الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

( دع الشك وأنعم بالحياة )



د/ أحمد بن حامد الغامدي

ربما يكون كتاب المؤلف الامريكي ديل كارنجي (دع القلق وابدأ الحياة) أكثر انتشار وشهرة في العالم العربي من شهرته في بلده الاصلي خصوصا بعد أن خفت وهجه بمرور اكثر من نصف قرن على نشره في الغرب. صحيح أننا نشهد زخم متزايد من القلق والتوتر في مجتمعنا المحلى بسبب ضغوط الحياة الحديثة والمشاكل السياسة والتراجع الاقتصادي ولهذا مثل ذلك الكتاب له فرصة تسويقية جيدة لكن أخوف ما أخافه على مجتمعنا ليس القلق وإنما الشك فهنالك موجه وليده آخذه في التشكل أبرز ملامحها تنامي الحيرة الفكرية والشك الديني. فمن ران على قلبه ريب القلق الفكري أصبح (في ليل من الشك مظلمِ) على حد وصف طيب الذكر المتنبي ولأن أبي الطيب قال قبل ذلك (إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه) فالشك الفاسد هو جدال ينبع من الروح السلبية أو كما قال المفكر الثوري البريطاني المعروف توماس باين (الشك هو الصديق الحميم للأرواح الضعيفة).

من هذا وذاك أحيانا تحزن على هؤلاء المعذبين في الارض السائرين حيارى والذين كشف عن حالهم حامل لواء الشك أبو بكر الرازي بأن (أرواحنا في وحشة من جسومنا) وهذا ما أحسست به من نبرة الصوت المتهيجة والمنفعلة للتسجيل الصوتي لدكتور الادب العربي في جامعة الامام والذي صعق المجتمع السعودي المحافظ بتصريحه بما ترسب في ثنايا فكره القلق من مكنون الشبهات الفكرية والشكوك الدينية.  يبدو لي أن ما وقع فيه أستاذ الادب العربي الحائر والقلق فكريا هو عين ما حذر منه شيخ الاسلام ابن تيميه تلميذه أبن القيم عندما ارشده لنصيحة ذهبية في التعامل مع الشبهات والشكوك التي قد تمر على الواحد منا اثناء قراءته المتنوعة ، قال ابن تيمة (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها ولكن أجعله كالزجاجة المصمته تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر بها).

وقبل أن نستعرض نماذج الشخصيات العربية القلقة فكريا وشيئا من مصيرها البائس نود أن نعرج على موضوع  الشك ودرجاته وما يستساغ الشك فيه وما يمتنع عنه الشك. في مجتمعنا الاسلامي لن تجد ولله الحمد أذن صاغية لنصيحة الفيلسوف الفرنسي المعروف ديكارت بأن تجرب الشك في كل شيء وأي شيء ولو لمرة واحده في الحياة وبأنه لا توجد حقائق لا تقبل الشك. (ولا شك) بأن هذا النوع من الشك مدمر وغاية في التطرف الفكري أما النوع الآخر من الشك الهادف للتدقيق والفحص والتحوط فربما هو ما عناه الامام الغزالي عندما قرر بأن (الشك هو أول مراتب اليقين) وهو ايضا ما قصده قبله ارسطو عندما اشار إلى أنه من خلال الشك سيعثر المرء على الحقيقة. أما في العلم الحديث فإن الشك أحد الركائز الاساسية له لأن لا (حقيقة علمية) تقبل قبل ان يشك فيها ويتم تمحيصها وتدقيقها ولهذا قال أحد ابرز علماء الفيزياء المعاصرين والحائز على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان عباره فحواها (كما إن الدين مبني على الايمان فإن العلم مبني على الشك).

ولنعد الان لسياق استعراض الشخصيات القلقة فكريا والتي خاضت حماقة وخزي التوغل في دهاليز الشك المظلم. فبعد عشرين سنة بالضبط من وفاة أشهر شخصية قلقلة فكريا في تاريخ المجتمع السعودي وهو المفكر المثير للجدل عبدالله القصيمي، إذا بنا نصفع ونصعق بتصريحات مفجعة وصادمة صادرة من قبل الدكتور خالد الجديع استاذ اللغة العربية في جامعة الامام. كما هو معروف المفكر عبدالله القصيمي اشتهر عنه (بالحق أو الباطل والعلم عند الله) بأنه تبنى منهج الالحاد بالرغم من اصوله السلفية ودراسته في الازهر بمصر وبسبب دوامة الشك التي وقع فيها عانى القصيمي من  ضنك الحيرة حيث يذكر أحد اصدقائه بأنه كان يأتي إليه ويصرح له بأنه تعتريه الشكوك إذا جن الليل فيسخن جسمه ويطير النوم من أجفانه وفي إحدى كتاباته يصرح بالصراع النفسي الذي يعانيه إذ يقول (إن كل دموع البشر تنصب في عيوني وأحزانهم تتجمع في قلبي).

منذ أن تعرض الصحابي السابق عبدالله بن جحش للشبهات العقائدية بعد أن هاجر للحبشة وارتد عن الاسلام ودخل في النصرانية نجد أنه عبر التاريخ الاسلامي تظهر بين الحين والآخر وفي أغلب المجتمعات العربية شخصيات قلقلة فكريا قد ينحرف بعضها عقديا ليقع في خطيئة الردة أو ينجرف لدرك الالحاد وهجر الاديان بالكلية بينما قد يتهور البعض بادعاء النبوة. والجدير بالذكر ان بعض مدعي النبوة ربما كانوا في بداية حالهم من الدعاة والخطباء أو طلبة العلم الشرعي أو من المتصوفة في حين أن بعضهم الآخر كان من  المهندسين أو الاطباء بل أن مدعى النبوة المصري رشاد خليفة كان يحمل الدكتوراه في الكيمياء من جامعة أريزونا الامريكية.

وإذا كانت بعض الشخصيات القلقة فكريا وصل بهم الامر لادعاء النبوة فنجد بعضهم في المقابل أنه كانت أعراض الشك والحيرة عند آخرين متمثلة في الاستنقاص من مقام النبوة وممن نسب له هذه المنقصة الشنيعة الفيلسوف والطبيب المسلم ابو بكر الرازي الذي يوجد (شك) بأنه ألف كتب تحمل عناوين صاعقة مثل (مخارق الانبياء) و (وحيل المتنبئين) يذكر فيها علي أنه لا وجود للمعجزات وأن جميع الانبياء دجالون و أن الفلاسفة مثل ابقراط واقليدس قد يفيدون البشرية أكثر مما قد يفيدها الرسول محمد أو المسيح. وعلى نفس النسق نجد أن أحد أشهر رموز الزندقة في التاريخ الاسلامي وهو ابن الراوندي لم يكتفي بإنكار النبوة في كتابه الزمردة بل اضاف لذلك استنقاصه للقرآن الكريم في كتابه الدامغ حيث زعم بأنه يمكن تأليف ما هو أحسن من القران.

ولا يتسع المجال هنا لاستعراض الافكار الصادمة والجريئة لشخصيات قلقلة فكريا ومتشككة عقائديا اشتهر توصيفها في التاريخ الاسلامي القديم (بالزنادقة) كان بعضهم من غلاة الصوفية الذين اتهموا بانحلال العقيدة بل والالحاد من أمثال الحلاج والسهروردي المقتول وابو يزيد البسطامي. وكما كان للصوفة شطحات عقائدية ملحدة فكذلك كان لنظرائهم من بعض اصحاب الافكار المجنحة والارواح المنطلقة من الادباء والشعراء فكما هو معروف اتهمت كوكبة من الادباء القدامى بالزندقة والالحاد (والشعوبية وإن كانت تلك قصة أخرى) فمن الادباء المشكوك في زندقتهم تذكر كتاب التاريخ اسماء مثل أبن المقفع وأبو حيان التوحيدي ومن الشعراء بشار بن برد وصالح بن عبدالقدوس والطغرائي وأبن نباته وعمر الخيام. أما فيما يتعلق بمن اتهم من العلماء والمكتشفين بالانحراف العقائدي المصادم للإسلام فبالإضافة لأبو بكر الرازي السابق الذكر نجد كذلك بعض المراجع التاريخية تصم عالم الكيمياء المعروف جابر بن حيان بالإلحاد بينما كان نصيب ابن سينا الاتهام بالطعن في مقام النبوة ومن العلماء الآخرين الذين طالتهم سهام النقد العقائدي الفارابي والكندي وإخوان الصفا.

وبعد هذا التطواف التاريخي مع أخبار أهل الحيرة الفكرية والشك العقائدي لا يستغرب أن نعلم أن هذه الظاهرة مستمرة في المجتمعات الاسلامية ففي الوقت الحالي تثار العديد من الشكوك والاتهامات لانحراف الفكري الجانح للعديد من الكتاب والادباء مثل  أدونيس ومحمد اركون وحسن حنفي وفرج فوده وحامد نصر أبو زيد والعفيف الاخضر والكويتي احمد البغدادي. بينما في السنوات الاخيرة تزايدت أعداد المفكرين والادباء الذين يعلنون صراحة ارتدادهم عن الاسلام واعتناقهم للإلحاد وأن كان غالبيتهم ممن يعيش في الدول الاوروبية من مثل الروائي الهندي الاصل سلمان رشدي والعالم العراقي جيم الخليلي والكاتبة البنغلادشية تسليمة نسرين والروائي المغربي حفيظ بو عزه والكاتبة الصومالية المثيرة للجدل آيان حرسي علي.

ومن هذه السلسلة النكدة والمتواصلة للشخصيات القلقة فكريا في وقعنا الاسلامي ليس غريبا أن نعرف بأن ظاهرة وجود الشك العقائدي أو حتى الالحاد سوف تستمر في واقعنا الاجتماعي بل من المتوقع أن تزيد حدة الشك والالحاد والمروق من الدين مع تقدم الزمن لتصل المرحلة التي يصفها الحديث النبوي الشريف (يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً ويمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافراً). وكما نجد في علم الفيزياء في القانون الثاني للثرموديناميك الذي ينص على أن العشوائية (الانتروبي) تزداد مع الزمن وبالتالي يقل الانتظام والترتيب  فكذلك واقع الاديان أنها في نهاية الامر تخفت وتضعف (ويرفع العلم) حتى نصل لمرحلة عبر عنها الحديث الشريف أنه من علامات نهاية الزمان (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض الله الله).

وفي الختام نعرج بشكل خاطف لموضوع الابداع الفني لتصوير الشخصيات القلقة فكريا ودينيا في الروايات الادبية وكيف كانت شخصية الحائر والمتشكك هي محور الحبكة الرئيسية للعديد من الاعمال الادبية الخالدة. وبحكم أن الاديب الالماني البارز غوتية يقول بأن أعمق موضوع في تاريخ الانسان هو صراع الشك والايمان لهذا لا غرابة أن نجد أن غوته نفسه ظل حوالي عشرين سنة يعدل ويطور في روايته الخالدة (فاوست) التي تدور عن شخصية قلقه فكريا باعت نفسها للشيطان في مقابل الحصول على المعرفة. الشيطان الوسواس يرتبط بشخصية روائية أخرى قلقلة ومتشككه في عقائدها الدينية تلك كانت شخصية الراهب المسيحي هيبا كما وردت في ثنايا الرواية فائقة الابداع (عزازيل) للأديب المصري يوسف زيدان. وعلى نفس النسق ابدع الروائي اللبناني البارز أمين معلوف في استعراض كيف تحول العالم والحاج المغربي الحسن الوزان إلى شخص مسيحي تنصر على يد البابا ليون العاشر وهي قصة حقيقة تم عرضها في رواية (ليون الافريقي). وكما هو متوقع فإن الالحاد والشك قد يدفع بعض الشخصيات الضعيفة نفسيا للانتحار وهو ما حصل مع شخصية مهدي جواد المناضل السياسي الشيوعي الملحد الذي ينتحر في رواية (وليمة لأعشاب البحر) للأديب السوري المثير للجدل حيدر حيدر وكذلك انتحرت بطلة رواية (إني راحلة) للأديب المصري يوسف إدريس التي تصف نفسها من أول عنوان في الرواية بأنها أمرأه ملحدة تقدم على الانتحار بسبب شكها في جدوى الحياة بعد موت عشيقها بين احضانها. 

بقي أن نقول أن أحد أهم وأكثر حالات الشك والحيرة التي قد تتعرض لها الشخصية العربية والمسلمة هو وقعها في فخ (الصدمة الحضارية) بعد سفر أو هجرة البعض إلى المجتمعات الغربية وحصول حالة من الانشطار الثقافي أو الصراع الفكري في الشخصية القلقة معرفيا. وقد كان ذلك المادة الادبية الخام للعديد من أشهر الروايات العربية الكبرى مثل (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم و (قنديل أم هاشم) ليحي حقي و (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح و(الحي اللاتيني) لسهيل إدريس.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق