د/ أحمد بن حامد الغامدي
كالعادة ومع اشتداد درجة الحرارة وازدياد لهيب حمارة القيظ في
عز الصيف تصلنا جميعا صور التغريدات الطريفة التي تزعم أن ابن بطوطة قال (مررت
بأرض في وسط نجد لا تسكنها الجن من شدة الحر). من المفترض أن (مرور) ابن بطوطة على
أرض نجد حصل أثناء إحدى رحلاته المتعددة لأداء مناسك الحج ففي أحدها حج مع
العراقيين وهنا يمكن أن نلتقي مرة أخرى مع أرض اللهيب التي لا تسكنها الجن فعين
تلك المقولة المكذوبة عن ابن بطوطة يتم أحيانا ذكرها بصيغة بديلة هي (مررت على
موقع جنوب البصرة يقال له كاظمة لا يسكنها حتى الجن من شدة حرها ولهيبها !!).
في الواقع أن ابن بطوطة وثّق في كتاب رحلاته مروره على أرض نجد في مرتين مختلفتين الأولى أثناء عودته من رحلة الحج الثانية له والتي تمت في عام 727هـ عن طريق المدينة المنورة فبعد أن غادر محطة للحجاج في شمال شرق المدينة المنورة تسمى وادي العروس قال (ثم رحلنا من وادي العروس ودخلنا أرض نجد وهو بسيط من الأرض على مد البصر فتنسمنا نسيمه الطيب الأرج). أما المرة الثانية التي ذكر فيها ابن بطوطة خبر أرض نجد فهي أثناء ذهابه في رحلة الثالثة للحج نجده بعد أن مر بمنطقة إقليم البحرين والأحساء وقت القيظ ووصفها بالوصف الذي نعرفه اليوم عنها بأنها (هي شديدة الحر كثيرة الرمال وربما غلب الرمل على بعض منازلها). وبالرغم من حر الصيف الذي ذكره ابن بطوطة عن إقليم البحرين إلا أنه يذكر وصفا حسنا عن موقع مدينة الرياض حاليا والمعروفة قديما بأرض حَجر اليمامة فقال (ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتسمى أيضا بحجر، مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار يسكنها طوائف من العرب أكثرهم من بني حنيفة وهي بلدهم قديما، وأميرهم طفيل بن غان ثم سافرت منها صحبة هذا الأمير برسم الحج وذلك في سنة 732 فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى).
والمقصود أنه يحصل كثيرا في كتب أدب الرحلات أن يصف الرحالة أو
المغامر البلدة أو المنطقة التي يمر بها بأنها شديدة الحرارة والقيظ أو شديدة
البرودة والزمهرير (الحرّ والقرّ). وفي حين كانت كتب الأدب العربي مشحونة بذكر صبا
نجد ونسيمها العليل ومع ذلك يجب أن نعترف أن أرض الخزامى يمكن أن يرد ذكرها في كتب
أدب الرحلات مرتبطا بلهيب الحر وجمرة القيظ فمن ذلك مثلا أن الرحالة البريطاني
تشارلز داوتي يذكر في كتابه (رحلات في الجزيرة العربية) أنه عندما غادر منطقة
القصيم ووصل إلى وسط هضبة نجد إلى موقع مدينة عفيف حاليا تعرض هو ومرافقيه من
البدو لموجة حر شديدة. فبعد أن وصف داوتي عفيف بأنها مورد ماء لقبائل البادية وبعد
أن وصف التضاريس الطبيعية للمكان تكلم عن المناخ فقال (وكانت حرارة الشمس شديدة
على رؤوس رعاة الإبل لأن حرارة الشمس التي يمكن للمسافر أن يتحملها وهو يتحرك في
الهواء لا تطاق بالنسبة للبدوي في حالة التوقف واشتكى لي أحد الملاحيق من أشعة
الشمس التي صار يغلي منها دماغه).
الجدير بالذكر أن سفر داوتي من القصيم مرورا بمدينة عفيف الذي
تم في عام 1876م كان بهدف الحج فهو قد أدعى اعتناق الإسلام وزعم أن اسمه خليل
ولهذا انضم لقافلة الحج المنطلقة من منطقة القصيم. وعلى كل حال هذا يقودنا إلى أن
أفضل المصادر لمعرفة (الأحوال الجوية) لمدن ومناطق الجزيرة العربية في القديم يمكن
استخلاصها من كتب رحلات الحج كما لاحظنا مع وصف رحلات حج ابن بطوطة الثانية
والثالثة ورحلة الحج المزعومة للإنجليزي تشارلز داوتي.
من المشهور اهتمام وحرص علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر بكتب رحلات
الحج وفي سبيل تحصيلها والاطلاع عليها قام برحلاته المتعددة بهدف زيارة عشرات
المكتبات في العديد من الدول العربية والأوروبية. ونجده في مقدمة كتابه (رحلات حمد
الجاسر للبحث عن التراث) يقول: وكنت قد بدأت بدراسة كتب الرحلات المتعلقة بالحج
مما استطعت الحصول عليه، فرأيت في تلك الكتب من المعلومات المتعلقة عن تاريخ
بلادنا وجغرافيتها ومختلف أحوالها ما لا يوجد في غيرها من المؤلفات. ومن ذلك أن
بعض الباحثين اهتم بالذات بدراسة شهادات ومشاهدات الرحالة العرب والأجانب لمحطات
قوافل الحج والتي تسمى بدروب الحجيج مثل طريق الحج المصري أو طريق الحج العراقي
واليمني وهكذا. وبحكم أننا الآن نحاول رصد (أجواء) الجزيرة العربية من خلال ذكريات
ومذكرات الرحالة الذين سافروا زمن الحر والقيظ فسوف نركز أكثر على محطات طريق الحج
الشامي الذي يبدو أنه اشتمل على بعض أكثر المناطق الجغرافية سخونة وقيظا في جزيرة
العرب قديما وحديثا.
وبالعودة للرحالة الإنجليزي تشارلز داوتي السالف الذكر فقد مر أثناء
سفره من الشام إلى أرض الحجاز بمنطقة (حالة عمار) المنفذ الحدودي البري المشهور
بيننا وبين مملكة الأردن الشقيقة. طبعا توجد عدة روايات تاريخية عن سبب تسمية هذه
البقعة الجغرافية بحالة عمار ومنها ما ذكره داوتي فقال: (مررنا بحالة عمار وهناك
خرافة أن عمار كان مقوم للحجاج ذهب لهذه المنطقة في عز القيظ بحثا عن الماء فلم
يجد غير أرض تغلي وتدخن من الحرارة ولم يرجع). وبالاتجاه جنوبا في طريق الحج الشامي
وبعد أن نتعدى منفذ حالة عمار نصل إلى منطقة تبوك وكما هو معلوم اشتهرت غزوة تبوك
في السيرة النبوية بأن جيشها يسمى (بجيش العسرة). وبالرغم من أن ذلك الجيش المسلم كان
أكبر تجمعا عسكريا في تاريخ الجزيرة العربية حيث بلغ عدد الصحابة رضوان الله عليهم
الذي جاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة حوالي ثلاثين ألف مجاهد
إلا أن تسميته بجيش العسرة كان بسبب المشقة البالغة التي تكبدوها بسبب قلة المؤونة
والسفر في زمن الحر والقيظ ولهذا قال المنافقون أخزاهم الله (لا تنفروا في الحر).
على كل الحال اشتهرت منطقة تبوك ومنذ القدم بشدة حرها وسموم
أجوائها وبالعودة إلى رحلة ابن بطوطة وكما استشهدنا بذكرياته عن طقس هضبة نجد في
رحلته الثانية والثالثة للحج نجد أن ابن بطوطة في رحلته الأولى للحج التي تمت عام
726هـ وكانت عن طريق الحاج الشامي. ويذكر ابن بطوطة أن قوافل الحجاج تستعد بشكل
خاص لما يصفه (بالبرية المخوفة) ولهذا يسجل في رحلته أن حجاج الشام بعد أن يتخطوا
تبوك يجدّون السير ليلاً ونهاراً خوفا من هذه البرية وفي وسطها الوادي الأخيضر والذي
وصفه بقوله (كأنه وادي جهنم). ثم يذكر ابن بطوطة أنه حصل في هذا الوادي القاحل: أن
أصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب فانتشفت المياه
وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها. ثم بعد ذلك يذكر ابن بطوطة
من محطات درب الحاج الشامي موقعا آخر سماه بوادي العطاس وذكر أنه شديد الحر تهب
فيه السموم المهلكة وأنها هبت في بعض السنين على قافلة حجاج فهلك أغلبهم ولم يخلص
منهم إلا اليسير.
ومن منازل الحجاج على طريق الحج الشامي ننتقل إلى محطات الحجيج
على درب الحج المصري فبعد أن ينحدر الحجاج من السويس يتجهون نحو الجنوب بمحاذاة
مدن الساحل حتى يصلوا إلى موقع في درب الحج يسمى (أكرا) جنوب مدينة الوجه في زمننا
الحالي. لقد ذكر علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر عن تلك المنطقة بأنها من أشد
مناطق تهامة الحجاز حرا في الصيف ولا شك أن له خبرة واسعة بتلك المنطقة بعد أن عمل
فيها لعدة سنوات معلم في مدينة ينبع أو قاضيا في مدينة ضبا. وموقع أكرا بعضهم ينطق
الاسم ويحرفه إلى (أكره) ويصفون تلك المنطقة المجدبة بأنها لا ترتاح بها النفوس
ولا يضحك بها العبوس. وقد ذكر الرحالة المغربي أبو عبدالله الناصري أنه في سنة
1109 هـ في منطقة أكره هبت على الناس ريح السموم من نضيج اليحموم واشتد
الحر وتوالى الكرب .. وهلك من الناس كثير ومن الإبل أكثر .. ومات من المغاربة زهاء
الستين بالشوب والعطش.
وفي الختام لعل المقصود من عنوان المقال (الرحلة في زمن الحر والقيظ) قد اتضح الآن للقارئ الكريم وتبين بأن وعثاء السفر لبعض الرحالة في زمن الصيف وفر ذلك لنا نافذة للإطلالة على طبيعة الأجواء الخانقة والقتلة أحينا في ربوع الجزيرة العربية. كما نحب أن نشير إلى أن كتب أدب الرحلات وخصوصا رحلات الحج سجلت بالفعل تعرض الحجيج في منطقة الحجاز في أوقات ومواضع متعددة لموجات شديدة من الحر والقيظ. ومن الأمثلة الإضافية على ذلك حديث الرحالة الأندلسي ابن جبير عن حر مدينة جدة عندما حج في عام 579هـ أو أخبار الرحالة المغربي أبي سالم العياشي عن قيظ المدينة المنورة الذي أهلك عددا من الحجاج في سنة 1072هـجري.
وبالمناسبة ارتبطت المدينة المنورة بالذات
بشدة الحر في فصل الصيف ومن هنا ظهرت الطرفة المشهورة عن الوالي العثماني على
المدينة المنورة عندما تأفف من شدة الحر فقال له أهل المدينة إن (جمرة) القيظ هذه
هي (طباخ التمر) وهنا تزعم القصة أن الوالي التركي أمر بقطع النخيل حتى لا تهب
سموم طباخ التمر. في الواقع الوالي التركي معتاد على الأجواء الباردة ولهذا كان
لديه حساسية زائدة من الحر وهذا ما حصل مع الرحالة والجراح البريطاني هيرمان
بيكنيل الذي تنكر في صورة حاج مسلم وذهب إلى مكة المكرمة في موسم حج عام1279هـ.
ولكن عندما غادر رفقاؤه الحجاج إلى المدينة المنورة رفض هيرمان أن يسافر معه بحجة
أنه لا يستطيع مقاومة موجة الحر. والجدير بالذكر أن الرحالة والمستكشف البريطاني
ريتشارد بيرتون زار المدينة المنورة في موسم حج عام 1269هـ ووصف هو الآخر تأثير
شدة حرارة الجو على سوء أخلاق وسلوك الحجاج فيما بينهم.
من هذا وذاك لن نستغرب الآن عندما نعلم أن
الأمير شكيب أرسلان عندما أدى مناسك الحج ووثق ذلك في كتابه الماتع (الرحلة الحجازية)
وضع فصل كامل حمل عنوان (الحر في الحجاز) وفيه يذكر أنه شاهد علماء من العراق
فسألهم عن نسبة حر العراق إلى حر تهامة الحجاز فقالو إن حرّ الحجاز أشد. وبالرغم
من أن الأمير شكيب أرسلان قدم بالباخرة إلى ميناء جدة وذلك في موسم حج عام 1348هـ
ومع هذا لم يذهب مباشرة بعد الحج إلى المدينة المنورة كعادة أغلب الحجاج. لقد كانت
وجهة الأمير شكيب أرسلان بعد الحج أن ارتحل إلى جبال الطائف مبتعدا عن الحر الذي
لا يطيقه وربما لا غرابة في ذلك فهو في الأصل كان قادما من مدينة لوزان السويسرية
التي عاش بها سنوات طويلة وبذا هو متعود على الأجواء الباردة فقط. قبل ذلك بسنوات
قام الأديب والمؤرخ الكبير خيرالدين الزركلي بنفس هذا الفعل حيث توجه لعروس
المصايف بعد أن قام بأداء العمرة وكل من شكيب أرسلان والزركلي قام بتقريض ومدح
أجواء ومناظر مدينة الطائف بما لا مزيد عليه. وأنا وإذا أكتب هذه الصفحات في هذا
الصيف القائظ أحمد المولى عز وجل أنني حاليا أقيم بين الأحباء في مدينة الورد
والنسيم الطائف المأنوس وإن كنت لا محالة مرتحلا بعد زمن إلى الموقع الذي زعموا
بالكذب أن ابن بطوطة قال فيه ما قال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق