الخميس، 8 سبتمبر 2016

( رسائل من موقع معركة هزيمة نابليون بونابرت الأخيرة )

إطلالة على موقع معركة واترلو التي هزم فيها نابليون
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي

يتفق الجميع تقريبا أن نابليون بونابرت أحد اشهر القادة العسكريين في التاريخ القديم والحديث لدرجة أن الرائد العسكري الامريكي مايكل لاننج في كتابه الموسوعي ( القادة العسكريين المائة The Military 100 ) كاد أن يجعله أعظم القادة العسكريين على الاطلاق لكنه وضعه في الترتيب الثاني وأعتذر عن جعله في المركز الأول بسبب هزيمته في معركة (واترلو) أشهر المعارك الحربية على مر العصور والتي أتيحت لي الفرصة مؤخرا ليس فقط بزيارة موقع ومكان المعركة ولكن ايضا كان التوفيق في أن تمت الزيارة في توقيت استثنائي حيث تزامنت زيارتي لها مع انعقاد الاحتفالات العالمية بالذكرى المئوية الثانية (لأم المعارك الحربية) التي غيرت مسار التاريخ البشري كما يقال.

الغريب في الأمر أنني وبعض الأحباب كان التوجه الاولي لنا أن نمضي اجازتنا السياحية الصيفية في المكسيك ولكن لأسباب متداخلة تم العدول عن ذلك والاستعاضة عنها بجولة سياحية مصغرة لبعض الدول والمدن الاوروبية. ولقد كان من أقوى الدوافع لي لزيارة المكسيك الاطلاع المباشر على موقع حضارة (شعب المايا) في أمريكا الوسطى وخصوصا موقع اهرامات الازتك الاثرية الضخمة بالقرب من مدينة مكسيكو ستي ومن اسباب  ذلك رغبتي بالاطلاع المباشر لأثر السلوك البشري السلبي ونتائجه الكارثية احيان والمتسببة في اندثار الحضارات. فبحكم تدريسي لطلبة الجامعة في مجال الكيمياء والاثار السيئة للنشاط البشري على البيئة كان من الملائم (أن أتباهى) أمام الطلبة بذكر مثال حي  لتأثير التلاعب بالبيئة (عن طريق قطع الغابات) وتسبب ذلك في حصول تغيرات مناخية حادية قد تؤدي إلى فترات جفاف طويلة وهو بالضبط ما تسبب في اندثار وزوال حضارة شعب الازتك في المكسيك.

 لكن بدلا من التفكر والتأمل في مصير اندثار حضارة شعب المايا والتمتع  بالتقط الصور من فوق هرم الشمس الشاهق في المدينة الاثرية (تيوتيهواكان) بالقرب من عاصمة المكسيك أنتهى بي الامر بالتقاط الصور من أعلى قمة الهرم الترابي الاصطناعي المطل على موقع معركة واترلو بالقرب من مدينة بروكسيل عاصمة بلجيكا والتفكر ليس في اسباب اندثار الحضارات الانسانية ولكن في خطورة الزعامات الفردية المغامرة التي بحمقها وتسرعها قد تتسبب في زوال دول وأمم.

بمختصر العبارة كانت معركة واترلو هي معركة الوقفة الاخيرة للجنرال العسكري الاسطورة نابليون بونابرت قائد الجيش الفرنسي أمام جيوش الدول الاوروبية المتحالفة وعلى رأسها بريطانيا وروسيا والنمسا وسطرت وقائع هذه الهزيمة التاريخية في عام 1815 في منطقة  ريفية منبسطة بالقرب من مدينة واترلو Waterloo في ضواحي العاصمة البلجيكية بروكسيل. وبعد تلك الهزيمة المنكرة تم خلع الامبراطور الخاسر نابليون من عرشه ومن ثم تم نفيه وسجنه في جزيرة سانت هيلانة في أقاصي المحيط الاطلسي ليموت كمدا وقهرا بعد ذلك بست سنوات فقط وبهذا ينطبق عليه بحق اسمي قصتي الاديب الكولومبي غابرييل ماركيز رواية (الجنرال في متاهته)  ورواية (خريف البطريق).

بالطبع حالة الوقوف على قمة الهرم الترابي المشرف على موقع معركة واترلو ليس موضع ومقام مناسب لاستعراض المعلومات الجغرافية أو المفارقات الروائية الادبية ولكنه بالنسبة لي كان موقف بحق للتأمل والتدبر واستلهام الدروس والعبر والتي منها:

1-) صحيح أن هزيمة معركة واترلو كانت بمثابة المهانة والذل للجنرال والامبراطور المتغطرس نابليون ولكنها كانت كذلك استنقاص واستصغار للشعب والامة الفرنسية والتي حتى يومنا هذا ما زالت تستشعر مرارة ذلك الانكسار والهوان العسكري المدوي. ولهذا عندما اقيمت قبل اسابيع قليلة الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لهذا المعركة التاريخية الحاسمة حضرها لفيف من ملوك وملكات وأمراء ورؤساء حكومات العديد من الدول الاوروبية بينما الأمة الفرنسية الجريحة لم يمثلها على استحياء إلا سفير فرنسا في بلجيكا !!!. 

الهوان والصغار الذي يتسبب فيه قائد المعركة أو الرئيس السياسي المستبد لا ينحصر اثره في خاصة نفسه بل ينعكس على أمته وشعبه وهذا ما ذاقته الامة العربية من الخليج إلى المحيط بهزيمة (القائد الملهم) جمال عبد الناصر في (نكسة !!!) حرب 67 المذلة أمام الصهاينة.

الجدير بالذكر أنه ومنذ القدم مقرر في حس الشعوب أن العيوب الشخصية في حياة القائد العسكري تؤدي للكوارث وهذا من شأنه أن يجر الويلات له ولجنوده وأمته وهذا ما تفطن إلية  القائد العسكري الصيني سن تسو في كتابه ذائع الصيت (فن الحرب) حيث قرر أن هنالك خمس خصال خطيرة في جنرالات الحرب عد منها (الذين تصيبهم أوهام العظمة يمكن أن يتم احتقارهم) وباحتقارهم احتقار للشعوب التي تولوا قيادتها.

2-) السبب الرئيس في الشعور بالمهانة من جراء حصول هزيمة عسكرية واحدة يعود بكل بساطة (لانهيار الأسطورة) وبهذا تفقد الشعوب والامم رصيدها المعنوي وتدخل مرحلة التيه والضياع وهذا راجع بشكل رئيسي وجذري عندما توكل الأمة أو الشعوب كامل زمام قيادتها لشخص واحد يكون بمثابة الزعيم والقائد والامل والمخلص. ولخطورة هذه الفكرة القاتلة وعيت الشعوب والامم الاوروبية الدرس تماما فكما وصف سابقا الصحابي الجليل عمر بن العاص الروم بأن من مزاياهم بالمقارنة مع بقية الشعوب بأنهم ( ... أسرعهم إفاقة بعد مصيبة ...وأمنعهم من ظلم الملوك ) ولهذا في التاريخ الحديث في الغالب لا تجد شعب أوروبي غربي يوكل قيادته لشخص واحد ولهذا لم تحصل هزائم كبيرة نكراء منذ عقود للشعوب الديمقراطية التي تحجم حكم الفرد (وتمنع تماما حكم العسكر).

والاستثناء  الواضح من ذلك وهو تعرض الشعب الالماني والشعب الايطالي لهزائم منكرة بسبب تسليمهما لزمام وخطام القيادة فيهما للطغاة والمستبدين من شاكلة هتلر النازي وموسيليني الفاشي. بل أننا نجد أنه حتى في التاريخ الامريكي المعاصر كان لنفوذ (رجالات العسكر) أثر سياسي مربك وهدام لدرجة أنه ربما كانت الولايات المتحدة وحلفائها تمكنت بنجاح أكبر من تجاوز فخ طاحونة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي وحلفائه لو كان الرئيس الامريكي في فترة الستينات شخصية مدنية مسالمة بدلا من تولي الجنرال ايزنهاور (القائد الاعلى لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية) لمنصب رئيس الولايات المتحدة الامريكية .

3-)  بقي أن نقول أن لحظة الانكسار بالهزيمة الساحقة والنكراء في الغالب لا تأتي فجأة ولكن تسبقها ارهاصات واشارات محذرة منها ولكن بسبب حكم الفرد المستبد يتم تجاهل تلك التحذيرات كنتيجة حتمية لحقيقة أن حكم الفرد يتميز غالبا بالرعونة والتهور والعناد. فهزيمة نابليون الصاعقة والنهائية في موقعة واترلو سبقها حماقات وزلات سياسية واقتصادية وعسكرية للحاكم بأمره المسيو بونابرت لم تفقه من غيه وتردعه عن رعونته. فزلاته السياسية التي اضعفت ملكة كان من أشنعها قيامه بتعيين ثلاثة من أخوته ملوكا علي بعض الدول الاوروبية أما طيشه الاقتصادي فحماقته الغريبة ببيع ولاية لويزيانا في أمريكا الشمالية بثمن بخس للامريكان أما ثالثة الاثافي وقاصمة الظهر فهو تعرضه لنكسة وانكسار عسكري مروع بتهوره الاحمق في عام 1812 بالاندفاع والانجرار للتوغل في الاراضي الروسية مما اسفر في النهاية عن شبه هزيمة مدوية وخسارته لتسعة أعشار جيشه الجرار المسمى (الجيش الكبير) الذي بلغ تعداده نصف مليون مقاتل تسبب نابليون برعونته وعناده في الفتك بالغالبية الساحقة منهم بسبب زمهرير روسيا المريع (الجنرال الثلج كما وصفه رجل الاقدار نابليون).

4-) والرسالة البديهية الاخيرة أنه إذا سجل التاريخ وقائع هزائم عسكرية مزلزله لقادة وحكام وجنرالات محنكين وذوي خبرة إدارية وحربية عالية مثل صاحبنا نابليون وروميل ثعلب الصحراء وشهيد البلاط عبدالرحمن الغافقي وهانيبل ذو الافيال والسلطان الغوري آخر المماليك المحترمين وريتشارد قلب الاسد منافس صلاح الدين وسبارتكاوس العبد الروماني والملك الفارسي داريوس الثالث طريد الاسكندر الاكبر والمغامر والاسكتلندي الثائر وليم والاس والخليفة سليمان القانوني المتراجع عن اسوار فيينا فمن أخبار هؤلاء يصح التذكير بالحكمة الخالدة (العقال من اتعظ بغيره) فإذا اندحر القائد المحنك والداهية فما هو مصير سفهاء وحمقى العرب المعاصرين كالقذافي وبشار والحوثي ممن ران على قلوبهم الكبر والعناد فأعمى بصائرهم عن مصيرهم المحتوم بالهزيمة والعار والشنار ولو بعد حين !!!

 وفي الختام وعلى ذكر طغاة ومجرمي الحروب من الحكام العرب من شاكلة القذافي وبشار والمالكي والحوثي والمحروق اليمني فيا الله كم الشعوب العربية مشتاقة للحظة التشفي بحصول الهزائم المذلة لهم وبالتالي سوقهم لمحاكمات الشعوب أو على الاقل عرضهم على محكمة الجزاء الدولية في مدينة لاهاي الهولندية. ولكن ما أسهل الاحلام وما أمر الواقع الاليم فبعد أن انتقلت مع الرفقة الكريمة من مملكة بلجيكا إلى مملكة هولندا الملاصقة توجهنا لمدينة لاهاي الشهيرة وكان من أبرز ما رغبنا في مشاهدته هو مقر محكمة (العدل) الدولية ومبنى محكمة (الجزاء) الدولية الشهيرة. وبالرغم من كثرة من سألنا من أهل البلد الاصليين ومن الجالية العربية والاسلامية المقيمة في هولندا وتأكيد الجميع أن موقع المحكمة قريب وسهل المنال منا وواضح المعالم إلا أننا فشلنا في الوصول إليها !!! وبهذا تفوق الغرب علينا مرة أخرى فهو يعرف بالضبط ويمتلك  كذلك موقع (العدل) و(الجزاء) وأما نحن فليس لنا إلا السراب. وهنا خيم التشاؤم والحزن على فهل فعلا سوف يفلت المجرمون من (العدل) ومن (الجزاء) وهل سوف تطول محنة التيه والشقاء واللف والدوران لنا كأفراد وشعوب قبل أن نصل لتحقيق العدل والجزاء والعقاب على ظلمة الشعوب وطغاة الامم .

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق