الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

( صراع ديكة العلم )

صراع ونزاع العلماء ...حقيقة علمية صادمة
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
الظلم من شيم النفوس كما قرر ذلك خالد الذكر المتنبي وليس كل الظلم قد يبلغ مداه في التعدي والأذى وإنما قد يقف بعضه عند مستوى الجور في الخصومة والرعونة في المعاملة وهاتان المنقصتان قد ينزلق إليهما البر والفاجر. والمحزن والمخجل على حدا سواء أن بعض الاخيار حتى من العلماء والدعاة قد تغلب عليهم طباعهم البشرية وينجرفون خلف دواعي الحسد واللجج في الخصومة مع الاقران مما يفضي بهم إلى منقصة الافتراء وتشوية سمعة منافسيهم حتى ولو كانوا من صلب بيئتهم الدعوية والعلمية لدرجة أن حبر الأمة الصحابي الجليل عبدالله بن عباس أعلنها صريحة (لا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة). لكن إذا كان أهل الفقه والنظر التراثي قد يختل حكمهم على المنافسين بالرغم من ورعهم الشرعي المشهود فهل توجد هذه الظاهرة التعيسة في اوساط أهل العلوم البحتة والابحاث التقنية الذين يغلب عليهم في العادة التجرد في الاحكام والعقلانية في اتخاذ القرارات والمواقف وهي ما تسمى (الروح العلمية المنضبطة).
في الوقت الحالي ربما يعتبر كتاب العالم الانجليزي اسحاق نيوتن الذي هو بعنوان (المبادئ الرياضية Principia) هو أهم كتاب علمي قديما وحديثا ولعل هذا الكتاب من أكثر الكتب العلمية تأثيرا في تاريخ البشرية ومع ذلك عندما تقدم نيوتن في عام 1686 بطلب إلى الجمعية الملكية العريقة بلندن  لنشر وطباعة هذا الكتاب رفض مجلس الجمعية الملكية المكون من أشهر العلماء (والمفروض أنهم من أكثرهم حكمة وتجرد علمي) هذا الطلب بحجة أنه لا تتوفر أموال كافية في ميزانية الجمعية. الغريب في الأمر حقا أن نفس هذا المجلس وكنوع من النكاية بنيوتن قام عوضا عن نشر كتاب نيوتن باستخدام الميزانية المتوفرة لدية لطباعة كتاب آخر تافه عن تاريخ الاسماك.
من الناحية المبدئية قد يبدو أن نيوتن شخص مظلوما هنا لكن في الواقع ينطبق عليه بالتمام والكمال المقولة الشهيرة بعد تعديل طفيف لها (قاتل الله الحقد ما أعدله .. بدأ بصاحبه فقتله) حيث أن ما حصل مع نيوتن كان جزاءً وفاقا لصلفه وسوء طباعه ونزقه في الخصومة والتنافس غير الشريف بل وربما السرقة العلمية من الآخرين حيث على سبيل المثال توجد شكوك بأنه سرق بيانات فلكية من أحد علماء مرصد غرينتش الفلكي. في الواقع أشتهر نيوتن طوال حياة بحدته في التعامل والنزاع مع الأقران والمنافسين وبالخصوص الذين دخل معهم في صراع على أثبات اسبقية التوصل إلى اكتشافات علمية محورية في تاريخ العلم مثل صراعه مع العالم الانجليزي الموسوعي روبرت هوك حول من اكتشف منهما أولا قانون التربيع العكسي الذي استخدم في فهم ظاهرة الجاذبية.
أما نذالة وحقد نيوتن الصارخة فأبرز ما تمثلت في صراعه مع عالم الرياضيات الالماني الكبير لايبنيز حيث ادعى كلا منهما أنه هو من توصل لوضع علم التفاضل والتكامل في الرياضيات. الطريف في الأمر (والمخجل في نفس الوقت كما سوف يتضح) أنه نتيجة لحالة التنازع والخصام بين نيوتن ولايبنيز حول أسبقية أي منها في التربع على مجد عرش علم الرياضيات قامت الجمعية الملكية البريطانية سالفة الذكر بتشكيل لجنة للتحقيق والتدقيق في هذا النزاع العلمي والمخجل حقا أن هذه اللجنة كان تقريرها في صف نيوتن لا لشيء إلا لكون نيوتن نفسه كان هو رئيس هذه اللجنة (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم) حيث فرض نيوتن نفسه بكل وقاحة لتولى رئاسة تلك اللجنة لأنه في تلك الفترة كان يشغل منصب رئيس الجمعية الملكية نفسها كما أنه استغل سلطاته في إصدار تقرير معيب يتهم فيه لايبنيز بالسرقة وانتحال افكار نيوتن. الجدير بالذكر أنه بعد فترة من الزمن توفي لايبنيز وهنا عبر نيوتن بكل نذالة بأنه شعر بمتعة كبيرة حين حطم فؤاد خصمه.
أعلم مسبقا بأنني قد أكون تسببت بصدمة لبعض القراء الكرام بكشف المستور عن بعض ملامح الجوانب المظلمة في حياة بعض العلماء المشهورين الذي غالبا لا نعرف عنهم إلا الآفاق المشرقة في شخصياتهم وتضحيتهم في مجال العلم. لكنني أردت أن أدلل على الطبيعة البشرية لهم فمنهم الحقود مثل نيوتن ومنهم من تورط في فضيحة جنسية مثل مدام كوري ومنهم الداعر اخلاقيا مثل الفيزيائي الشهير شرودنجر أما من وجهة نظري فربما يكون أكثرهم سواء هو عالم الرياضيات اليوناني الأشهر فيثاغورس بسبب خطيئته الكبرى في التحريض على القتل.
 من المعروف عن فيثاغورس والعديد من تلامذته اعتقادهم الكبير في أهمية علم الرياضيات وأنها اساس الجمال وكانوا يعتقدون بقدسية القوانين الرياضية وان العدد هو معيار كل الاشياء. ولهذا عندما توصل أحد تلاميذ فيثاغورس والذي يدعى هايباسوس إلى اثبات ان جذر العدد اثنين √2 هو رقم غير حقيقي وهذا ما تسبب في اثارة هيجان فيثاغورس وتلاميذه استنكارا ورفضا للزعم القائل بوجود شيء قبيح مثل الاعداد غير الحقيقة ولهذا قام تلاميذ فيثاغورس (يقال بتحريض مباشر منه) بإغراق هايباسوس (الزنديق علميا والمهرقط رياضيا) في البحر.
وعلى ذكر سيرة ارتكاب جريمة القتل في حق من يختلف مع بعض العلماء في الافكار العلمية تجدر الاشارة للحادث المأساوي الذي حصل مع العالم الفرنسي لافوازية الملقب بأبو علم الكيمياء الحديثة. ففي قمة المجد العلمي للكيميائي لافوازية (بسبب اكتشافه لعنصر الأوكسجين) تقدم عالم شاب يدعى  جين مارات إلى أكاديمية العلوم الفرنسية بطلب الحصول على عضويتها وشفع طلبه ببحث قدمه لتفسير عملية الاحتراق الكيميائي حيث أدعى هذا الشاب أنه رصد عنصر النار. وبحكم ان لافوازية صاحب الاكتشاف العلمي عن دور عنصر الاوكسجين في عملية الاحتراق ليس فقط عارض منح العضوية لجين مارات لكنه أيضا انتقده بشكل مهين مما جعل الشاب يحقد بشدة على لافوازية. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية كان جين مارات أحد الاشخاص المتنفذين فيها وعندما تم اعتقال  لافوازية وقدم للمحاكمة حرص مارات أن يكون أحد القضاة الذين سوف يحاكمون لافوازية ولا هذا لا غرابة أن يتم إعدام لافوازية فورا وفي نفس اليوم الذي تم محاكمته فيه لأنه كما  قال قاضي آخر عن لافوازية (إن الثورة ليست في حاجة إلى العلماء).
يقول الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني الشهير برتراند راسل (عندما يختلف أثنين من العلماء فانهما لا يلجأن الي السلاح بل ينتظران مزيد من الادلة للبت بالقضية) وبعد أن عرفنا أن بعض العلماء قد يساهم بقتل خصمه من العلماء بشكل أو آخر يبدو لنا مقولة الفيلسوف برتراند راسل السالفة هي نوع من (السفسطة الفارغة). الغريب في الأمر أن الصورة المجازية التي أطلقها برتراند راسل كتمثيل لأمر مستبعد في دنيا العلم حصلت فعلا على أرض الواقع. فقد تصل حدة النقاش والجدل العلمي بين العلماء لدرجة القتال بالأسلحة أو الدعوة للنزال والمبارزة بالسيوف  ومن افضل الامثلة على ذلك ما حصل مع عالم الفلكي الدنماركي الشهير تايكو براهي والذي يعتبر أحد أهم مشاهير علماء الفلك لكل العصور، نجده يدخل في خلاف مع أحد منافسيه حول أحقية أي منها في أسبقية اكتشاف معادلة رياضية معينة وهنا لم يحسم الاختلاف انتظار أدلة إضافية وإنما تحول الخلاف إلى شجار ومبارزة بالسيوف sword duel نتج عنها أن تم تشويه وجه تايكو براهي حيث جدع أنفه مما جعله طوال حياته يستخدم أنف صناعي من الذهب والفضة. وفي منتصف القرن الثامن عشر أندلع جدال علمي عنيف بين طبيبين بريطانيين حول سبب مرض الحمى الصفراء وقد أنتهى ذلك الخصام الطبي بحصول مبارزة بالسلاح بينهما انتهت للأسف بمقتل كلا من هذين العالمين المتعصبين لآرائهما العلمية.
صحيح أن بعض العلماء القدامى كان يحسم حدة النقاش مع الاقران باللجوء والاحتكام للسلاح لكن غالبية العلماء المعاصرين كانوا أكثر (عقلانية فكرية) وأكثر (لباقة علمية) فيستعيضون عن السيوف والمسدسات بالتهارش اللفظي والشتائم والصراخ. ولا يتسع المقام لذكر تفاصيل واسباب النزاع لكن يكفي أن نشير فقط أنه نتيجة للشحن والتوتر اثناء النقاش (والجدال العلمي) يصرخ عالم الفيزياء النمساوي باولي (الحاصل على جائزة نوبل عام 1945) بقوله (أخرس أنت أحمق) حيث كان يوجه كلامه لأحد اهم علماء الفيزياء في القرن العشرين وهو الدنمركي نيلز بور (الحاصل على جائزة نوبل عام 1922) وكذلك لم يسلم منه زميل آخر هو عالم الفيزياء الالماني هايزنبرج (الحاصل على جائزة نوبل عام 1932) أذ أهانه بقوله: أنت غبي بشكل كامل أما استخفاف وتحقير باولي لأهم شخصية علمية في التاريخ الحديث وهو عالم الفيزياء الاسطورة اينشتاين فكانت إهانة مخففه إذا كان تعليقه لإحدى الافكار العلمية التي سمعها اثناء حضوره لمحاضرة لأينشتاين (كما تعلم بعض افكار اينشتاين ليست غبية جدا).
ولعلنا نختم حديثنا عن صراع الديكة بين العلماء بذكر مثال آخر لما يمكن أن يسمى (حوار الطرشان) بين العلماء وهو مثل معبر يعكس أن العلماء والمخترعين حتى وإن كانوا عباقرة إلا أنهم بشر تصدر منهم الحماقات والطيش فكما يقال (بين العبقرية والجنون شعره) ولهذا يستحق بعضهم وبجدارة وصف (العالم الأحمق  mad scientist). حدث في عام 1958 أن القى العالم النمساوي العصبي سالف الذكر باولي محاضرة علمية في أمريكا حضرها عدد كبير من مشاهير العلماء ممن حصلوا على جائزة نوبل. وعندما انتهت المحاضرة طُلب من عالم الفيزياء نيلز بور أن يعلق على المحاضرة فكان أن قال بأن أفكار ونظرية باولي الاساسية هي أفكار مجنونة ولكنها ليست مجنونة بدرجة كافية .
الغريب في الأمر أنه في تلك الفترة كان توصيف نظرية ما بأنها مجنونة crazy لا يعتبر قدحا فيها وإنما دلالة على أنها تأتي بشيء غريب ومثير ولهذا نجد أن الفيزيائي باولي (المجنون) يعترض ويصر على أن نظريته العلمية مجنونة بدرجة كافية فما كان من نيلز بور إلا أن اعترض مرة ثانية بأنها غير مجنونة بدرجة كافية. وهنا أندلع صراع الديكة وحوار الطرشان حيث أخذ باولي ونيلز بور يدوران حول طاولة المحاضرات وهما يتهارشان ويصرخان في وجه بعضهما البعض: أحدهما يقول أنها نظرية ليست مجنونه بشكل كافي والآخر يرد عليه و (يدافع) عن نظريته ويصفها بأنها نظرية مجنونة بشكل كافي وتحت استغراب ودهشة كاملة من الجمهور والعلماء استمر هذين العالمين الاحمقين يدوران حول الطاولة لفترة من الزمن وهما يهذيان بهذا الكلام السخيف وتلك الحركات الصبيانية الطائشة.
بقي أن نقول أن أغبى واغرب نزاع وخصام بين العلماء هو ما دفع بعض العماء أن يرفضوا أن يستلموا ويقبلوا جائزة نوبل إذا كان خصومهم من العلماء سوف يكرمون معهم ولكن هذه قصة أخرى سبق أن وعدنا بأن نفردها وغيرها كثير بمقالة منفردة عن عجائب وغرائب وفضائح جائزة نوبل ولعلها تجد وقت مناسب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق