السبت، 19 أغسطس 2023

( كيميائي في معسكر الإبادة النازي )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من ناحية المهنية أنا أحترف العمل في مجال علم الكيمياء وأنا هذه الأيام في زيارة سياحية لدول أوروبا الشرقية مع الزملاء الكرام فهد أبو عوه القحطاني وعبدالكريم الخليفي وربما من أهم المعالم التي يمكن زيارتها في دولة بولندا المرور بأشهر وأشنع معسكرات الاعتقال النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية (معسكر أوشفيتز). ومع ذلك عنوان المقال الحالي (كيميائي في معسكر الإبادة النازي) ليس عن شخصي المتواضع ولكن المقصود به الإشارة إلى الترابط الغريب (وفي الواقع الترابط الأثيم) بين العلم ومعسكرات الاعتقال والتعذيب والإبادة ممثلا في قصة عالم الكيمياء اليهودي والأديب الإيطالي الجنسية (بريمو ليفي). صحيح أن اليهود بالغوا في قضية الهولوكوست ومحارق الغاز النازية، ولكن هذا لا يعني أن كل ما يذكر عن هذه الجريمة مفبركا ومبالغا فيه. على المستوى دوائر الفكر والثقافة الغربية يعتبر الكيميائي بريمو ليفي أديبا وشاعرا وفيلسوفا مشهورا خصوصا بشهادته عن معسكرات الاعتقال النازية. بينما على المستوى الشخصي استمتعت قبل سنوات بقراءة كتابه المعنون (الجدول الدوري) والذي مزج فيه باحترافية عالية بين العلم ممثل في العناصر الكيمائية للجدول الدوري وبين الأدب والفكر والتاريخ.

في أوائل شبابه شارك بريمو ليفي في حركة مقاومة الاحتلال النازي لشمال إيطاليا وبعد أن اعتقل في نهاية عام 1943م تم شحنه في قطار مع المئات من اليهود ونقلهم إلى معسكر أوشفيتز Auschwitz الشهير في بولندا. الجدير بالذكر أنه كان للكيمياء دور بارز في المحافظة على حياة بريمو ليفي داخل هذا المعتقل الرهيب حيث كان النازيون يبحثون بين المعتقلين عن الرجال الذين لهم أي خبرة كيميائية لكي يستفيدوا منهم في العمل بالمختبرات الكيميائية في قسم البلمرة لشركة إنتاج المطاط الصناعي. في الكتاب السابق الذكر (الجدول الدوري) تعرفت قبل سنوات على شذرات متفرقة من معاناة بريمو ليفي داخل معسكر الإبادة النازي. ولكن لمئات الآلاف من القراء في المجتمع الغربي تبقى الشاهدة المصاغة بأسلوب أدبي وفكري مميز لبريمو ليفي عن سجل ذكرياته التي صاغها في كتابه (إذا كان هذا رجلا if this a man)، تبقى تلك المشاهدات والشهادات من أكثر الوثائق الأدبية أهمية عن جريمة معسكرات الاعتقال النازية والتي طالت حسب وصف بريمو ليفي نفسه الآلاف من غير اليهود من شتى الأعراق الجنسية ومن مختلف الدول.

في الواقع في نهاية الحرب العالمية الثانية قامت القوات الروسية بعد هزيمة الجيش الألماني النازي بتحرير بريمو ليفي وعشرات الآلاف من المعتقلين في معسكر أوشفتيز وفي مطلع عام 1945م غادر الكيميائي الإيطالي بريمو ليفي ذلك الموقع الشنيع. وفي هذا الأسبوع وبعد مرور حوالي ثلاثة أرباع القرن من مغادرة الكيميائي الإيطالي أدخل كسائح أولا وكيميائي عربي إلى معسكر أوشفيتز تلك المقبرة الهوائية التي حرق في أجوائها ما يزيد عن مليون ضحية. للأسف الشديد الكيمياء حاضرة بكثافة في هذا المعسكر الفظيع ليس فقط من خلال (غرف الغاز) التي كانت تستخدم لإعدام مئات الأشخاص في نفس اللحظة بواسطة غاز كيميائي يدعى Zyklon B الذي ساهم في اكتشافه لأول مرة عالم الكيمياء الألماني فريتز هابر الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1918ميلادي !!.

لعدة شهور في نهاية عام 1941م قام الجنود والعلماء الألمان في معسكر أوشفتيز بالبحث عن أنسب المركبات الكيميائية لعملية الإعدام في غرف الغاز وقاموا فعليا بإجراء (تجارب علمية) لتحديد أفضل الظروف لاستخدام تلك الغازات الكيميائية بكفاءة. في الواقع العملية التالية لاستخدام الكيمياء في تصفية المعتقلين كانت تتعلق بعملية التخلص من جثث القتلى بأسرع وأسهل عملية كيميائية. ولهذا بعد إعدام المئات دفعة واحدة في غرفة الغاز كانت تنقل تلك الجثث إلى (أفران الحرق) الصغيرة حيث يتم تحويل كل ثلاثة أو خمسة جثث إلى رماد ودخان من خلال عملية كيميائية غير متطورة تتمثل بكل بساطة في استخدام حطب أشجار الغابات البولندية المحيطة بمعسكر أوشفتيز. ولذا ومع وجود العديد من منشآت ومباني أفران الحرق crematoria كان بالإمكان حرق ألف جثة في اليوم الواحد.

معسكر إبادة أم مصنع كيميائي

ينبغي التنبيه أن معسكرات (الإبادة) النازية أو ما تسمى معسكرات الموت وإن كان من أهدافها الرئيسية تطبيق (الحل النهائي للمسألة اليهودية) من خلال خطة الإبادة الجماعية لليهود وغيرهم من الطوائف وأسرى الحرب، إلا أن بعض تلك المعسكرات المروعة كانت في الواقع كذلك (مصانع) كيميائية تتبع بالذات للشركة الألمانية العملاقة (IG Farben). والمقصود أن ليس كل من تم اعتقالهم في معسكرات (الإبادة) النازية مثل معسكر أوشفيتز كان الهدف إعدامهم والتخلص منهم بل عشرات الآلاف منهم تم (اعتقالهم) لكي يصبحوا (عمال) بالسخرة في هذه المصانع الكيميائية وغيرها من الوحدات الصناعية المختلفة. في الواقع أثبتت العديد من الشهادات التاريخية أنه بعد وصول المعتقلين من اليهود وغيرهم إلى ساحات معسكر أوشفيتز أو غيره من معسكرات الإبادة (كان للقوات النازية أربعة معسكرات إبادة أخرى منتشرة في وسط أوروبا)، يتم أولا عزل النساء والأطفال وجميع المرضى أو المصابين وهؤلاء يتم إعدامهم خلال ساعات أو في مدة أقصاها ثلاثة أيام. أما ما يتبقى من الرجال الأصحاء ومن ذوي الخبرة العلمية أو الصناعية أو الطبية من المعتقلين المدنيين ومن جنود أسرى الحرب من جميع الجنسيات فيتم الاحتفاظ بهم لفترات طويلة قد تصل لعدة سنوات داخل هذه المعسكرات لاستخدامهم كعمال وذلك بعد أن يختم على يد كل واحد منهم وشم يكتب عليه رقمه الخاص (كان الوشم على يد بريمو ليفي يحمل الرقم 174517).

يذكر صاحبنا الكيميائي المعتقل بريمو ليفي في كتابه سابق الذكر (إذا كان هذا رجلا) أنهم عندما وصلوا لأول مرة لمعسكر أوشفيتز شاهد على البوابة الكبيرة لذلك المعسكر العبارة التالية المكتوبة باللغة الألمانية (Arbeit Macht Frie). في الواقع اللوحة الحديدة المكتوب عليها تلك العبارة باللغة الألمانية أصبحت اليوم من الصور المشهورة مثل شهرة اللوحة المضيئة لمدينة لاس فيغاس مع فارق التشبيه والظروف. على كل حال الترجمة لتلك العبارة الألمانية هي (العمل يمنحك الحرية) وهذا الشعار كان موجود على العديد من مراكز الاعتقال النازية في مختلف الدول الأوروبية وهذا يعني أن (تصفية وإعدام) اليهود لم يكن الهدف الأساسي والوحيد لتلك المعسكرات وأنها بالفعل استخدمت في جزء منها لدعم المجهود الحربي من خلال استخدامها كمصانع وورش لإنتاج الذخيرة الحربية. لدرجة أن بعض الكهوف الضخمة في الدول الأوروبية مثل تلك الموجودة في التشيك استخدمها النازيون لتصنيع الطائرات ومعسكرات اعتقال في فلندا استخدمت لتطوير الصواريخ النازية.

وبالعودة لقصة الكيمياء ومعسكر الإبادة نجد أنه في كتابة (الجدول الدوريThe periodic Table) المميز في مجال الثقافة العلمية استرجع بريمو ليفي عند الحديث عن العنصر الكيميائي (السيزيوم) ذكرياته في العمل في (المختبر العلمي) في معسكر أوشفيتز وكيف أنه استطاع أن يسرق نوع من القضبان المعدنية الصغيرة (سرق كذلك مادة الجلسرين وبعض الأحماض الدهنية) وكيف أنه استنتج أنها نوع لسبيكة عنصر السيريوم مع الحديد. وأستعرض بريمو في كتابه ذاك كيف كان يقوم بتقطيع تلك القضبان من سبيكة الحديد مع السيريوم إلى أحجام صغيرة يبيعها لبقية المعتقلين مقابل بعض قطع من الخبز في حين يستخدمها المساجين كولاعة سجائر لأنه عند حكها بقطعة صلبة من الحديد تعطي شرر أصفر كثيف. أود أن أؤكد بأن معسكر أوشفيتز تم بنائه على عدة مراحل وما يهمنا في قصة الكيميائي اليهودي بريمو ليفي (وما يهمني أنا المنتسب لعلم الكيمياء) هو الفرع الثالث من هذا المعسكر والذي يعرف بأكثر من اسم منها تسميته بمعسكر بونا Buna أو معسكر (IG-Auschwitz). وسبب هذه التسميات وارتباطها الوثيق بالكيمياء يرجع إلى أن عملاق الصناعات الألمانية الشركة الكيميائية IG Farben قامت بالتكفل بتمويل وتشييد وتشغيل ذلك المعسكر الثالث لكي يستخدم في تصنيع مواد كيميائية مهمة في المجهود الحربي النازي مثل نوع خاص من المطاط الصناعي يسمى بونا (Buna).

ولهذا يرد بشكل متكرر في ثنايا كتاب مذكرات الكيميائي اليهودي بريمو ليفي (إذا كان هذا رجلا) ليس فقط أسماء المركبات والعناصر الكيميائية، ولكن أيضا يكثر الإشارة إلى أن معسكر أوشفيتز الثالث كان يحتوي مخازن وأقسام ومباني تحمل أسماء مركبات كيميائية. فمثلا كان معسكر (IG-Auschwitz) ومصنع المطاط بونا يحتوي على مبنى يسمى مستودع مركب كلوريد الماغنيسيوم ويحتوي على مبنى آخر يدعى قسم البلمرة (polymerization Department) ومبنى تصنيع كحول الميثانول. كما يوجد مدخنة كبيرة في وسط المصنع أطلق عليها اسم برج الكربيد (The carbide Tower) والكربيد هو نوع من المركبات الكيميائي يحتوي على عنصر الكربون المرتبط بعنصر معدني. وقد سمى بريمو ليفي في كتابه برج الكربيد ذاك باسم (برج بابل) ومقصودة من هذه التسمية أنه كما ورد في التوراة أن شعوبا مختلفة الأعراق واللغات اجتمعت لمحاولة بناء برج بابل فكذلك الألاف من البشر مختلفي الأعراق واللغات تم اعتقالهم في معسكر أوشفيتز والذي في وسطه ذلك البرج الكيميائي.

بالمناسبة تعرض معسكر أوشيفتز الثالث (المعسكر الكيميائي) لقصف مكثف ومدمر من قبل طائرات دول الحلفاء بهدف تخريبه وتعطيله عن خدمة الجيش النازي ولهذا بعد مرور ذكر نصف قرن على تحرير معسكر أوشفيتز طرحت الفكرة لافتتاح معرض خاص يوثق لمعسكر مصنع المطاط الصناعي الذي عمل فيه الكيميائي بريمو ليفي كمحلل كيميائي (نفس تخصصي العلمي الدقيق) في مختبرات مصنع المطاط.

 وبحكم أن الشركة الكيميائية العملاقة IG Farben المسؤولة قديما عن معسكر أوشفيتز الثالث هي في الأصل ناتجه من اتحاد سته من أكبر الشركات الكيميائية الألمانية بالغت الشهرة مثل شركة BASF وشركة AGFA وشركة الأدوية Bayer ، وعليه قامت هذه الشركات الكيميائية الألمانية قبل عدة سنوات بتمويل انشاء معرض خاص عن الجانب الكيميائي لمعسكر أوشفيتز الثالث كنوع من التكفير فيما يبدو عن تاريخها القديم في دعم النظام النازي. وفي الختام أود أن أذكر القارئ الكريم أنه كما أن شركة BASF الألمانية هي أكبر شركة موردة للمواد الكيميائية في العالم وهي مشاركة بشكل أو آخر في أثم وجريمة قتل مئات الآلاف في معسكر أوشفيتز فكذلك شركة Bayer الألمانية هي واحدة من أكبر شركات الأدوية العالمية وهي الشكرة المالكة لدواء الأسبرين الواسع الانتشار وهي باندراجها تحت شركة IG Farben فقد يكون ساهم قديما علمائها ومدراءها القدامى بشكل أو آخر في جريمة الحرب تلك.

في الحقيقة أثناء إجراء بحث الدكتوراه في مجال الكيمياء في بريطانيا كنت أجري تجارب علمية قائمة بشكل أساسي على استخدام أصباغ كيميائية من انتاج شركة BASF ومهداة بهدف البحث العلمي لجامعتي البريطانية وقد وقعت على تعهد مع شركة BASF بأن لا انشر التركيب الكيميائي لتلك الأصباغ التي كنت أعمل عليها. ومع هذا الترابط الكيميائي بيني وبين تلك الشركة الكيميائية وبعد أن سبق لي وأن قراءة كتاب (إذا كان هذا رجلا) لبريمو ليفي وحيث أنني قمت هذه الأيام بزيارة معسكر أوشفيتز الشنيع في دولة بولندا ولذا من هذا كله ظهر الدافع لكتابة مقال (كيميائي في معسكر الإبادة النازي). 

وعليه في حال قام أحد الأخوة الأطباء الكرام بعد أن يصرف لمرضاه دواء الأسبرين أو غيرة من منتجات شركة الأدوية Bayer وبعد أن يكون قرأ كتاب (ذكريات طبيب في أوشفيتز) للمسجون والطبيب الهنغاري اليهودي ميكلوس نيسزلي (الذي سجل شهادته عن اجباره على إجراء التجارب الطبية على الأسرى اليهود) ثم اتيحت لهذا الأخ الطبيب الفرصة للزيارة الفعلية لمعسكر أوشفيتز فربما نطمع أن نحظى منه بمقال يحمل عنوان (طبيب في معسكر الإبادة النازي).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق