الجمعة، 30 سبتمبر 2016

( علاقة المثقف بالسلطة بين الفتنة والافتتان )

المثقف المرضي عنه من قبل السلطة !!!
 
 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

(خلهم يقولو هجّ الجبان ولا يقولو كان شجاع الله يرحمه) حكمة بالإغريقي الفصيح لعل صداها تردد في ذهن فيلسوف اليونان أرسطو وهو يتذكر المصير المر الذي آل إليه معلمه الاكبر سقراط والذي بسبب نقده السياسي والاخلاقي للمجتمع حكمت عليه سلطة مدينة أثينا بالإعدام وبهذا استقر في روع أرسطو أنه بدل أن يفخر بلقب (المثقف الشهيد) فلا بأس أن يتنازل قليلا عن أخلاقياته الفلسفية ويتقبل لقب (مثقف السلطة) حيث دخل في خدمة الإمبراطور الاشهر الإسكندر المقدوني وعمل كمعلم ومربي له في شبابه.

بشيء من التجاوز يمكن الزعم أن قصة مثقف السلطة ارسطو (المفتتن) بالحاكم وقصة المثقف الطريد سقراط (المفتون والممتحن) من الحاكم يمكن من خلالهما تلخيص جدلية أزمة المثقف وعلاقته بالسلطة والحاكم. لا جدال أنه عبر القرون كانت ولا زالت علاقة النخبة المثقفة (أو أصحاب الأقلام كما وصفهم ابن خلدون) بالسلطة الحاكمة علاقة شائكة ومملؤة بمفارقات شتى  ومتناقضة ما بين الإقصاء والوصل والتنكيل والاحتفاء والشك والثقة. بقي أن نقول أننا نقصد بالمثقف (من يهتم بنشر المعرفة وتطوير الوعى) ومن هنا نعلم أن توصيف المثقف يتطابق بالضرورة مع توصيف: المفكر والفقيه والعالم والاديب.

المثقف المفتتن والتزلف للحاكم

ورد في الأثر النبوي الشريف (من لزم السلطان افتتن) ولا أصدق للتدليل علي تلك النبوءة الشريفة من فضيحة المحدث غياث النخعي عندما دخل على الخليفة العباسي المهدي والذي كان يلعب بطائر الحمام ولهذا روى النخعي حديث الرسول الكريم (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح) فتعمد الكذب في الحديث بزيادة (أو جناح) لكسب ود الخليفة فكافأه الخليفة بمبلغ كبير بالرغم من أنه يعلم كذبه ولم يتردد الخليفة في التعبير عن احتقاره لمثل هذا التزلف المكشوف. وقبل ذلك عندما تولى الخليفة الأموي يزيد بن عبدالملك الخلافة بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز أراد في بادئ الأمر أن يسير في الحكم على سيرة ذلك الخليفة الراشد ولكن بعد أربعين يوما فقط من بداية حكمه وكما يذكر المؤرخ الكبير ابن كثير (أتى أربعين شيخا فشهدوا ليزيد بن عبدالملك أنه ما على الخلفاء من حساب أو عذاب) ونتيجة لذلك تسبب مشايخ السوء هؤلاء في تثبيط الخليفة عن رغبته الصادقة. موقف مخزي ولا شك لبعض (فقهاء السلطان) الذين يزينون له الباطل ويخذلونه عن الحق ولهذا كثيرا ما نجد أن السلطان والحاكم  نفسه غالبا ما كان ينظر لهم بالاحتقار فمن ذلك أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لم يكن يجل من الفقهاء الذين يخالطونه إلا شيخ المعتزلة عمر بن عبيد فكان الخليفة يسخر منهم بقولة (كلكم يمشي رويدْ ... كلكم طالب صيدْ ... غير عمرو بن عبيدْ).

للأسف لم يكن بعض فقهاء السلاطين هم فقط من باعوا كرامتهم طمعا في ذهب المعز وخوفا من سيفه فهذا شاعر العربية الأوحد أبي الطيب المتنبي بالرغم من أنفته المشهورة إلا أنه كان مهيض الجناح أمام ولي النعم سيف الدولة الحمداني. من المعيب في تاريخ الادب العربي ما حصل مع المتنبي عندما كان يلقي قصيدته الرائعة (واحر قلباه) فبسبب حسد منافسه الشاعر ابو فراس الحمداني أخذ يشوش على المتنبي أثناء إلقاء قصيدته عن طريق الاعتراض على بعض ابياتها وأن افكارها مسروقة من شعراء آخرين وهنا ضجر الأمير سيف الدولة من كثرة المناقشات بين المتنبي وأبن عمه أبي فراس الحمداني فما كان منه إلا أن قذف المتنبي بقارورة الحبر التي كانت امامه وهنا خلد التاريخ الرد المهين والمتخاذل من المتنبي:

إن كان سركم ما قال حاسدنا      فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ

وفي طبقة المفكرين والفلاسفة نجد كذلك هذا النوع من الانبطاح والتملق لصاحب السلطة ومن أبرز ما يمكن ذكره في هذا الشأن أنه عندما أمتدح (المتزلف) أبو تمام الأمير أحمد بن المعتصم بقصيدته السينية الذائعة الشهرة والتي يصف الأمير بأنه:

إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ         في حلم أحنف في ذكاء إياسِ

يقال أنه قاطعة الفيلسوف أبو يوسف الكندي محتجا بأن (أن الأمير فوق ما وصفت ولم تزد أن شبهته بأجلاف العرب) بالرغم من أن البيت لمذكور من أروع وأعمق صنوف المدح. وفي حادثة أخرى نجد ان الكندي بعد أن تزلف للابن الامير أحمد بن المعتصم  يتزلف ويتملق الأب الخليفة المعتصم بقولة (أطال الله بقاءك يا ابن ذرى السادات وعرى السعادات الذين من تمسك بهديهم يسعد في الدنيا ودار الأبد) وكأن الخليفة نبي مرسل وهادي منزل وليس حاكم مستبد.

أزمة المثقف في ظل صاحب السلطة

الكثير من الشواهد التاريخية والسياسية تؤكد حقيقة أن (الثقافة والسلطة خطان لا يلتقيان) ومن منطلق اعتبار المفكر العالمي إدوارد سعيد بأن المثقف شخص مهووس بالنقد لذا كثيرا ما نجد أن النواة الصلبة للمثقفين غالبا ما تجنح أن تكون معارضة للسلطة. ومن هنا لا عجب إذا أن نجد أن صاحب السلطة والحاكم المستبد ينفر من (المثقف الثوري) ويصفه بكل نقيصة وعيب لدرجة أن الامبراطور الفرنسي لويس السادس عشر اتهم الكاتب الفرنسي فولتير والفيلسوف جان جاك رسو بقوله (لقد دمر هذان الرجلان فرنسا !!!).

صحيح أن سبب اضطهاد السياسي للمثقف لا يحتاج لها تعليل أو تفسير لأنها بكل بساطة من (طبائع الاشياء) إلا أن ما تبقى من المقال سوف نخصصه لاستعراض سريع لأبرز المآسي التي نكل بها (أصحاب السلطة) على (أصحاب الأقلام) وأهم مسارات واسباب الاضطهاد والتي تشمل انزعاج وحقد السلطوي من المثقف ولكن بعد استقراء متوسع وجدت مسارات أخرى قد لا يفطن لها منها:

أن يكون للمثقف طموح سياسي قاتل حيث يطمع في أن يوسع من دائرة نفوذه المجتمعي والسياسي وبهذا يتصادم مع صاحب السلطة الاصلية مما يتسبب في قتله كما حصل مع الاديب الوزير البارز ابن العميد الذي قتله السلطان عضد الدولة عندما شعر أنه يتأمر عليه وهو نفس مصير الاديب الوزير ابن ملقة الذي قتل في زمن الخليفة العباسي الراضي بالله. الطريف في الأمر أنه في الشعر العربي اشتهر ثلاثة شعراء بإبداعهم ثلاث قصائد لامية تنتهي بحرف الروي حرف الام وهم الشنفرى صاحب للامية العرب والطغرائي صاحب لامية العجم وأبن الوردي صاحب البيت المشهور:

جانب السلطان وأحذر بطشه      لا تعاند من إذا قال فعل

وبالرغم من التقارب الشعري بين الطغرائي وابن الوردي إلا أن الطغرائي لم يمتثل لهذه النصيحة فبالرغم من أنه كان وزيرا للسلطان السلجوقي مسعود بن محمود إلا أنه انشق عليه وناصر آخاه ولهذا قتل لاحقا لما فشلت مغامرتهما السياسية الخطيرة.

وعلى ذكر مناصرة الاديب أو المثقف للحركات والمعارضة السياسية المنشقة عن السلطة الاصلية تجدر الاشارة إلى أن الشاعر الاموي الاعشى الهمداني خرج مع ابن الاشعث عندما ثار ضد الحجاج ولهذا قتله الحجاج عنما اندحرت الثورة وكما هو معلوم كان القتل مصير العالم الكبير سعيد بن جبير الذي كان كذلك ممن يحرض على الثورة على الحجاج. (جانب السلطان وأحذر بطشه) انطبق هذا التحذير بشكل صاعق ومحزن في حق الامام المحدث الكبير أحمد بن نصر الخزاعي الذي شارك في الخروج على الخليفة العباسي المهدي وعندما تمكن منه قام الخليفة بقتلة وبتعذيبه بنفسة حيث قتلة (بالصمصامة) وهي صفيحة من الحديد مثبت بها مسامير حادة.

المسار الثاني الذي قد يتعرض (ويتحرش) فيه المثقف بصاحب السلطة هو مسار شخصي وغير سياسي في الغالب فمثلا يقال أن الشاعر الجاهلي الشاب طرفة بن العبد تغزل بأبيات شعرية بأخت ملك الحيرة عمرو بن هند مما جعله يكيد له ويتآمر على قتلة وهو نفس مصير الشاعر الجاهلي المنخل اليشكري الذي قيل بأنه كان على علاقة غير اخلاقية مع زوجة الملك النعمان بن المنذر الذي قتله وقتل كذلك لأسباب أخرى اثنين من اشهر شعراء الجاهلية وهما عبيد بن الابرص وعدي بن زيد. وقديما قيل (فتش عن المرأة) ولذلك تذكر كتب التاريخ أنه بعد أن كان قيصر الروم متحمس لمساعدة الشاعر النجم امرؤ القيس أنقلب عليه وأهداه حله مسمومة تسببت في موته والسبب في ذلك أن القيصر علم بوجود علاقة عاطفية بين امرؤ القيس وابنته التي عشقت الملك العربي الضليل. وفي تاريخ الأدب العربي يقال أن الشاعر الاموي الوسيم وضاح اليمن وقع بكل تهور في غرام أم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبدالملك ووصل به التهور وطيش الشباب أن تغزل (وشبب) بها في عدد من قصائده المشهورة مما أوصله للخاتمة المنطقية أن تم تصفيته في ظروف غامضة.

 أما الحماقة المتهورة من قبل المثقف ضد صاحب السلطة أن يكون سبب مقتل الشاعر أو الاديب المثقف أنه قام بالسخرية وهجاء الحاكم المستبد وهذا هو سبب قيام الخليفة العباسي المهدي بقتل الشاعر الضرير بشار بن برد وكذلك قام الحجاج المبير بقتل الشاعر المشهور الأعشى الهمداني وذلك لأنه هجاه بعد قصائد عندما خرج عليه مع عدد من العلماء والشعراء أثناء ثورة ابن الاشعث.

ومن المسارات الأخرى لتعمد السلطان المستبد البطش بالمثقف وصاحب الفكر يعود غالبا أن الحاكم يحرص أن يكسب تأييد ومناصرة شرائح فاعلة من المجتمع يكون لها عداء وشحناء مع المثقف والمفكر فلهذا لا يتردد السلطان المستبد عن البطش والإقصاء بالمثقف لكي يرضي تلك الشرائح ذات النفوذ. ومن هنا نفهم لماذا استجاب الخليفة المعتصم لوشاية المعتزلة ضد امام أهل السنة أحمد بن حنبل مما جعله يأمر بحبسه وجلدة وكذلك استمع حاكم قرطبة المنصور بن يعقوب للوشاية ضد الفيلسوف ابن رشد وامر بإحراق كتبة  ونفاه إلى مراكش وهو نفس ما تعرض له الفقيه الكبير ابن حزم الاندلسي حيث استطاع خصومة من تأليب أمير اشبيلية المعتضد بن عباد عليه فأمر بهدم دوره ومصادرة أمواله وحرق كتبه.

بقي أن نقول أنه كثير ما تكرر في التاريخ الاسلامي أن نجد الحاكم المستبد يحرص أحيانا على أن يظهر وكأنه مدافع عن الدين ومنافح عن ثوابت الامة والمجتمع ولهذا يبطش ببعض المثقفين الذين قد لا يخلون من الفساد الفكري ولهذا قُتل ابن المقفع بتهمة (الشعوبية) أما التهمة الهلامية (الزندقة) فكانت الحجة السهلة لقتل أو تشريد المخالفين من الادباء مثل صالح بن عبدالقدوس ولسان الدين بن الخطيب وأبي حيان التوحيدي وابي العلاء المعري. ويبقى في التاريخ شخصيات تعرضت للقتل بسبب الانحراف الشنيع الذي أحدثته في عقائد الناس من مثل الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي والحلاج وابن الراوندي وغيرهم وهؤلاء وإن كانوا على فساد ديني وفكري عظيم لكن أكاد أجزم أنهم قتلوا بسبب السياسية وليس بسبب الدين ولكن تلك قصة أخرى تحتاج إلى وقفة مستقلة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق