السبت، 19 أغسطس 2023

( الذكاء الاصطناعي والمذهب الفقهي الجديد !! )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 حتى الآن الغالبية العظمى منا عندما نحتاج البحث عن معلومة ما، أول ما يخطر ببال الواحد منا أن (يستفتي) محرك البحث فضيلة (الشيخ قوقل) فهو صاحب القول السديد والرأي الرشيد وكأنه هو المقصود بقولهم (إذا قالت حَذامِ فصدقوها). وفي الواقع هذا سلوك عام في جميع الشعوب ولذا نجد أنه من شدة تعلق الغربيين بمحرك البحث (قوقل) وثقتهم في نتائج المعلومات التي يقدمها أصبحت كلمة (القوقلة googling) لفظة لغوية مقبولة عندهم وموجودة في قواميس اللغة الإنجليزية لتدل على معنى: البحث عن المعلومة.

لعله من الملائم أن نعلم أن محرك البحث قوقل يستخدم بكثافة الخوارزميات البرمجية المتقدمة في البحث وفهرسة وترتيب نتائج المعلومات والبيانات التي يقدمها للمستخدم. ولهذا بالنسبة للمستخدم الغربي هو متوافق مع نفسه عندما يقول إنه (يقوقل googling) محرك البحث قوقل للحصول على المعلومات لأن ذلك المحرك بالدرجة الأولى يوفر له (روابط) على شبكة الإنترنت تتيح له الحصول على المعلومة التي يرغب بها وبعد ذلك عليه أي المستخدم أن يبذل بعض الجهد في استعراض تلك الروابط واختيار الأنسب منها (محرك قوقل حتى الآن لا يوصف بالذكاء الخارق). المشكلة تظهر مع المستخدم العربي عندما يزعم بأنه سوف يسأل (أو يستفتي) فضيلة الشيخ قوقل عن معلومة ما ففي الواقع محرك البحث القوقلي ذاك لا (يفتيه) أو يجيبه بشكل مباشر وصريح وإنما يعرض له قائمة طويلة جدا من (الروابط) التي يحتاج المستفتي أن ينقب ويفتش فيها ليصل إلى المطلوب.

وهنا نصل إلى (لب) الموضوع وهو أننا نرغب في أن نسأل (لبيبة) الإلكترونية أو (حذام) الرقمية فتعطينا الجواب المباشر وذلك من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي في تقنية (الدردشة الرقمية أو روبوت المحادثة) وبالخصوص تلك القفزة المعرفية الهائلة المتعلقة بتطبيق (شات جي بي تي ChatGPT). ومن خلال محاكاة طريقة عمل الشبكات العصبية لإنتاج المحادثة أو التفكير أصبحت البرمجيات الحديثة المرتبطة بمحركات البحث مثل ChatGPT أو محرك Bing AI Chat من شركة مايكروسفت أو محرك Bard AI من شركة قوقل قادرة ليس فقط على تزويد المستخدم بالمعلومات المجردة التي يطلبها، بل كذلك توليد ردود مطولة ونصوص مكتوبة بالذكاء الاصطناعي.

وهذا يقودنا إلى أنه في المستقبل القريب عندما نسأل أو نستفتي الشيخ قوقل عن معلومة ما (مثلا ما حكم صيام الست من شوال قبل قضاء الأيام التي تم إفطارها من رمضان) فليس فقط سوف نحصل على (روابط) لمواقع الإفتاء المتنوعة على شبكة الإنترنت التي تجيب على هذا الاستفتاء الفقهي، بل سوف نجد برنامج Google Bard AI أو حتى برنامج ChatGPT وبشكل تلقائي يقوم بعملية (التطوع) لإعطاء رأي فقهي من توليفها حول هذه المسألة الشرعية البحتة. بمعنى أن الدور القديم لمحرك بحث قوقل بأن يكون فقط مجرد وسيط بين المفتي والمستفتي والسائل والمجيب قد تغير بشكل جذري ليصبح الشيخ قوقل بالفعل قادر على منح الفتوى الفقهية التي يقوده لها ذكائه الاصطناعي بعد أن (يستنبطها) من خلال تحليل مئات الآلاف من النصوص الشرعية المنشورة على شبكة الإنترنت وذلك بعد أن يحدد نمط تسلسل البيانات الخاص بها وهي تلك العملية التقنية التي تسمى التدريب المسبق.

ما حكم استفتاء الفقيه الإلكتروني ؟!!

قبل عدة أسابيع صرح أحد المشايخ بأنه يرجو من الله أن ينشئ على يديه مذهباً فقهياً جديداً ونظرا لأن رغبة الشيخ لاقت ردودا سلبية واسعة جعلت من المستحيل أن تتحقق أمنيته تلك بعد تراجع شعبيته. إلا أنه في المقابل ونتيجة الرواج الواسع لطلب الفتاوى الشرعية من خلال شبكة الإنترنت فربما هذه الشعبية الرقمية تتسبب في احتمالية ظهور مذهب فقهي إلكتروني يصبح هو السائد في زمن الذكاء الاصطناعي. وفي ضوء الإحصائيات التي تقول إن حوالي 86% من السعوديين يستخدمون محرك البحث قوقل كل يوم وأنه على مستوى العالم عدد مرات استخدام قوقل يصل إلى 99 ألف بحث في الثانية الواحدة ومن هذا وذاك نخمن أن الاستخدام اليومي لمحرك قوقل للحصول على معلومات أو (استفتاء) فقهي غالبا سوف يكون أمرا شائعا جدا. قبل حوالي ألف عام كتب الفقيه الشيعي الشيخ الصدوق مؤلفه الذي حمل عنوان (من لا يحضره الفقيه) وقصد منه أن يكون كتاب مبسط وشامل في الفقه يغني المستفتي عن سؤال المفتي وعلى نفس النسق ربما في القرن الواحد والعشرين سوف يصبح محرك قوقل المطور والذكي هو أحد أهم مصادر الإفتاء الشرعي ومصدر العلم الشرعي لمن لا يحضره الفقيه.

قبل عدة سنوات عندما تنامت ظاهرة الفتاوى الشرعية عبر القنوات الفضائية أو صفحات مواقع الإنترنت حذّر وأنذر البعض من مخاطرة التساهل والاستعجال في إصدار الفتوى الدينية بالرغم أنها تصدر في الأصل من مشايخ وفقهاء بشر هم من يجيبون على أسئلة الجمهور. ولا شك أن المخاطر والمحاذير في المستقبل أكبر مع استخدام برامج الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي في الحصول على الحكم الشرعي للمسائل الفقهية تكون مستله ومستنبطة من مصادر مجهولة ومن خلال الآلات الصماء غير البشرية. من المقولات الحكيمة للسلف الصالح (إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم) والمعنى أن أمور الشرع الفقهية يجب أن تؤخذ فقط من العدول والثقات من (علماء) الشريعة وليس من (خوارزميات) وبرامج رقمية افتراضية.  

الجدير بالذكر أنه حتى في الغرب نفسه تعالت الأصوات المحذرة في هذه الأيام على ضرورة (تحجيم) ووضع الضوابط على أنظمة الذكاء الاصطناعي لدرجة أن الملياردير إيلون ماسك وبالرغم من أنه من مؤسسي شركة OpenAI المطورة لبرنامج ChatGPT إلا أنه قام مع حوالي ألف شخص من خبراء التقنية بتوجيه رسالة مفتوحة تدعو إلى توقيف تطوير برنامج شات جي بي تي لمدة ستة أشهر وذلك حتى التأكد من أن مخاطرها المحتملة ضد المجتمع سوف تكون تحت السيطرة. وفي الولايات المتحدة بالذات تتزايد التحذيرات من قبل بعض المشرعين القانونيين باحتمالية وجود تأثير سلبي لبرنامج ChatGPT على التعليم والجوانب الأمنية وفي الوقت الحالي تمنع إيطاليا استخدام برنامج الدردشة الرقمية شات جي بي تي على أراضيها.

والمقصود أن أنظمة الدردشة المبنية على الذكاء الاصطناعي قابلة بدرجة كبيرة لتوليد معلومات وبينات مغلوطة ومضللة لدرجة أنها قد تقوم بتوليف آيات قرآنية أو أحاديث نبوية مفبركة كما رصد ذلك بعض الكتاب عندما طرح سؤال ديني على برنامج شات جي بي تي. والجدير بالذكر أن النسخة الرابعة الجديدة من هذا البرنامج (ChatGPT -4 plus) تم إلى حد ما تدارك كوارث ومخاطر إعطاء المعلومات مضللة أو ضارة حيث تم إعادة برمجة هذا التطبيق ليمنع الإجابة عن الأسئلة غير المسموح بها خصوصا تلك المتعلقة بالجرائم الالكترونية والمخاطر الأمنية أو إثارة العنصرية وازدراء الأديان وما شابه ذلك. ولعل من الملائم أن تنظم الحملات الشعبية أو الرسمية للضغط على الشركات المطورة لبرامج الذكاء الاصطناعي العاملة في حقل الدردشة الرقمية أن تراعي عدم المساهمة في تحريف وتلويث المورث الشرعي الإسلامي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق