د/ أحمد بن حامد الغامدي
بلا جدال فإن القراءة مؤشر من مؤشرات جودة وديمومة التنمية وهي من الروافد الأساسية للثقافة والحضارة وكمحاولة لتعزيز وجود ظاهرة القراءة في المجتمعات كثير ما كانت تقام مهرجانات (القراءة للجميع). ومن فعالية القراءة للجميع تطور الحال إلى مبادرات (القراءة أمام الجميع) والتي تهدف لتعزيز مكانة القراءة في المجتمع من خلال تشجيع اكتساب عادة القراءة التي قد تنتقل بالمحاكاة والتقليد عند مشاهدة البعض ممن يمارس عادة القراءة في الأماكن العامة بكل ثقة ودون خجل. وعلى ذكر الخجل من القراءة نجد أنه قديما كان يوصف الشخص الشغوف جدا بأنه (دودة كتب) بينما في الغرب كان يميلون أحيانا للقول بأنه شخص: أنفه في كتاب (his nose in a book) بمعنى أنه شخص منغمس جدا في القراءة.
وللأسف في جميع الحالات سواءً وصف الطفل بأنه
دودة كتب أو أنفه ملاصق دائما للكتاب فهذا أمر يجلب لذلك الطفل أحيانا السخرية
والتنمر من الأطفال الآخرين بل وحتى من البالغين مما سبب ابتعاد البعض سواء من الأطفال
أو الكبار عن القراءة (أمام الجميع) بل وربما هجر القراءة بالكلية. وهذا ما دفع بعض
الأفراد والهيئات العامة لمحاولة إعادة إحياء وبعث خصلة عشق القراءة وتحفيز الجميع
على القراءة والالتصاق بالكتاب في كل حين من خلال التشجيع على (القراءة أمام
الجميع).
في السابق كان من أشهر وأبرز مظاهر القراءة أمام الجميع أن تجد الأشخاص من رواد الحدائق والمنتجعات السياحية الواحد منهم يستلقي على العشب أو يجلس على كرسي الحديقة وهو يقرأ في كتاب. وبحكم أن شهر مايو مرتبط ببهجة الربيع وتردد الناس على الحدائق والمتنزهات ولذا يخصص هذا الشهر لحملة توعوية راقية تحث الناس على الارتباط بالكتاب وعدم الحرج من القراءة أمام الجميع. في عام 1999م أطلقت جمعية الناشرين الأمريكيين حملة لتعزيز القراءة في المجتمع من خلال تخصيص شهر مايو من كل عام ليصبح شهر القراءة أمام الجميع وذلك من خلال حملة توعوية تحمل شعار (صادوه وهو يقرأ Get Caught reading). المقصود أنه في الولايات المتحدة نجد أن شهر مايو هو (الشهر الوطني للقراءة) وأن من الأساليب المحفزة على القراءة حثّ الجميع على عدم الخجل من أن يشاهدك الناس (يكفشوك ويصيدوك) وأنت متلبس بفعل القراءة بحيث يكون وجهك مدسوسا بين صفحات الأوراق وأنفك ملاصق للكتاب.
للأسف الشديد العادة الحضارية الراقية التي
كانت توجد في بعض المجتمعات والمتعلقة بارتباط الناس بالقراءة (أمام الجميع) في أي
مكان أو أي وقت أخذت تتلاشى. وبعد ما كان أمرا سائدا وسائغا أن تشاهد شخصا يقرأ
كتاب وهو واقف في عربة قطار المترو أو وهو جالس على طاولة المقهى أو وهو متمدد على
ظهره على العشب في حديقة عامة أصبحت هذه المظاهر (الحضارية) تتقلص. وأصبح السائد
في جميع دول العالم في الشرق والغرب أن البشر مشغلون في جميع تلك الحالات السالفة
الذكر (في القطار والمقهى والحديقة وغيرها) بالنظر إلى شاشات جولاتهم (الذكية)
التي تزيدهم غباء وحماقة عندما يشغلون أوقاتهم بمتابعة التفاهة في وسائل التواصل
الاجتماعي.
على كل حال يبدو أن القراءة ليست فقط نشاط
ثقافي ومعرفي ينمي الإبداع والتفكير بل إنها يمكن أن تكون كذلك نشاطا اجتماعيا يثري
التواصل الفعال مع الآخرين وتعزز مهارات الحوار، هذا فضلا عن أن القراءة في الأماكن
العامة قد تخلق شعورا بالانتماء إلى المجتمع. ومن الفوائد الملموسة للقراءة في
الأماكن العامة وأمام الغرباء بصوت مسموع أن ذلك يساعد في تحسين المهارات اللغوية
والثقة في النفس والتعايش والتعاطف مع الغير وهي بالإضافة لذلك وسيلة للتواصل مع
الآخرين الذين قد يشاركونك نفس الاهتمامات والهوايات.
الأدباء وتعزيز ثقافة القراءة في الأماكن العامة
قبل حوالي سنة قامت هيئة الشارقة للكتاب
بحملة تهدف للتشجيع على قراءة الكتب حملت شعار (إذا مهتم بشيء، يعني مهتم بالكتب)
شارك في دعمها عدد من المشاهير من ضمنهم بعض الممثلين وقبل ذلك بسنوات عدة نظمت لدينا
حملات مشابهة للحث على القراءة واقتناء الكتب وشارك فيها بعض مشاهير لاعبي كرة
القدم بالسعودية. وبالرغم من أن هذه الحملات التوعوية هي جهد مشكور ومطلوب ومع ذلك
من جهة نظري الشخصية قد يكون (اقتناع) المستقبل بمصداقية تلك الرسالة التوعوية أكثر
لو أن الشخص الذي يوجد في الإعلان عن تلك الحملة له مظهر المفكر أو المثقف بدلا من
مجرد اختيار شخصيات بعيدة عن القراءة من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي أو نجوم (حسب
زعمهم) عالم الرياضة والفن.
ولذا أقترح حيث نحن الآن في منتصف شهر مايو
(شهر القراءة أمام الجميع ومصاحبة الكتاب) وبالتزامن مع عالم الشعر العربي 2023
(حتى الآن لم أرصد أي فعاليات جادة تحتفل به !!) أن يتم الإعداد لبعض الفعاليات
الثقافية التي تعزز من القراءة وتساهم في بث الوعي بمفهوم وظاهرة القراءة أمام
الجميع. ومن ذلك مثلا لماذا لا يقوم النادي الأدبي في الرياض بتنظيم أمسية شعرية
في حديقة سلام وبالتالي يمكن أن نشهد لفيفا من الشعراء يقرؤون من دواوينهم الشعرية
وهم أمام جمع من زوار الحديقة المضطجعين على العشب. كما هو معلوم الشاعر اللبناني
الكبير جبران خليل جبران هاجر منذ صباه لمدينة بوسطن الأمريكية ويقال إنه لاحقا عندما
أصبح شاعر مشهور كان يقرأ من كتبه في داخل الحديقة العامة لمدينة بوسطن علما بأنه على
بعد عدة مئات من الأمتار من هذه الحديقة يقام نصب خليل جبران التذكاري. وهذا الكاتب
والروائي البريطاني أوسكار وايد قضى آخر ثلاث سنوات من حياته في فندق بالقرب من حدائق
لوكسمبورغ في الحي اللاتيني بمدينة باريس ويقال إنه كان يقرأ من كتبه لأصدقائه
وللمعجبين وهم في أحضان تلك الحديقة المذهلة. ومن طرائف العلاقة بين الحدائق والأدب
أن الكاتب الكبير عباس محمود العقاد كانت أول ندوة ثقافية عقدها لتلاميذه في رحاب
حديقة الحيوان بالجيزة.
ومن الحدائق الغناء إلى الشوارع الثقافية
فمثلا شارع المتنبي في بغداد هو شارع الثقافة بامتياز لأنه محور تجمع المكتبات التجارية
بعاصمة الرشيد وعلى أرصفته تنتشر بسطات الكتب المستعملة وعليه لا غرابة أن تجد فيه
من يقرأ وهو واقف. وبحكم أن هذا الشارع يعرف كذلك بشارع الأدباء ففي نهايته يقع
مبنى المركز الثقافي البغدادي ولهذا أصبح ملتقى للثقافة والأدب وساحة إقامة
الندوات الثقافية والمنتديات الشعرية. وعلى ذكر ارتباط الشوارع بالشعر والأدب
والقراءة من الدواوين فتجدر الإشارة إلى أن الشارع رقم 92 في مانهاتن بمدينة نيويورك
يحتوي على مركز ثقافي بارز يتسابق كبار الشعراء والأدباء على القراءة من دواوينهم
الشعرية فيه ومن أبرزهم الشاعر المعروف تي إس إليوت حيث قرأ فيه في عام 1950م
مقاطع من قصيدته المشهورة الأرض اليباب.
ومع ذلك يبقى أكثر الأدباء الذين نقل عنهم قيامهم
بأنفسهم بقراءة اشعارهم في الشوارع والساحات العامة هو شاعر فلورنسا الأبرز دانتي
الذي كان يقرأ للعامة في مدينة فلورنسا ولاحقا في منفاه في مدينة فيرونا الإيطالية
ومدينة باريس. وإذا ذكر الحديث عن قراءة الأدباء للعامة والدهماء فلا ينبغي أن نغفل
الإشارة إلى الروائي البريطاني تشارلز ديكنز الذي يوصف بحق بأنه (القارئ العام public
reader) حيث قضى آخر 12 سنة من حياته في قراءة مقاطع مطولة من روايته الأدبية
للجمهور في العديد من الأماكن العامة وقاعات الاجتماعات لدرجة أنه حصل من المال
والثروة من هذا النشاط الثقافي أعلى بكثير من بيع رواياته. تشير الدراسات
التاريخية لحياة تشارلز ديكنز أنه قام خلال عقدين من الزمن بحوالي 472 قراءة
للعامة في أماكن مختلفة من المدن البريطانية والأمريكية. بمعنى أن عامة الشعب
الإنجليزي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان بإمكانه بمبلغ مالي معقول أن
يثقف نفسه بالاستماع إلى القراءة الدرامية (dramatic reading)
الشيقة والمؤثرة التي يبدع في أدائها تشارلز ديكنز. بينما في نفس العصر الزمني تقريبا
وفي واقعنا العربي كان عموم الشعب يستمتعون كذلك بالقراءة العامة التي يؤديها
(الحكواتي) في المقاهي الشعبية وهو يقرأ لهم دراما تمثيلية ماتعة من كتاب قصص
عنترة أبو الفوارس أو تغريبة بني هلال أو حكاية الأميرة ذات الهمة.
وبالجملة القراءة أمام الجميع أو في الأماكن
العامة من العادات الراقية لأهل الأدب ومشاهير المفكرين لدرجة أنه كان من دلائل
حسن الضيافة أن يقوم الأديب أو الشاعر بقراءة صفحات من كتبه للضيوف والزوار الذين
يستقبلهم في منزله كما كانت تفعل ذلك الروائية الإنجليزية جين أوستن وكما هو حال عباس
محمود العقّاد صباح كل يوم جمعة عندما يجتمع بتلاميذه ومريديه في شقته المشهورة في
حي مدينة نصر بالقاهرة.
وفي الختام أود أن أؤكد أن ظاهرة (القراءة
أمام الجميع) وإن كانت ليست بدرجة زخمها قديما ومع مزاحمة الجولات الذكية للكتاب
إلا أن هذه الظاهرة الراقية أخذت بالتزايد وبالخصوص في بعض المقاهي وصالات الانتظار
بالمطارات. ولهذا وفيما تبقى من شهر مايو سوف أساهم في تعزيز انتشار عادة القراءة
أمام الجميع أو حمل الكتاب في الأماكن العامة حتى ولو أنا مع العائلة في أحد
المطاعم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق