هدا الطبيب يقرأ في كتاب التشريح أم ديوان المتنبي ؟؟
د/ احمد بن حامد الغامدي
قبل أكثر من عشرة
أعوام تخمرت في ذهني فكرة كتابة مقال عن (توظيف الكيمياء في الشعر العربي) وهو ما
أثمر أخيرا نشر هذا المقال في مجلة (الفيصل الأدبية) وتصدرت رسمة موضوع المقال
غلاف تلك المجلة الثقافية للعدد المنشور في ذو القعدة سنة 1432 هـ. سبب استرجاع
شريط الذكريات هذا انني خلال الايام الماضية كنت ارغب أن أعيد تحقيق ما أنجزته في
سنوات لتأليف ذلك المقال المنشور واختصر الزمن لعدة اسابيع فقط لأنجز تأليف المقال
الحالي وذلك (لكي ألحق) ولو بأثر رجعي بالمشاركة في تكريم مهنة الطب والاطباء
بمناسبة (اليوم العالمي للأطباء) و (يوم الصحة العالمي) والتي مرت ذكراهما قبل أيام
قليلة مضت.
ما فاجأني حقا
أنه على خلاف ما تم في مقال (توظيف الكيمياء في الشعر العربي) لم أتمكن من حشد
شواهد شعرية كافية للتدليل على توظيف واستخدام الادباء لصورة مهنة الطب والاطباء
في شعر المديح والهجاء والغزل والرثاء والوصف بل
على العكس من ذلك وجدت أن أغلب الشواهد الادبية والابيات الشعرية تركز على توظيف
(اخفاق وفشل) الاطباء و (الاستعارة التشبيهية) لمثل هذا الفشل في الشعر ولهذا لولا
الملامة لكان عنوان هذا المقال المشاغب (اخفاق الاطباء في عيون الشعراء).
أنا كيميائي
بالمهنة ولهذا حرصت (وربما نجحت) في ايجاد أمثلة شعرية متعددة ومتنوعة للتوظيف
(الايجابي) للكيمياء في شعر المديح فمثلا حيث يصف الشاعر ممدوحة بأن له تأثير
الكيمياء في (تحويل) اوراق القصيدة إلى وَرِق (بفتح الواو وكسر الراء أي الفضة)
وذهب وبهذا يسعد حال الشاعر ويتحول من الفقر إلى الغنى وهذا نوع من التشبيه
والتوصيف الشعري الرائق والبديع. أما في حالة الطب فللأسف لم أجد إلا أبيات محدودة
البلاغة وضعيفة فنيا لمريض يمدح الطبيب الذي عالجه أو طلاب جامعة يمدحون أستاذهم
المتقاعد من كلية الطب (المحرج حقا أنه توجد قصيدة رائعة للشاعر الفلسطيني الكبير
إبراهيم طوقان بعنوان : ملائكة الرحمة مخصصة لتمجيد الممرضات وليس الاطباء).
التوظيف الأدبي
لإخفاق الاطباء
في مجال
الاستعارة الايجابية للطب في شعر الغزل قد يحاجج البعض بأحد أشهر ابيات العشق
والغرام وهو قول مجنون ليلى:
يقولون ليلى
بالعراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب
المداويا
لكن من وجهة نظري
المتواضعة أن الابيات الاكثر جمالا من الناحية الادبية لقيس بن الملوح كانت عندما
قام بتوظيف فشل الطبيب في علاجه من مرض الحب كنوع من الاستعارة الادبية لتوضيح شدة
وتمكن العشق منه ليس هذا وحسب بل أنه يصور الطبيب (الفاشل) في صوره منفرة:
ألا يا طبيب الجن
ويحك داوني فإن طبيب الأنس أعياه
دائيا
أتيت طبيب الأنس
شيخا مداويا بمكة يعطي في الدواء
الأمانيا
فقلت ومرضى الناس
يسعون حوله أعوذ برب الناس منك مداويا
وليس فقط قيس بن
الملوح الذي يأس من إمكانية الاطباء أن يشفوه مما هو فيه ولهذا التجأ للعرافين
والمشعوذين فعلى نفس النسق من اليأس نجد الشاعر العذري عروة بن حزام يطلب الشفاء
من عراف اليمامة:
فقلت لعراف
اليمامة داوني فإنك إن أبرأتني
لطبيبُ
فما بي من حمى
ولا مس جنة ولكن عمي الحميري كذوبُ
والمحزن حقا أن
عروة بن حزام وصل لقناعة تامة أنه لا شفاء له من غرام محبوبته عفراء لا بتدخل طبيب
الانس ولا حتى طبيب الجن
لو أن طبيب الإنس
والجن داويا الذي بي من عفراء ما
شفياني
فقالا : شفاك
الله، والله ما لنا بما ضنت منك
الضلوع يدانِ
من الامور
المعروفة في ممارسة مهنة الطب أن الاطباء (أحيانا) قد يقعون في أخطاء تشخيص
الامراض بسبب البساطة في الانخداع بظواهر الأمور وهذا ما تلقفه كبار الشعراء
لاستعارة (الاخطاء التشخيصية) في صميم القصيدة الشعرية ومن ذلك قول الشاعر العباسي
ديك الجن الحمصي وهو يعتب على الطبيب خطأه في تشخيص اصفرار جسمه بأنه محموم وليس
به إلا الغرام والعشق:
جس الطبيب يدي
جهلاً فقلت له إن المحبة في قلبي
فخل يدي
ليس اصفراري
لحُمى خامرت بدني لكن نار الهوى
تلتاع في كبدي
وهذا الشاعر
الفحل المتنبي يسخر بدوره من الطبيب الذي شخص سبب نحافة جسمه بداء أصابه بينما
المتنبي أعرف الناس بتشخيص هزاله وأنه بسبب الجود والاقدام:
يقول لي الطبيب
أكلت شيئاً وداؤك في شرابك
والطعامِ
وما في طبه أني
جوادٌ أضر بجسمه طول
الجمامِ
فإن أمرض فما
مرِضَ اصطباري وإن أُحمم فما حُم
اعتزامي
ويتكرر هذا الامر
(التشخيص الطبي الخاطئ) مع الفقيه والاديب البارز الامام ابن حزم الاندلسي الذي
يتعجل الطبيب في تشخيص علة نحول جسمه وما به إلا العشق العفيف:
يقول لي الطبيب
بغير علم تداوَ فأنت يا هذا
عليلُ
ودائي ليس يدريه
سوائي وربٌ قادرٌ ملك جليلُ
فأطرق باهتاً مما
رآهُ ألا في مثل ذا بهت
النبيلُ
وفي اعتقادي
الشخصي أن اسوء سخرية (وطقطقة) من اخطاء التشخيص الطبية هو ما تورده كتب النوادر
والطرائف التراثية من أنه كان في بغداد طبيب (فاشل) اسمه نعمان قال فيه بعض
الشعراء الظرفاء:
أقول لنعمان وقد
ساق طبهُ نفوساً نفيسات إلى داخل
الارضِ
أبا منذر أفنيت
فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون
من بعضِ
وحال السخرية
والاستهزاء كان كذلك مصير طبيب آخر من شاكلتهم يدعى عيسى بن نوح هجاه أحد الشعراء
بقوله:
عيسى الطبيب ترفّق فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك
إلا فراق جسمٍ لروح
وبعد (قصف الجبهة
هذا) قطعا سوف يتقبل الاطباء بأريحية نهي
أبو العلاء المعري (الطبيب المداويا) من الاسراع بأخبار مريضه بقرب وفاته فقد
يشفيه الله ويعافيه:
نعى الطبيبُ إلى
مضنى حشاشتهُ مهلاً طبيبٌ فإن
الله شافيهِ
وعلى نفس المنوال
غزل الشاعر السوري محمد الوراق بقوله:
وكم من مريضٍ
نعاهُ الطبيبُ إلى نفسه وتولى
كئيبا
فمات الطبيبُ
وعاش المريضُ فأضحى إلى الناس ينعى
الطبيبا
وفي المقابل قد
يقع الطبيب في خطأ في التشخيص قد يكون في البداية مفرح لكنه قد ينقلب لقمة المأساة
وهذا ما حصل مع الشاعرة المصرية عائشة التيمورية عندما بشرها الطبيب في البداية
الأمر أن ابنتها الشابة ذات الثمانية عشر ربيعا على وشك الشفاء من مرضها العضال
لكن سرعان ما توفت إلى رحمة الله وإذا الفتاة تخاطب أمها المكلومة:
جاء الطبيبُ ضحى
وبشر بالشفا إن الطبيبَ بطبهِ
مغرورُ
وصف التجرع وهو
يزعم إنه بالبرء من كل السقام
بشيرُ
أماه قد عز
اللقاء وفي غد سترين نعشي
كالعروس يسيرُ
ونختم أخيرا ذكر
الاخطاء الطبية بأبيات ابن الرومي:
غلط الطبيبُ على
غلطة موردٍ عجزت محالته عن الإصدارِ
والناس يلحون
الطبيب وإنما خطأ الطبيب إصابة الأقدارِ
وكالعادة يوجد
تلازم بين ذكر شعر ابن الرومي والبحتري فهما صنوان لذا وجب التنويه عن بيت الأخير
في نقد الاخطاء الطبية عندما يقول:
إذا ما الجرح
رُمّ على فسادٍ تبين فيه تفريطُ الطبيبِ
رزيةُ هالِكٍ
جلبت رزايا وخطبُ بات يكشف عن
خطوبِ
الطبيب في سياق
الوعظ
ما سبق كان
استفاضة شعرية في كيف استقبل الشعراء أخطاء الاطباء وتقصيرهم ولكن يبقى أن نشير
إلى أن أكثر صورة وظفها الشعراء للأطباء في قصائدهم هي صورة (الطبيب الضعيف أمام
سطوة الأقدار) ولهذا كثير ما يستخدم في شعر (المواعظ والزهد) فشل وضعف الطبيب من
رد المرض أو الموت عن نفسه هو قبل الآخرين وهذا من شأنه تنبيه الناس لهوان الدنيا
وسرعة تقلبها ومن أشهر الابيات في هذا المنوال رائعة الامام الشافعي :
إن الطبيب بطبه
ودوائه لا يستطيع دفاع مقدور
أتى
ما للطبيب يموتُ
بالداء الذي قد كان يبُر بمثله فيما
مضى
هلك المُدَاوِي
والمُدَاوَى والذي جَلبَ الدواء
وباعه ومن اشترى
وهذه الابيات
الحكيمة تذكرنا ولا شك بأبيات وموعظة الشاعر العباسي ابن نباته السعدي:
نعلل بالدواء إذا
مرضنا وهل يشفي من الموت الدواءُ
ونختار الطبيب
وهل طبيبٌ يؤخر ما يقدمه القضاءُ
وفي حالات كثيرة
لا يشفي الدواء من الموت كما لا يستطيع الطبيب رد الموت عن نفسه وهذا المعنى صاغة
ببلاغة ادبية فائقة عنترة العبسي بقوله:
يقول لك الطبيبُ
دواك عندي إذا ما
جسَ كفكَ والذراعا
ولو عرف الطبيبُ
دواء داءٍ يرُد الموت ما قاسى
النزاعا
وعلى ذكر عنترة
والطب لا يحسن بنا المغادرة قبل التذكير ببيته الشهير في نفس تلك القصيدة الخالدة:
حصاني كان دلالَ
المنايا فخاض غبارها وشرى وباعا
وسيفي كان في
الهيجا طبيباً يداوي رأس من يشكو
الصداعا
وبالعودة إلى ضعف
الطبيب عن دفع البلاء عن نفسه لابد أن أغلبنا قد سمع وتفاعل مع الابيات الرائعة
للشاعر المصري المعاصر إبراهيم بديوي:
قل للطبيب تخطفته
يد الردى من يا طبيب بطبّه أرداكا
قل للمريض نجا
وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من
عافاكا
وسبحان الله
وكأني بالشعراء يحومون حول هذا المعنى و (التشبيه) من الشاعر إبراهيم بديوي حديثا
وحتى الشاعر الجاهلي عدي بن زيد الذي يقول:
أين أهل الديار
من قوم نوحٍ ثم عادٌ من بعدهم
وثمودُ
وأطباء بعدهم
لحقوهم ضلّ عنهم سعوطهم واللدودُ
وصحيح أضحى يعود
مريضا وهو أدنى للموت ممن يعودُ
وقريبٌ منه قول
شاعر بغداد العباسي على بن الجهم:
كم من عليلٍ قد
تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعودُ
وختاما الخلاصة
من هذا وذاك أن تكل كل أمورك للمولى الحكيم القادر وتعلم أن الشافي هو الله وما
البشر والاطباء إلا أسباب كما قرر ذلك الفرزدق فكانت نصيحته:
يا طالب الطب من
داء تخوفه إن الطبيب الذي أبلاك
بالداءِ
فهو الطبيبُ الذي
يرجى لعافيةٍ لا من يذيب لك الترياق
بالماءِ
ينقل عن الامام
الشافعي رحمة الله قوله (لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب) وبالرغم
من كل هذا التبجيل من قبل الامام الشافعي للطب والاطباء إلى أنه هو القائل ايضا:
طلبوا لي طبيب
الورى وطلبت أنا طبيب
السماء
طبيبان هذا ليعطي
الدواء وذاك ليجعل فيه
الشفاء
على
كل حال بالرغم من أن الجعبة فيها عدد اضافي حاشد من الاستشهادات الشعرية حول الطب
والاطباء إلا أنني مجبر (لضيق المساحة) أن أتوقف هنا ولعل لنا إذا كتب المولى عز
وجل عودة للموضوع من زاوية أخر وبمقال خاص عن (صورة الاطباء في الروايات الادبية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق