د/ أحمد بن حامد الغامدي
كم من أخٍ لي صالحٍ بوّأتهُ بيديّ لحدا ما إن جزعتُ ولا هلعتُ ولا يردُّ بُكاي
زندا
ألبستهُ أثوابهُ وخلقتُ يوم خلقتُ جلدا ذهب
الذين أحبهم وبقيت مثل السيفِ فردا
لمّا رأيت بني الزمان وما بهم خِلُ
وفيُّ للشدائد أصطفي
أيقنت أن المستحيلَ ثلاثةٌ الغولُ والعنقاءُ والخِلُّ الوفي
بلا شك العويل والنواح على الميت مما حرمته
الشريعة لأن فيه تسخط على أقدار الله ومع ذلك فيض المشاعر في لحظة فراق الأهل
والأحباب نتيجة فجيعة الموت والوفاة أمر يستجلب في العادة النحيب والبكاء والجرح
النفسي والصدمة العاطفية. ولمن يحظى بالملكة الأدبية والقريحة الشعرية يمكن أن
تفضي هذه اللوعة في المشاعر إلى أروع قصائد الرثاء التي تعتبر من عيون الشعر
العربي. ولكن كما ذكرنا للأسف قصائد الرثاء البديعة السبك والصادقة المشاعر في تصوير
الفجيعة بوفاة الأصدقاء نادرة في تراثنا الأدبي القديم. بل وحتى قصائد الرثاء
المشهورة لغير الأهل من الأقارب وأفراد الأسرة من مثل قصيدة أبي تمام في رثاء محمد
بن حميد الطوسي أو قصيدة أبي الحسن الأنباري في رثاء أبي طاهر بن بقية هي قصائد
مديح فيما يشبه الندب. في الواقع تلك القصائد المشار إليها وإن كانت تذكر في سياق
شعر الرثاء والعزاء إلا أنها أقرب بمجال المدح والثناء ولهذا هي خطاب (تأبين) يذكر
فيه محاسن الميت وأعماله الصالحة وصفاته الحميدة. ونادرا ما يأتي في قصائد الرثاء
من هذا النوع المخصصة لتأبين الشخصيات العامة والمشهورة وصف مشاعر الفجيعة والنحيب
والصدمة العاطفية بفقدان المتوفى. وهذه مشكلة ما يمكن تسميته (بشعر المناسبات) أنه
فيما يتعلق بخصائص الشعر الراقي من مثل: قوة الإحساس وصدق العاطفة وتدفق الوجدان تكون
ضعيفة. ولهذا لم يسلم فطاحل الشعراء من سهام النقد الأدبي فهذا أبو العلاء المعري يقلل
من صدق العاطفة الشعرية لكبار الشعراء فيقول: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما
الشاعر البحتري. وفي زمننا المعاصر عاب واستنكر البعض على شاعر النيل أحمد شوقي كثرة
قصائد الرثائية التي قاربت الستون قصيدة وكأنه بذلك هو المقصود بمطلع قصيدة شاعر
اليمن عبدالله البردوني:
أنت ترثي كل محزونٍ ولم تلق من يرثيك في الخطبِ الألدِّ
وبالرغم من أن أحمد شوقي حاول أن يدافع عن نفسه
بقوله إنه عندما يبالغ في رثاء المشاهير الغابرين والمغادرين فهو لا يبتغي منهم
الجزاء:
يقولون: يرثي الراحلين فويحهم أأملت عند الراحلين الجوازيا
في مطلع الأسبوع الماضي فجعت وصعقت وجمع من
الزملاء المقربين بوفاة صديق عزيز و (خِلٌّ وفي) هو المهندس ياسين بن علي الشهري وهو
زميل دراسة ورفيق درب رحمة الله رحمة واسعة وجعل قبره روضه من رياض الجنة. يقولون
إن الشعر والأدب (غذاء) الروح وأنا أقول إنهما أحيانا (عزاء) الروح ففيهما مواساة
وتعزية لأصحاب المصائب. وبعد الرجوع لديوان شاعر النيل أحمد شوقي لم يرو غليلي شعر
رثاء المناسبات وقصائد التأبين. ما كنت أبحث عنه هو أدب مشاعر صادقة وليس شعر
شعائر واصفة لمحاسن المفقود كما يحدث في مهرجانات التأبين ولذا يممت وجهي لمصادر
أخرى حتى وجدت بغيتي لدى شاعر الزهد والوعظ والرقائق (أبو العتاهية).
فقيدنا الغالي المهندس ياسين الشهري ومنذ
عقود كنا دائما نناديه بيننا بلقبه (أبي علي) ثم توفي فجأة رحمة الله ففجعنا به
وهذا يقودنا إلى شاعرنا أبي العتاهية فقد كان هو الآخر له صديق مقرّب وخِلٌّ وفي
يسمى (علي) بن ثابت الأنصاري توفي هو الآخر في سن مبكرة. تقول كتب الأدب أنه لما
حضرت الوفاة علي بن ثابت كان أبو العتاهية حاضرا ولم يزل ملتزما رفيقة وهو يجود بنفسه
حتى توفي وهو ملازم له وبعد ذاك أنشد شاعرنا:
يا عليّ بنَ ثابتٍ بانَ منّي صاحبٌ جَلَّ فقدُهُ يوم بِنتا
يا شريكي في الخير يرحمك الإلهُ فنعم الشريك في الخير كنتا
قد لَعَمري حكيت لي غُصصَ الموتِ فحرّكتني لها وسكنتا
ألا من لي بأُنسكَ يا أُخيّا ومن لي أن أبثّك ما لديّا
طوتك خطوبُ دهرك بعد نشرٍ كذاك
خطوبهٌ نشراً وطيّا
فلو نشرت قُواك لي المنايا شكوت إليك ما صنعت إليّا
بكيتك يا (أبا) عليّ بدمع عيني فلم يُغن البكاءُ عليك شيّا
وكانت في حياتك لي عِظاتٌ وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا
أراك هجرتني هجراً طويلاً وما عوّدتني
من قبلُ ذاكا
وما فارقتني طوعاً ولكن دهاك من المنيّة ما دهاكا
يعزُّ عليّ حين أُديرُ عيني أفتشُ في مكانك لا أراكا
لقد عجلتْ عليك يدُ المنايا وما استوفيتَ حظّكَ من صباكا
فوا أسفي لجسمك كيف يبلى ويذهب بعد بهجتِه سناكا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق