الميدالية الذهبية لجائزة نوبل
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قبل عشر سنوات تقريبا وبالتحديد في
عام 2006 كان جميع العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل في الطب والكيمياء
والفيزياء من حملة الجنسية الامريكية (وهذا طبعا كان
قمة الاعجاز العلمي كما يقول عبدالعاطي كفتة)، الاسبوع الماضي تم الاعلان
عن جوائز نوبل في المجالات العلمية ومن ضمن العلماء الثمانية الحاصلين على هذه الجائزة المرموقة واحد فقط منهم من ذوي الأصول الامريكية. تراجع وتقهقر
كبير للأبحاث العلمية والتقدم التقني الامريكي وهذا ولا شك إن استمر سوف يكون له
أثر كارثي على مستقبل الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين حيث (تكون أو لا تكون فيه سيدة العالم .. ذلك
هو السؤال).
الغريب في الأمر أن الامة الامريكية
الطامعة والطامحة لسيادة العالم كانت حتى قبل قرن من الان سياستها الخارجية يحكمها
مبدأ الانعزال عن العالم أو ما عرف بمبدأ الرئيس مونرو ولم يتغير الأمر بشكل ملموس
إلا في عام 1918 عندما أطلق الرئيس الامريكي ويلسون مبادئه الاربعة عشر الشهيرة
والتي تأصل لأسس العلاقات الدولية. وبعد أن كانت الولايات المتحدة تجنح للانعزال
أصبحت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية هي (الرابح الاكبر) الخارج من ويلات الحرب
وبحكم أن الحرب كانت مقامرة كبرى وعلى القاعدة لاعبي البوكر الفائز يكسب كل شيء (the
winner takes it all) لذا (كوّشت) أمريكا على السياسة الدولية
وفرضت هيمنتها وسيادتها الدولية من خلال ما يسمى مبدأ الرئيس ترومان. وبعد السقوط
المدوي للاتحاد السوفيتي قبل ربع قرن من الان شعر المحافظون الجدد من رجالات
السياسة الامريكية بالانتشاء فبعد التلاشي الكامل لسياسة الانعزال أخذوا ينظّرون
لمبدأ الانفراد والأحادية (النظام العالمي الجديد) والتبشير بقرب إشراق شمس
الامبراطورية الأمريكية سيدة العالم المتوجه في القرن الحادي والعشرين.
ما يهمنا الآن هو ما هي القوة
الحقيقة لسبب الطموح والتبجح الامريكي الصارخ إنها ولا شك القدرة العسكرية والقوة
الاقتصادية والذين يعتمدان بشكل كلي على تفوق العلوم والابحاث الامريكية. وبالرغم من أن المؤرخ والمفكر الامريكي البارز
بول كينيدي في كتابه الذائع الصيت (صعود وسقوط القوى العظمى) يقرر أن
الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ كان من أبرز سقوطها (تعثرها الاقتصادي) بسبب
التوسع المفرط في التمدد العسكري ذو الكلفة العالية، وبالرغم من وجاهة وقابلية هذا
التحليل السياسي/الاقتصادي إلا أننا لا
يجب أن نغفل أن بواكير الافلاس الاقتصادي للدول الكبرى يولد عندما يضمر ويجف
الرافد الاهم لاقتصاد وهو (التقدم العلمي والابتكارات التقنية).
في العلم كما في السياسة نجد أن تنافس الاقران (وسباق التسلح العلمي)
عملية مرهقة ومكلفة اقتصاديا وذهنيا، ولهذا في العقود الاخيرة الامة
الامريكية دخلت حرب شرسة متعددة الجبهات
سياسيا مع كتلة الاتحاد السوفيتي واقتصاديا مع الدول الاوروبية وعلميا وتقنيا مع اليابان
وحاليا مع الصين وكوريا وهذا من شأنه أن يستنفذ قوى ومجهود الامة الامريكية كما
لاحظ ذلك من قبل المتنبي عندما حذر من التكلفة العالية للسيادة (الجود يفقر ..
والإقدام قتالُ) . وعلى سبيل المثال لشراسة التنافس العلمي بين الولايات المتحدة
والدول الاسيوية الناهضة للحاق بركب الغرب ذكرنا أنه في عام 2006 كان كل العلماء
الذين حصلوا على جوائز نوبل العلمية من الامريكيان لكن سرعان ما وصل الرد الاسيوي
حيث فاز في عام 2008 أربعة علماء يابانيين بجائزة نوبل في المجالات العلمية وهم
تقريبا نصف عدد العلماء الفائزين في ذلك العام. الجدير بالذكر أن عدد العلماء اليابانيين
الذين فازوا بجزائز نوبل منذ انشاء تلك الجائزة قبل 115 سنة كانوا حوالي 19 عالم
والامر الصاعق والمؤشر القوي على قوة التنافس الياباني الحالي أن أحد عشر عالما
منهم حصلوا على جائزة نوبل في العشر سنوات الاخيرة. بمعنى أنه خلال قرن من الزمان
لم يفز إلا تسعة من العلماء يابانيين بجائزة نوبل بينما (وبسبب اشتعال سباق التسلح
العلمي بين الشرق والغرب) في العشر سنوات الأخيرة فاق عدد العلماء اليابانيين
الفائزين بالجائزة عدد من سبقوهم للمجد.
نفس ظاهرة تزايد عدد العلماء
الصينيين الحاصلين على جائزة نوبل العلمية آخذه في التشكل والتبلور خلال السنوات
الماضية لكن الأهم من ذلك أن التنين الصيني المحلق في سماء العلوم سوف يبتلع النسر
الامريكي (الاصلع والبشع !!) في مجالات علمية أخرى أكثر خطورة وايلاما من التنافس
على جوائز نوبل. الأرقام الرسمية الدولية المتداولة تشير إلى أن الصين في عام 2013
ليس تفوقت على الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع المسجلة ولكن الفارق بين
الدولتين اصبح محرجا جدا للولايات المتحدة والتي تحل في المركز الثالث عالميا
بتسجيلها حوالي نصف مليون براءة اختراع بينما الصين التي تحتل المركز الاولى تتفوق
عليها بحوالي ربع مليون براءة اختراع (734
الف براءة اختراع للصين والأمريكان 501 الف براءة اختراع لمن أراد الدقة).
ومن جانب آخر نجد أنه قبل عشر سنوات
فقط كانت تنشر الولايات المتحدة سنويا من الابحاث العلمية حوالي 482 الف بحث وهو
تقريبا ثلاثة أضعاف عدد الابحاث العلمية التي كانت تنشرها الصين. وكان ذلك فيما
مضى وبقاء الحال من المحال فقد تقلص هذا الفراق بدرجة خطيرة على الامريكان عام
2014 لتتغير نسبة الاختلاف بين الدولتين من 300% قبل عشر سنوات إلى 12% فقط (عدد
الابحاث الامريكية 552 الف في حين عدد الابحاث الصينية 452 الف) وعلى هذا المقياس
تشير التوقعات إلى أن الصين خلال الاشهر القليلة القادمة بالقطع سوف يتفوق الاقزام
الصينيين على عمالقة الشمال الامريكيان في عدد الابحاث العلمية المنشورة.
وكما يقال أن المصائب لا تأتي فرادى
على أم رأس العم سام فبعد أن كانت الولايات المتحدة (أرض الاحلام) وجنة المخترعين
والموهوبين وموطن جذب لعلماء الخارج اشار تقرير أعدته اكاديمية العلوم القومية
الامريكية يتوقع فيه أن (يهاجر) حوالي
مائتين الف شاب أمريكي للدراسة في خارج البلاد لا سيما في مجالات العلوم والهندسة
بعد أن كان الشباب الامريكي يتحمل فقط وعثاء
السفر لدراسة الادب والقانون والفنون. وهجرة العقول الشابة الامريكية للدراسة في
الخارج طعنة نجلاء في الظهر للجامعات الامريكية التي ما زالت تتفاخر بتربعها على
عرش تصنيف الجامعات الدولية مثل تصنيف شنغهاي وتصنيف QS وتصنيف التايمز.
ولنعد الآن إلى تساؤلنا المطروح في
عنوان هذا المقال والذي يمكن إعادة صياغته كالتالي: هل التراجع والتقهقر المتواصل
والمخجل لنصيب العلماء الامريكان في جوائز نوبل ينبغي أن يجعل الأمة الامريكية أن
تهب مرة جديدة وهي تصرخ (نحن أمه في خطر) أم أن الامر أهون من ذلك وليس إلا حالة
تشفى من المفاليس أمثالنا (بالعثرة والكبوة) في مسيرة المجد العلمي الامريكي
المؤثل. ينبغي أن لا ننسى أن التقرير الشهير (أمه في خطر A
Nation at Risk) الصادر عام 1983 كان بكل بساطة تعبير عن
حالة القلق من أنه وبالرغم من قوة التقدم العلمي الامريكي إلا قاعدة الوقاية خير
من العلاج تضطر رجالات التربية الامريكان ليحذروا أمتهم ببواكير ضعف التعليم
العالم وأن جيل (الابناء الامريكان) أضعف علميا من جيل (الاباء الامريكان).فإذا
كان عقلاء وحكماء الامريكان استشعروا خطورة أن تقل جودة تعليم ابنائهم عن جودة
تعليمهم هم فالمصيبة الأخطر الآن واضحة
لكل ذي عيني أن(بواكير وأرهاصات ضعف العلماء والمخترعين أصبحت تقارن مع منافسيهم
من الشرق والغرب.
من البدهيات المقررة لذوي الافهام
والادراك أن القوة السياسية والعسكرية قائمة بشكل بنيوي وكلي على القدرة والملائة
الاقتصادية (فكرة كتاب صعود وسقوط الدول لكينيدي) والاقتصاد طبعا قائم بالدرجة
الاولى على الصناعة والاختراع. ويوما بعد آخر تتوالي الدراسات والتقارير التي تشير
بشكل صريح إلى أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة ما يمكن تسميته (التخلف التقني)
بالمقارنة مع الدول المتقدمة مثل ألمانيا واليابان وحتى الصين. وحسب الاحصائيات
المنشورة على الموقع الالكتروني للبنك الدولي نجد أن قيمة الصادرات من التقنية
المتقدمة High-Tech
للصين خلال الخمس سنوات الاخيرة (560
ترليون دولار) وهي تقريبا اربعة اضعاف قيمة الصادرات الأمريكية (147 ترليون دولار)
وهذه نتائج غريبة جدا جدا حيث الصورة النمطية أن الصين متفوقة في التجارة الدولية
للصناعات التقليدية وليس الصناعات المتقدمة وفي هذا السياق نفهم لملذا كانت الصين
وليس أمريكا هي من صنعة أسرع كومبيوتر فائق في العالم.
من هذا وذلك وبتوظيف حقيقة أن النمو
الاقتصادي للدول الكبرى يعتمد بشكل محوري على اقتصاد المعرفة الناتجة من الابتكار
والبحوث العلمية فلهذا لا غرابة أن يطلق المجلس القومي الامريكي للاستخبارات صرخات
التحذير الصاخة في تقرير خاص (يتنبأ) بأن النفوذ السياسي والاقتصادي الامريكي قد
يتراجع بحلول عام 2025 ميلادية. وبهذا يصدق من ما قيل في السابق بأن نتائج جوائز
نوبل يمكن ان يستشف منها مستقبل السياسة الدولية ومتغيرات موازين القوى في عالم
الدول المتطاحنة والمتنافسة دوما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق