السبت، 19 أغسطس 2023

( مسائل رياضية للاستمتاع بالإجازة الصيفية )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 توقيت موعد اليوم العالمي للرياضيات واضح ومنطقي بأن يتم اختياره في تاريخ اليوم الرابع عشر من شهر مارس من كل سنة لأن هذه الأرقام (3.14) تشكل قيمة ثابت باي Pi (π) ذو الأهمية القصوى في علم الرياضيات. ولكن يجب أن نعترف أن علم الرياضيات للغالبية العظمى من الناس هو تخصص جاف وممل بالإضافة لصعوبته وعدم إدراك البعض بشكل واضح لاستخدامات المعادلات الجبرية وحساب التفاضل والتكامل في حياتنا اليومية. ولهذا تبنى بعض علماء الرياضيات أن يكون (الاحتفال والاحتفاء) بعلم الرياضيات في (أجواء) أكثر بهجة من وقت أواخر الشتاء وتحويل ذلك إلى زمن بداية فصل الصيف لعل ذلك يكون أدعى لضمان تقبل عدد أكبر من الناس لفكرة المشاركة في هذه الفعالية والمناسبة العلمية. ولهذا يتوافق اليوم السبت الثامن من شهر يوليو مع (النسخة الثانية) من يوم الرياضيات (Math 2.0 Day) وكما سبق أن ساهمت قبل عدة سنوات بكتابة مقال للإشادة باليوم العالمي للرياضيات حمل عنوان (قاعدة فيثاغورس في عشق الرياضيات) حاولت فيه أن أحشد أخبار وقصص هيام وغرام كبار العلماء بهذا الفرع المعرفي البارز، ولهذا أجد أنه من الملائم وربما من الواجب كتابة (مقال رقم 2) بمناسبة (اليوم رقم 2) في الاحتفاء بعلم الرياضيات.

وكنوع من توفير جو المرح والتسلية عند مناقشة علم جاف وصارم مثل علم الرياضيات لعل من المناسب أكثر إعطاء نماذج شيقة وخفيفة عن أخبار علماء الرياضيات عبر العصور تدور أغلبها عن حل مسائل رياضية معقدة تم التوصل لحلها في ظروف طريفة وغريبة. وبما إننا ما زلنا في أجواء الحرب الروسية والأوكرانية لعلنا نبدأ بقصة وقعت أحداثها قبل حوالي قرن من الزمن في تلك البقعة الجغرافية الملتهبة دوما. بعد الثورة الروسية البلشفية في نهاية الحرب العالمية الأولى احتل الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية ومباشرة ظهرت المقاومة الشعبية الأوكرانية لمحاربة الاحتلال الروسي. في تلك الفترة كان عالم الرياضيات الروسي إيقور تام يدرس علم الرياضيات في جامعة أوديسا الأوكرانية ونظرا لقلة المواد الغذائية بسبب الحرب العالمية ذهب إلى إحدى القرى لشراء المواد الغذائية وهنالك تم اعتقاله بسبب الاشتباه به أنه يتعاون مع الجيش الروسي. وعندما تم أخذ الشاب الروسي إيقور إلى قائد المقاومة الأوكرانية لكي يحقق معه سأله ماذا يعمل وما هي مهنته فرد بأنه يدرس الرياضيات لطلبة الجامعة وأن اعتقاله حصل عن طريق الخطأ. وهنا كان رد قائد المقاومة أن قال إذا كنت كما تدعي بأنك عالم رياضيات فأعطني إجابة السؤال الرياضي التالي وإلا سوف تقتل في الحال. المسألة الرياضية المعقدة المطلوب حلها كانت (أعطني تقديرا للخطأ الذي يرتكبه المرء بقطع متسلسلة ماكلورين عند الحد رقم n). إذا علم أن متسلسلة ماكلورين Maclaurin's series فرع شبه مجهول في علم الرياضيات لأنها حالة خاصة مما يسمى متسلسلة تايلور لذا احتمالية أن يستطيع عالم رياضيات حل تلك المسألة الرياضية الخاصة جدا وفي جو الخوف من الإعدام أمرا نادرا جدا. ولكن الشاب الروسي إيقور فعل ذلك ونجا من القتل ليس فقط ليروي تلك القصة الفريدة، ولكن أيضا ليحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1958 ميلادي.

في الواقع صعوبة وندرة تلك المسألة الرياضية جعلتها أشبه ما تكون بـ (لغز رياضي) محير وهذا يقودنا للقصة الرياضية الطريفة التالية. في كتاب يوناني مُؤلف في القرن الخامس الميلادي ويحتوي على مجموعة من الألغاز والأحاجي من ضمنها واحدة عن عالم الرياضيات الروماني ديوفانتوس الإسكندري. كانت تلك المسألة الرياضية (أو اللغز) عبارة عن نص كتب على شاهد قبر ورد فيه العبارة التالية: هذا قبر ديوفانتوس الذي ظل صبيا لمدة سدس عمره وإذا أضيف لذلك اثني عشر جزء من حياته وصل هذا الفتى لمرحلة البلوغ وظهر له شارب، ثم تزوج بعد الجزء السابع من حياته وبعد ذلك بخمس سنوات وهب له ولدا. ولكن هذا الولد لم تكتب له طول الحياة حيث توفي عندما بلغ نصف عمر أبية ونتيجة لحزن هذا الأب بدأ يسلي نفسه بدراسة الأعداد لكنه مات بعد ذلك بأربع سنوات).

على كل حال وبتوظيف علم الرياضيات يمكن أن نحسب أن عمر صاحبنا ديفانتوس عند وفاته بأنه كان 84 سنة وهذا الرقم حسب كالتالي:

X = 1/6 x + 1/12 x + 1/7 x + 5 + 1/2 x + 4 = 84

 ومن هذا اللغز الرياضي اليوناني إلى لغز رياضي جاهلي لطيف أبدعه بنبوغ رياضي الشاعر العربي النابغة الذبياني وخلده في معلقته الشعرية البديعة وفي أبياتها يسوق قصة فتاة زرقاء اليمامة المشهورة كما هو معروف بقوة النظر وحدة البصر والبصيرة. في الأبيات الشعرية اللطيفة يقول النابغة الذبياني على لسان زرقاء اليمامة أنها شاهدت سرباً من الحمام يطير بسرعة بين جبلين وبالرغم من سرعة طيران الحمام وكثافته إلا أن الفتاة النابهة استطاعت (حساب) عدد طير الحمام وتمنت من كثرته أن يكون لهم لأنه يشكل ثورة: في الواقع تقول الفتاة ليت لنا من الحمام عدد ذلك السرب الطائر ونصفه كذلك ولو أضيف لها حمامه واحدة لاكتمل عدد مجموع الحمام 100 حمامة:

قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا        إلى حمامتنا ونصفهُ فقدِ

فحسبوهُ فألفوهُ كما حسبت           تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزدِ

فكملت مئةً فيها حمامتها             وأسرعت حِسبةً في ذلك العددِ

 المعادلات الرياضيات من الألغاز إلى العقائد

اللغز الشعري السابق قد يصعب نسبيا حله بمجرد التفكير الذهني، ولكن عند تحويل النص الأدبي إلى معادلة جبرية يمكن لأي طالب مدرسة عادي أن يحسب عدد سرب الحمام الذي شاهدته زرقاء اليمامة إذا استخدم المعادلة الرياضية التالية:

X + 1/2 X +1 = 100

 ومن العجيب أنه حتى تلاميذ المدرسة الصغار يمكن أن يتوصلوا لحل أصعب المسائل الرياضية وهذا ما سوف يقودنا من حل مسألة المئة حمامة إلى حل مسألة جمع المئة رقم. تقول القصة إن عالم الرياضيات الألماني كارل جاوس (أحد أبرز علماء الرياضيات في كل العصور) عندما كان في المدرسة الابتدائية في نهاية القرن الثامن عشر كان معلم الفصل في أحد الأيام يشعر بالملل ولا يرغب في التدريس. ولهذا لكي يشغل التلاميذ الصغار بمسألة رياضية مطولة تتيح له فترة من الهدوء طلب منهم أن يقوموا بجمع كل الأرقام الرياضية من (1) وحتى الرقم (100) ولكن بعد فتره قصيرة جدا تقدم التلميذ الصغير جاوس بالحل النهائي وأن مجموع هذه الأرقام يبلغ (5050).

بلغة المعادلات الرياضية يمكن حل هذه المسألة الرياضية من خلال المعادلة التالية:n (n +1)/2   ولكن في الواقع التلميذ (النابغة) كارل جاوس حل تلك المسالة الرياضية بإتباع أسلوب منطقي أكثر من استخدام الأسلوب الرياضي التقليدي بالجمع المتتالي للأرقام. فهو بعقله الذكي واللمّاح توصل إلى أن قائمة الأرقام المئة يمكن أن تطوى من منتصفها بحيث يقترن الرقم 1 مع الرقم 100 في حين يمكن ربط الرقم 2 مع الرقم 99 وجمع الرقم 3 مع الرقم 98 وهكذا مع بقية الأرقام وأن مجموع كل واحد من هذه (الأزواج) الخمسين من الأرقام سوف يكون (101). وأخيرا بتوظيف مهارة اساسيات الحساب ومن خلال ضرب الرقم (50) في الرقم (101) توصل النابغة الألماني جاوس إلى الحل بشكل سريع (5050) ولهذا أعتقد أنه يستحق بلا خلاف اللقب الذي سيعرف به في المستقبل (أمير الرياضيات).

بعض الطلاب يظهرون نبوغا وعبقرية عجيبة وهم في فصول المدارس وقد يتمكن بعضهم من حل أعقد وأصعب المسائل الرياضية حتى تلك التي يقال إنه يستحيل حلها ويعجز أذكى علماء الرياضيات عن حلها. في الواقع توجد عدة قوائم لهذا النوع من المسائل الرياضية مستعصية أو مستحيلة الحل (unsolved mathematical problems) ومن أشهرها (مسائل الميلينيوم السبعة) وهي تلك المسائل الرياضية السبعة المعقدة والتي خصص لها جائزة بمبلغ مليون دولار لمن يستطيع حلها فيما يسمى بجائزة مسائل الألفية السبعة.  وعلى كل حال ما يهمنا هنا أن أحد طلاب الجامعة استطاع وفي قصة طريفة أن يحل واحدة من هذا النوع من المسائل (المستحيلة) الحل بزعمهم.

في أحد أيام عام 1939م وصل الشاب جورج دانتزيغ متأخراً إلى قاعة المحاضرات بجامعة كاليفورنيا، بيركلي ووجد مكتوب على لوح السبورة مسألتين رياضيتين توقع أنها الواجب المنزلي المطلوب منهم حله. ونظرا لأن الشاب جورج حضر متأخرا فلم يسمع من أستاذه الجامعي وصف هذه المسائل بأنها غير قابلة للحل عند علماء الرياضيات. على كل حال بعد عدة أيام قام الطالب الجامعي جورج بتسليم أستاذه حل واحدة من تلك المسائل مع اعتذاره عن التأخير في تسليم الواجب المنزلي لأن تلك المسألة كانت أصعب من المعتاد.

والمقصود أن تلك الحادثة الطريفة التي حصلت للطالب جورج أثبتت أن (عقيدة) علماء الرياضيات بأن بعض المسائل الرياضية غير قابلة للحل أو مستحيلة الحل أمر يرجع للوهم النفسي الذي قد يشل التفكير العميق. وهذه قصة أخرى لطالب مدرسة مع محاولة حل مسألة رياضية مستحيلة الحل بزعمهم وبطل الحادثة الفريدة هذه هو الطالب الإنجليزي أندرو وايلز والذي سمع وهو في العاشرة من عمرة أن علماء الرياضيات ومنذ ثلاثة قرون عجزوا عن حل مسألة رياضية تعرف باسم (مبرهنة فيرما الأخيرة). وعبر عقود من الزمن أصبح أندرو وايلز مهووسا بهذه المعضلة الرياضية البالغة الصعوبة حتى تمكن أخيرا وبعد أن أصبح أستاذ لعلم الرياضيات بجامعة أكسفورد وبعد سبع سنوات من الجهد المكثف من التوصل إلى حل رياضي لهذا المسألة الرياضية مستحيلة الحل وهو الحدث الذي تناقلته وسائل الإعلام بحماس كبير في عام 1995 ميلادي.

وقبل سنوات قليلة فقط تمكن عالم الرياضيات الروسي غريغوري بيرلمان من التوصل للحل الرياضي لإحدى المسائل الرياضية السبع مستحيلات الحل التي أشرنا لها قبل قليل. وبتضافر وتزايد مثل هذه الأخبار والحوادث (مثل زعم عالم الرياضيات الإنجليزي مايكل عطية ذي الأصول العربية أنه استطاع حل فرضية ريمان الرياضية) تهتز (عقيدة) علماء الرياضيات بحقيقة وجود مسائل الرياضية مستعصية الحل وهذا يقودنا أخيرا للربط بين علماء الرياضيات والاعتقاد والمعادلات الرياضية. في أواخر حياته تم استقطاب عالم الرياضيات السويسري البارز ليونارد أويلر للعمل في عاصمة الإمبراطورية الروسية مدينة سانت بطرسبرج. ونظرا لتدين أويلر الشديد (في الواقع كان يسمى القديس أويلر) فقد استاء عندما سمع بزيارة الفيلسوف الفرنسي الشهير دنيس ديدرو (صاحب الموسوعة وقائد حركة التنوير بزعمهم) وأنه يقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات في المدن الروسية ينادي فيها بعقيدته بنشر الإلحاد وإنكار وجود الخالق. وهنا نجد أن أويلر يعلن أنه قد توصل لاكتشاف معادلة رياضية جبرية تثبت وجود الله ولهذا يطلب أن يعرضها على ذلك الفيلسوف الملحد والمتعجرف. وعندما أُحرج الفيلسوف الفرنسي ما كان له إلا أن يحضر المناظرة والجدال مع العالم الرياضي حول وجود الله وعندما تقابل الرجلان تقدم الرياضي أويلر إلى الفيلسوف ديدرو وقال له بعبارة واثقة وقوية:

سيدي a+ bn/n = x  لذا فإن الله موجود، أجب.

طبعا تلك المعادلة الرياضية ليس لها أي علاقة بإثبات الخالق العظيم ولكن أراد عالم الرياضيات أويلر أن يسخر من عجرفة الفيلسوف الفرنسي الذي انسحب من المناظرة ويقال أنه غادر روسيا مباشرة بعد تلك الهزيمة المنكرة. هذه الحادثة حصلت في عام 1773م والجدير بالذكر إنه قبل ذلك بحولي ست سنوات وبالتحديد في عام 1767م تقدم عالم رياضيات بريطاني يدعى ريتشارد برايس بطرح تعديل لمعادلة رياضية مشهورة تسمى مبرهنة بايز Baye's theorem وأنه يمكن استخدمها لإثبات وجود الله اعتمادا على مبادئ علم الاحتمالات الإحصائية. وهنا تكمن المفارقة فبعض الملاحدة والفلاسفة قد لا يقتنعون بوجود الخالق من خلال النظر في عجائب مخلوقات الله في الكون المنظور وفي المقابل بعضهم قد يقتنع بالنظر في معادلة رياضية صماء مثل معادلة مبرهنة بايز التالية:

P(A/B) = P(B/A)PA/P(B)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق