السبت، 19 أغسطس 2023

( المرتزقة بين الشرق والغرب )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 المرتزقة mercenaries كلمة قبيحة في كل لغة ولفظة سيئة السمعة في تاريخ كل أمه وللأسف للشعوب العربية والدول الإسلامية أوفر النصيب من هذا البلاء المسلح والشر المسرح. وأقرب دليل لبيان أن نكبة الأمة العربية مع كارثة عساكر المرتزقة لا تماثلها نكبة بالمقارنة مع الشعوب الأخرى أنه خلال هذا الأسبوع ترددت كثيرا أخطار وأخبار الجيوش المرتزقة في الشرق والغرب ومع ذلك كانت مصيبتنا بهم أشنع وأفظع. فبعد تمرد محدود وخاطف انتهت بسرعة عجيبة كارثة ثورة وانقلاب مرتزقة فاغنر في روسيا وقارن ذلك بخطورة وطول نكبة إخوتنا في السودان مع مرتزقة جيش حميدتي المتجددة حتى في أجواء العيدين.

منذ فجر التاريخ وكل القوى السياسية الكبرى والإمبراطوريات والممالك العظمى استعانت بالجيوش غير النظامية والميليشيات القتالية (المرتزقة) وذلك لتثبيت حكمها على المستوى الداخلي أو القتال في صفوفها ضد أعدائها على المستوى الخارجي وهذا متكرر بشكل واضح في تاريخ اليونان والرومان والفرس وفي تاريخ أرض الفراعنة وبلاد الصين وغيرها. ولكن من مظاهر الاختلاف بين مرتزقة العرب ومرتزقة الغرب أن عسكر السيوف والبنادق المستأجرة في تاريخنا العربي كثيرا ما تسببت في سقوط الممالك والدول الإسلامية كما سوف نذكر له شواهد متعددة بعد قليل. وفي المقابل نجد أنه من النادر أن ينجم عن هذه جحافل الجيوش المرتزقة إحداث قلاقل سياسية خطيرة في الغرب.

وها نحن ذا في هذا الأسبوع نجد أن من المحللين السياسيين من يقول إن مسرحية انقلاب مرتزقة جيش فاغنر سوف ترسخ في النهاية أساسات حكم القيصر الجديد فلاديمر بوتين حكما حصل سابقا مع القيصر القديم بطرس الكبير. في العقد الأخير من القرن السابع عشر الميلادي حصلت محاولة تمرد وانقلاب على الإمبراطور الروسي بطرس الكبير ومع هذا الاسم الفخيم والمنصب العظيم إلا أن هذا القيصر لم يتمكن من تثبيت حكمه إلا بمعونة كتائب مجموعة من المرتزقة المستجلبة من إسكتلندا كانت تعرف باسم الأقزام الحمر (redshanks) كان لهم تواجد ملحوظ في تاريخ أوروبا في تلك الفترة.

وبسبب أن للمرتزقة في تاريخنا وتاريخهم أدوارا متناقضة في تثبيت دعائم الحكم أو التسبب في سقوط الدول لهذا لا غرابة أن نجد أهل الفكر والسياسة في العالم العربي والعالم الغربي تختلف وجهات نظرهم حول الاستعانة بالمرتزقة. في الشرق نجد المفكر الكبير ابن خلدون يحذر أشد التحذير من التسلح بمثل هذه الجيوش غير المأمونة بينما في الغرب نجد بعض مفكريهم من مثل توماس مور يعتبرون وجود كتائب جنود المرتزقة من ركائز تدعيم الملك. أما ابن خلدون فمعروفة نظريته السياسية في مفهوم (العصبية) ودورها ليس فقط في نشوء الدول، ولكن في استدامة بقائها ولهذا يحذر ابن خلدون الحكام من خلخلة العصبية عن طريق اتخاذ مرتزقة أو ما سماهم (أولياء آخرين من غير جلدتهم) يستظهر بهم الحاكم على أهل عصبته ويتولاهم دونهم ويكونوا من خواصه دون قومه. وهنا ينبه ويحذر ابن خلدون الحاكم المستبد أنه إذا اتخذ العنصر الأجنبي والمرتزقة بحيث يكونون أولياءه الأقربون ونصحاؤه المخلصون فإن ذلك مؤذن بخراب دولته ويعود ذلك وبالا على البلد أو كما قال (اهتضام الدولة) وأشار بشكل مختصر كيف تسبب ذلك في ضعف الخلافة الأموية والعباسية.

قديما قيل في المثل الشعبي (ما يمدح السوق إلا من ربح فيه) وبحكم أن بعض مرتزقة الغرب ساهموا في تثبيت الدول ولهذا نجد المفكر والفيلسوف البريطاني البارز توماس مور ليس فقط ينصح الحكام باتخاذ كتائب المرتزقة بل يجعل ذلك من دعائم (المدينة الفاضلة). في ضوء معرفة السير توماس مور لدور المرتزقة الألمان والمرتزقة السويسريين (ومن بعدهم المرتزقة الأسكتلنديين) ودورهم الحاسم في الحروب الأوروبية لم يتردد توماس مور في كتاب (اليوتوبيا) من طرح فكرة استخدام المرتزقة في الدفاع عن الجمهورية الفضالة وقت الحرب بدلا من استخدام جيش من المواطنين.

 عندما يحكم المرتزقة

بخلاف التاريخ العربي والإسلامي لم أجد فيما بحثت خيانة واضحة في التاريخ الأوروبي لكتائب المرتزقة وجحافل المليشيات المسلحة وانقلابها على من قام بتوظيفها وخلعه من الحكم إلا مثال واحد حصل عام 1450م عندما قام المرتزق الإيطالي فرانشيسكو سفورزا بالوثوب على عرش مملكة ميلانو بعد أن قام لسنوات طويلة قبل ذلك في مساندة حكامها في حروبهم ضد أعدائهم التاريخيين: مملكة البندقية. ونظرا لأن التاريخ الإيطالي شهد لقرون طويلة وجود العشرات من الممالك المتعددة والصغيرة (المدينة/الدولة) المتطاحنة والمتصارعة فيما بينها ولهذا كثر استخدام جيوش المرتزقة في حروبهم. ونظرا لاحتمالية (شراء ولاء) زعماء هؤلاء المرتزقة وانتقالهم من طرف إلى طرف لم يكن من المستغرب أن نجد رجل السياسة والكاتب الإيطالي ميكافيلي الذي ولد في تلك الفترة التي انتشر فيها استخدام كتائب المرتزقة، يستشعر خطرهم ويحذر في كتابه الشهير (الأمير) من الركون إليهم.

ينص ميكافيلي في كتاب الأمير بشكل صريح على أن خراب إيطاليا في زمنه لم يكن سببه سوى اعتماد أمراء المدن على المرتزقة لسنوات طويلة بالرغم من أنهم عديمو الفائدة وخطرون. وقد علل ميكافيلي سبب خطورة الاعتماد على المرتزقة أنهم طموحون وبلا انضباط وخائنين وفي حال أصبح جيش المرتزقة أقوى عسكريا من الأمير الذي استعان بخدماتهم ربما انقلبوا عليه. الجدير بالذكر أن زعيم فرقة المرتزقة يسمى في اللغة الإيطالية كوندوتييرو Condottiero وهي كلمة مشتقة من المفردة ذات الأصول اللاتينية contractor أي العقد الذي يكتب بين المرتزق وطالب الخدمة منه. وما يهمنا هنا أن هذه الخلفية اللغوية لكلمة (الكونتراكتور) هي التي سوف يقوم عرب الأندلس في نهاية القرن الخامس الهجري بتحوير نطقها إلى كلمة El campeador أو (القمبيطور).

لقد كان للمرتزق الإسباني رودريغو دياث المعروف في المصادر العربية باسم رذريق القمبيطور (يعرف كذلك بلقب السيد El Cid) دور بارز في حروب ملوك الطوائف في تاريخ الأندلس. وبعد تاريخ حافل بالعمل كمرتزق في خدمة ملوك قشتالة مثل ألفونسو السادس وسانشو الثاني استطاع ملوك طوائف الأندلس أن يستقطبوه للقتال إلى جانبهم كما فعل حاكم طليطلة ولاحقا حاكم بلنسية. وبالفعل وقع ما حذر وأنذر منه ابن خلدون وميكافيلي بأنه لا يؤمن جانب المرتزقة وأن في ذلك (اهتضام الدولة) فما أسرع ما انقلب القمبيطور على بني هود ملوك بلنسية وانتزعها منها ونصب نفسه حاكما على مملكة بلنسية حتى وفاته منهيا بذلك حكم العرب والإسلام على تلك المنطقة العريقة.

 وهذا يقودنا إلى أن نستعرض بشكل سريع كيف تسببت كتائب المرتزقة في (اهتضام) الحكم والملك في مواقف متكررة ومتتالية من التاريخ الإسلامي:

في زمن الخليفة المعتصم كثرت الاضطرابات الداخلية المزلزلة لحكمة ولهذا نقل عاصمة الخلافة من مدينة بغداد إلى مدينة سُرّ من رأي (سامراء) وكذلك اتخاذ الخطوة الأخطر وهي استجلاب جنود مرتزقة من الأتراك لحماية عرشه. مع الوقت تزايدت سلطة وهيمنة أولئك الجنود المرتزقة لدرجة أنهم بدوءا يتدخلون في شؤون الملك ويقررون من سوف يتولى منصب ولاية العهد من أبناء الخليفة المتوكل.

وعندما شعر قادة عسكر الترك أن الخليفة المتوكل على وشك الفتك بهم انقلبوا عليه وأعدموه هو ووزيره الفتح بن خاقان. وبهذا بدأ مسلسل قتل وتعذيب وسجن خلفاء بني العباس على يد العسكر الذي اُستجلبوا أصلا لكي يكون حماية ودرع لهم ضد الفتن الداخلية. الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والتعذيب والتنكيل وقعت على كوكبة من الخلفاء العباسيين مثل الخليفة المنتصر الذي خلع وقتل وهو ما تكرر مع الخلفاء: المستعين بالله والمعتز بالله (الشاعر الأديب الذي نال لقب خليفة المسلمين لمدة يوم واحد فقط) والمهتدي بالله والقاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله.

هذه الفوضى والخراب المتواصل التي نتجت من عسكرة الخلافة تسببت في اضعاف هائل للدولة الإسلامية أثمر في خاتمة المطاف سقوط الخلافة بعد أن ساهم جنود البويهيون وعسكر السلاجقة في مزيد من تهميش دور ونفوذ الخلفاء في الحكم. وكما تسبب عسكر الترك في زوال ملك وحكم الخلافة العباسية تسبب عسكر المماليك وجنود الشراكسة في زوال ملك الدولة الأيوبية. وهنا نجد أن آخر سلاطين بني أيوب وهو الملك الصالح نجم الدين أيوب يكرر نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه الخليفة المعتصم عندما استجلب جنود الترك لحمايته. وكما ضايق عسكر الترك أهل بغداد فأخرجهم الخليفة المعتصم إلى مدينة سامراء نجد أن جنود المماليك يضايقون أهل القاهرة ولذا أخرجهم نجم الدين أيوب إلى جزيرة الروضة في طرف النيل. وحذوا القذة بالقذة كان سلوك أهل العسكر في الوقوع في شهوة السيطرة والحكم وكما تدخل أسلافهم في اختيار خلفاء بني العباس تدخل جنود المماليك في اختيار ملوك بني أيوب. ثم حصل أخيرا القفز والاستيلاء الصريح على الملك وانهاء الدولة الأيوبية على يد المملوك الظاهر بيبرس.

وكما حصل وأن ُقتل عدد من الخلفاء على يد العسكر في بغداد حصل نفس الأمر مع سلاطين القاهرة الذين قتلوا على يد جنودهم ومنهم السلطان صلاح الدين خليل الملقب بالأشرف والسلطان بدر الدين بيدرا والسلطان حسام الدين لاجين والسلطان فرج بن برقوق ومن هذا وذاك لم يكن مستغربا أن تتأكل قوة ونفوذ المماليك في مصر المحروسة حتى انتهى حكمهم على يد السلطان العثماني سليم الأول. وعلى ذكر سلاطين بني عثمان تجدر الإشارة إلى أن زوال ملكهم هم كذلك تسبب في حصوله اعتمادهم على جيوش المرتزقة أو ما تعرف في التاريخ العثماني باسم (جنود الإنكشارية). كانت فكرة سلاطين الدولة العثمانية من إيجاد قوات الإنكشارية أنه يتم من خلالهم ضمان الولاء المطلق للسلطان وذلك لأن أفراد الإنكشارية هم في الأصل أطفال وغلمان أسرى الحرب الذين يفصلون عن عوائلهم ويتم تربيتهم على أن يكون السلطان هو والدهم الروحي ورب أسرتهم الوحيد. وكما حدث مع عسكر الترك في بغداد وجنود المماليك في القاهرة حصل مع عسكر الإنكشارية في إسطنبول فعندما ضعفت الدولة العثمانية بدأوا في التدخل في الحكم من خلال الانقلابات العسكرية. وكما حصل في السابق من عزل وخلع وقتل خلفاء بني العباس وبني أيوب حصل نفس الأمر مع سلاطين بني عثمان فخلع وقتل على يد جنود الإنكشارية السلطان عثمان الثاني والسلطان إبراهيم الأول والسلطان سليم الثالث والسلطان مصطفى الرابع.

وبالعودة في الختام لمرتزقة فاغنر الروسية وكيف أن أثر جحافل المرتزقة يختلف ما بين الشرق والغرب فها نحن ذا نشاهد أن ثورتهم في بلادهم تلاشت انتهت تقريبا بينما وجودهم وتدخلهم السافر في الشرق والبلاد الإسلامية ما زال متواصلا ومتجذرا فهذه الكتائب الخبيثة ما زال لها وجود مؤثر في سوريا وليبيا ومالي بل وحتى السودان والله المستعان.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق