطه حسين وعلي مبارك وأحمد زكي باشا وغيرهم كثير. ومع ذلك ينبغي التنبيه أن (البعثات العلمية) كان تتم في أوروبا قبل ذلك بقرون فيما يسمى (الجولة الكبرى Grand Tour) والتي كان من خلالها يتم تعليم أبناء الطبقة الثرية في المجتمعات الغربية من خلال سفرهم وتنقلهم عبر المدن الأوروبية.
وهذا ما كان يحصل في أوروبا حتى القرن
التاسع عشر حيث كان يتم ارسال صغار الشباب من الأسر الأرستقراطية من بريطانيا
وألمانيا وحتى أمريكا وكندا ليتعلموا بطريقة غير مباشرة من خلال تجولهم بين مكتبات
ومتاحف وآثار المدن الأوروبية وخصوصا في إيطاليا وفرنسا. وبحكم أن هذه البعثات
التعليمية التي كانت تتم في هيئة رحلات سياحية كانت تركز أكثر على تعريف الشباب
بالإرث الثقافي اليوناني وكذلك أرث عصر النهضة وأرث بدايات الثورة العلمية. لهذا
لا غرابة أن نعلم أن مشاهير الأدباء والفلاسفة والعلماء الغربيين قاموا في بواكير
شبابهم برحلة (الجولة الكبرى) من مثل الفيلسوف الفرنسي ديكارت والشاعر الإنجليزي
اللورد بايرون والكيميائي البريطاني هنري كافنديش والقائمة تطول.
وبعد هذه التحويلة (detour)
في مساق المقال بالحديث عن ظاهرة الجولة (tour) الكبرى في التاريخ الأوروبية وأثرها في
الثقافة الغربية من حيث دمج التعليم مع السياحة والسفر نعود في نهاية المقال
للتأكيد على أن صغر مساحة بعض الدول الأوروبية وقربها من بعضها البعض تعتبر في نظر
عالم الرحلات والسياحة غنيمة باردة. أود أن أنبه كذلك بأن ما يعرف في مجال
الجغرافيا بالنقطة الحدودية الثلاثية (tri-border area)
وهي الموقع الجغرافي الذي يمثل نقطة التقاء حدود ثلاث دول مختلفة هي كذلك من
المناطق التي تسهل المرور على أكبر عدد من الدول في نفس الرحلة السياحية. والجدير
بالذكر أنه بالرغم من أن عدد الدول الأوروبية قليل نسبيا مقارنة بالقارات الأخرى
حيث إن عدد البلدان الأوروبية 47 دولة إلا أن عدد النقاط الثلاثية الحدود في تلك
القارة يصل إلى حوالي 51 نقطة وهذا من شأنه أن يعزز سهولة الانتقال من دولة إلى
دولة خصوصا في حال عدم وجود نقاط الجوازات والجمارك بين حدود دول اتفاقية الشينغن.
قبل أيام وكجزء من رحلتنا السياحية إلى دول
أوروبا الشرقية توقفت أنا ورفقاء السفر الأعزاء الأستاذ
فهد القحطاني والدكتور عبدالكريم الخليفي في نقطة الحدود الثلاثية بين هنغاريا
وسلوفاكيا والنمسا الفريدة في موقعها وتصميمها بحيث جلسنا جميعا على طاولة واحدة مثلثة
الشكل كان في الواقع كل واحد منا يجلس على كرسي في دولية مستقلة. هذا التقارب
المذهل بين الدول في أوروبا الشرقية أتاح لنا في فترة زمنية تزيد قليلا عن
الأسبوعين ليس فقط الزيارة السياحية الكافية لتلك الدول الثلاث على تلك الطاولة
العجيبة، ولكن أيضا زيارة ثلاث دول إضافية هي التشيك وبولندا ثم الانتقال بالطائرة
إلى العاصمة الرومانية مدينة بوخاريست.
وسياق هذا الحديث يفتح المجال للتسويق
والإرشاد للرحلات الأوروبية (متعددة الجنسيات) فمثلا مع نفس المجموعة الكريمة من
رفقاء السفر تجولنا قبل عدة سنوات في دول غرب أوروبا فبعد جولة في المدن الفرنسية
توجهنا شمالا إلى بلجيكا وهولندا. وعلى نفس النسق وخلال فترة زمنية معقولة (ليس
شرطا أن تكون أربعة أيام أو 80 ساعة كما هو عنوان المقال) يمكن التخطيط الذكي للسفر
المتنوع بين العديد من دول وسط أوروبا. وأنا شخصيا أقترح التالي: يمكن التنقل السلس
والشيق بين مدن جنوب ألمانيا (مثلا ميونخ وشتوتغارت). ثم النزول من جهة الغرب إلى
المدن السويسرية مثل بازل وزيورخ وبعد تخطي جبال الألب الخلابة يمكن زيارة مدن
الشمال الإيطالي وخصوصا ميلانو والبندقية وأخيرا يمكن إكمال هذه الرحلة الدائرية
المذهلة في قلب أوروبا بالاتجاه شمالا والتمتع بسحر المنتجعات النمساوية الساحرة
في مدن سالزبورغ وأنسبروك.
حقا لقد كانت قبل قرون رحلات (الجولة الكبرى Grand Tour) عبر الدول الأوروبية مصدرا زاخر للتعليم والثقافة والتحضر واليوم تستمر المسيرة فما زالت المخططات المختلفة للجولة الكبرى في شرق أو وسط أو غرب أوروبا مصدر مميز لسياحة الاستكشاف الثرية بالمعرفة والتاريخ مع شيء من الاسترخاء والاستجمام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق