د/ أحمد بن حامد الغامدي
يوم أمس الجمعة يوافق التاسع عشر من شهر
مايو وهو تاريخ يتطابق مع عدد من التواقيت الجديرة بالاهتمام ففي هذا اليوم (5/19)
من عام 1916م تم بشكل سري توقيع الاتفاقية المشؤومة بين بريطاني وفرنسا (اتفاقية
سايكس - بيكو) وذلك لتوزيع المناطق العربية التي كانت في تلك الفترة تحت حكم
الإمبراطورية العثمانية، وتقسيمها إلى مناطق نفوذ تحت الاحتلال الفرنسي والإنجليزي.
ومن غرائب المصادفات أن يوم التاسع عشر من شهر مايو (5/19) يتوافق مع التاريخ الذي توفي فيه ضابط المخابرات
البريطاني توماس لورنس المشهور بلقب (لورنس العرب) وذلك لأنه قائد جحافل الجيوش
العربية ضد القوات التركية في جزيرة العرب وبلاد الشام فيما يعرف باسم (الثورة
العربية الكبرى !!).
في لحظة حدوث وتتابع الأحداث السياسية قد يقع
الواحد منا في حالة لزوجة فكرية ولهذا قد لا يقيّم الأحداث والمواقف بشكل سليم ومن
ذلك موقف أهل السياسة والفكر قبل قرن من الزمن من لورنس العرب. فالبعض بالغ في الإعجاب
به والثناء عليه لدرجة أنه وصف بملك العرب غير المتوج وفي المقابل البعض أعتبره
مجرد جاسوس خدع العرب واستغلهم. في عام 1915م وقعت بريطانيا اتفاقية سرية مع روسيا
القيصرية على تتعلق بتقسيم الأقاليم الشرقية من الإمبراطورية العثمانية والتي تشمل
أرض العراق وأنها سوف تكون من نصيب بريطانيا. وبالرغم من أن تسريبات هذه الاتفاقية
قد بلغت قادة الثورة العربية بدلالة الحوار الذي يقال إنه دار بين الأمير فصيل بن الحسين
ووالده شريف مكة ونشره الكاتب والدبلوماسي العراقي المعروف نجدة فتحي صفوة في كتابه
(الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية). يقال إن الأمير فيصل بن الحسين سأل
والده ماذا ستفعل إذا افترضنا أن بريطانيا العظمى لم تنفذ الاتفاق في العراق؟ وهنا
أحتد شريف مكة على ولده وصاح به قائلا: ألا تعرف بريطانيا العظمى إن ثقتي فيها
مطلقة.
ما أود الوصول إليه إلى أن دهاليز السياسة
مظلمة ومتاهاتها محيرة فإذا كان دهاة الساسة وخبراء التحليل السياسي يخبطون فيها
خبط عشواء فما بال الحال والمآل للمراقبين عن بعد من رجال الفكر والأدب الذين ليس
لهم إلا ظواهر الأمور ولهذا قد يقعون في الأخطاء والتناقضات. ولهذا سوف آخذ مثالا
نموذجيا أو كما يقال (دراسة حالة case study) لشخصية فكرية وأدبية عاشت مثلنا قبل مئة
عام حالة عجيبة من تزاحم الأحداث السياسية الكبرى. ولهذا وقعت تلك الشخصية في
تناقضات متعددة في فهم وإدراك المسرح السياسي من حولها كما يحصل مع أغلبنا اليوم فنحن
نعيش في دوامة متغيرة ومحيرة من الأحداث السياسية المبهمة والديناميكية والمؤثرة.
والمثال الذي سوف نختاره هو أمير الشعراء
أحمد شوقي والذي بالإضافة لقدراته الهائلة في الأدب فهو قد مارس شيء من السياسية حيث
كان مقربا من حاكم مصر الخديوي عباس وتعرض بسبب مواقفه السياسية للنفي والمضايقة
من قبل المحتل الإنجليزي. وعلى كل حال لشاعر النيل اهتمام بالغ (بمتابعة) الأحداث
السياسية الكبرى وتوثيقها في شعره ولهذا يعتبر من رواد (الشعر السياسي) وقد قمت
بذكر بعض هذه الجوانب لأحمد شوقي وغيره من الشعراء في مقال حمل عنوان: الشعراء
والثقافة السياسية.
قبل قرن من الزمن أصابت القوم الحيرة هل كان
لورانس بطل أم خائن وكذلك احتار القادة السياسيون هل الإنجليز والفرنسيون حلفاء أم
أهل خداع وغدر وفي ذاك السياق وفي تلك الأجواء الضبابية تذبذب شاعرنا أحمد شوقي في
موقفه السياسي وفي شعره الأدبي إزاء أشراف مكة هل يهجوهم أم يمدحهم وفي حكام بني
عثمان هل يعجب بهم أم يتبرأ منهم. كما هو معروف كان الشريف حسين أول من نادى لانفصال
الأراضي العربية عن الحكم العثماني ومن ثم مزاحمة السلاطين الأتراك على لقب خليفة
المسلمين وذلك في عام 1916 ميلادي. ولكن قبل هذا التاريخ بحوالي عشر سنوات
وبالتحديد في عام 1905م حصل صراع بين الشريف عون (شريف مكة) وبين والي الحجاز العثماني
نتج عنه انفلات الأوضاع الأمنية في الحجاز. وفي هذا السياق نفهم سبب قصيدة الهجاء
العنيفة التي كتبها أحمد شوقي ضد الشريف عون وأرسلها إلى الأستانة ويحرض فيها
السلطان عبدالحميد الثاني على شريف مكة ويطلب من خليفة الله وأمير المؤمنين أن
يقوم بتجريد السيف وتأديب الشريف الذي ضج منه ومن أفعاله الحجاز والحجاج والحرم:
ضجّ
الحجاز وضجّ البيتُ والحرمُ واستصرخت ربّها في مكة الأممُ
قد مسّها في حماك الضرُّ فاقض لها خليفة الله أنت السيد الحكمُ
لك الرُبوع التي ريع الحجيجُ بها أللشريف عليها أم لك العَلمُ
يدُ الشريف على أيدي الولاةِ علت ونعلهُ
دون ركن البيت تُستلمُ
أدّبهُ أدّب أمير المؤمنين فما في العفو عن فاسقٍ فضلٌ ولا كرمُ
لا ترجٌ فيه وقاراً للرسول فما بين البُغاة وبين المصطفى رحمُ
رَبَّ الجزيرة أدركها فقد عبثت بها الذئاب وضلَّ الراعي الغتمُ
بسيفك يعلو الحقُّ والحقُّ أغلبُ وينصرُ دينُ الله أيّنَ تَضربُ
فأدب به القومَ الطغاة فإنهُ لنعمَ
المربي للطغاة المُؤدّبُ
وداو به الدولاتِ من كل دائها فنعم الحُسامُ الطبُّ والمُتطبّبُ
من المعلوم أن إرهاصات الثورة العربية كانت
في نهاية عام 1915م عندما حصلت المراسلات المشهورة بين الشريف حسين وبين المندوب
البريطاني في مصر السير هنري مكماهون فبعد إعلان السلطان العثماني الجهاد ضد
الحلفاء في بداية الحرب العالمية الأولى كان رد الإنجليز عن طريق إثارة الشريف حسن
علي الدولة العثمانية وتحريضه على الانشقاق عنها. وبحكم سيطرة الاحتلال البريطاني
على مصر في ذلك الوقت فقد ضغط الاحتلال على بعض رجال الدين والمفكرين والأدباء على
إظهار التأييد للثورة العربية أو على الأقل عدم الاعتراض عليها. وبحكم أن أحمد شوقي
كان في تلك الفترة قد تم نفيه من قبل الإنجليز إلى الأندلس فلم يصدر عنه أي موقف
واضح ضد أو مع الثورة العربية بالرغم من أنه في السابق كان يجاهد مع الدولة
العثمانية بقلمه ضد أي انشقاق عنها.
وعلى ذكر هذا المزيج الثلاثي (أحمد شوقي والأندلس
والشأن التركي) لا بد من الإشارة إلى أنه في اثناء حرب البلقان الأولى التي اندلعت
عام 1912م كان من تداعيات ذلك أن سقطت المدينة التركية أدرنة الملاصقة للحدود
البلغارية وهنا كعادة احمد شوقي في أسلوبه الرائع في (رثاء المدن) كتب قصيدة يعبر
فيها عن تفجعه بخسارة هذه المدينة الإسلامية ويقارنها بمثيلاتها من مدن الأندلس الفردوس
المفقود:
يا أخت أندلسٍ عليك سلامُ هوت الخلافةُ عنكِ والإسلامُ
جُرحان تمضي الأمتانِ عليهما هذا يسيلُ وذاك لا يلتامُ
بكما أصيبَ المسلمون وفيكما دُفن اليراعُ وغُيب الصمصامُ
ما بين مصرعها ومصرعك انقضت فيما نُحب
ونكرهُ الأيامُ
ولهذا عندما انتصرت القوات التركية في معركة
استرداد مدينة إزمير في عام 1922م وإنهاء الاحتلال اليوناني لها كتب أحمد شوقي
قصيدته الطنانة المشهورة في مدح كمال أتاتورك (خالد الترك) وشبهه بخالد بن الوليد (خالد
العرب). من الناحية الجغرافية مدينة أزمير لا تبعد كثيرا عن أطلال مدينة عمورية
ولهذا لم يكن مستغربا أنه كما قرن أحمد شوقي بين فجيعة خسارة الأندلس بخسارة مدينة
أدرنة أن يقرن فخر النصر في عمورية بفخر النصر في أزمير ولهذا قام أحمد شوقي
بمعارضة القصيدة المشهورة لأبي تمام في مدح الخليفة المعتصم وكتب قصيدته في مدح
الغازي التركي على نفس الوزن والقافية والروي:
الله أكبرُ كم في الفتحِ من عَجبٍ يا
خالدَ التُركِ جدّد خالدَ العربِ
صُلحٌ عزيزٌ على حربٍ مُظفرةٍ فالسيفُ في غِمدهِ والحقُّ في النُصُبِ
يا حُسنَ أمنيةٍ في السيفِ ما كذبتْ وطيبَ أمنيةٍ في الرأي لم تخبِ
من التناقضات في مسيرة التاريخ أنه قبل انعقاد
مؤتمر الصلح في لوزان بشهر واحد نشرت صحيفة نيويورك تايمز في مطلع شهر أكتوبر من
عام 1922م تقريرا إخباريا عن انتصارات مصطفى كمال أتاتورك في أزمير الذي تم قبل
ذلك في شهر سبتمبر وحمل التقرير رسمة حملت عنوان (قيام تركيا من تحت الرماد). وهنا
يمكن أن تتكشف أبعاد المأساة وهي أن العالم الإسلامي كان يتشوق أن تعود تركيا بعد
نهاية الحرب العالمية الأولى التي أُحتلت فيها مدينة إسطنبول، تعود تركيا بعد نصر
إزمير دولة مؤثرة وإذا بها تخرج دولة مسخ وعميلة للغرب. ربما كانت الأمة العربية
بعد نشوة الانتصار في معركة أزمير في حالة أفراح ومباهج أعراس وأمل مخادع بمستقبل
زاهر ثم إذا بها تصدم بفاجعة إلغاء الخلافة من قبل ذلك الغازي المخادع مصطفى كمال
الرجل الصنم. وربما في هذا المنظور نفهم ما هي الأفراح والليالي الملاح التي قصدها
أحمد شوقي في قصيدته الأشهر في رثاء الخلافة الإسلامية:
عادت أغاني العُرس رجعَ نُواحِ ونُعيتِ بين معالمِ الأفراحِ
كُفّنتِ في ليلِ الزفافِ بثوبهِ ودُفنتِ عند تبلّج الإصباحِ
ضجَّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ وبكت عليك مماليكٌ ونواحِ
أستغفرُ الأخلاقَ لستُ بجاحدٍ مَن
كنتُ أدفعُ دونه وألاحي
ما لي أطوّقُه المَلامَ وطالما قلدتُه المأثور من أمداحي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق