شجر النخيل في حدبقة لكسمبورج في وسط باريس
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قديما قيل للسفر خمس فوائد سطرها
الامام الشافعي في أبياته المشهورة لكنني اهتممت طول حياتي بفائدتين فقط (اكتساب
علم وصحبة ماجد) والعلم الذي سعدت باكتسابه هو المعرفة العامة والاطلاع على روافد
ثقافية جديدة. في الواقع من الامور المعروفة التي قد تحصل لمن يكثر السفر أنه غالبا ما يحصل له شيء من تغيير الافكار
والتصورات المسبقة بل أحيانا قد يتعرض الشخص الرحّال إلى صدمة فكرية حادة تسبب
اضطراب منفلت لبعض المفاهيم والمسلمات وحتى العقائد والموروثات التي نشأ عليها.
لكن ما أود أن استعرضه بشكل سريع هو
أثر السفر في تصحيح بعض التصورات والافكار المغلوطة عن المجتمعات الاخرى أو عن
الظواهر الطبيعية والاخبار التاريخية بل
وحتى الاكتشافات العلمية . من الاقوال المشهورة للأديب البريطاني المعاصر ألدوس
هكسلي الذي رشح مرارا لجائزة نوبل في الادب (السياحة هي اكتشاف أن الجميع
مخطئون في رأيهم عن الدول الاخرى) ومصداق
ذلك ما تم تداوله بشكل موسع جدا قبل اسابيع عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن قصة
الطبيب والمبشر المسيحي الامريكي الذي ارسلته زوجته إلى المملكة لكي يغير نظرته عن
الاسلام والمسلمين ومن ثم أعتنق الدين الحنيف.
قبل ايام تداعت إلى ذهني مقولة أن
(رحلة إلى الخارج تساوي ألف كتاب) وذلك أنني سحرت ثقافيا ومعرفيا بزيارتي الأخيرة
الصيف الماضي لمدينة النور باريس وهو ما
نتج عنه أن أحرص على أن أقرأ عن كتاب (تخليص الابريز عن تلخيص باريز) للكاتب
والرحالة المصري الشهير رفاعة الطهطاوي والذي وثق في هذا الكتاب توصيفه لمشاهداته
وانطباعاته وانتقاده للحضارة والثقافة الفرنسية في مدينة باريس في منتصف القرن
التاسع عشر.
القاسم المشترك بيني وبين رفاعة
الطهطاوي ليس زيارته الشهيرة وزيارتي
المغمورة لمدينة باريس ولكن استفادته هو وأنا من تجارب السفر لتصحيح بعض الافكار
والتصورات المسبقة والخاطئة. الغريب في الأمر أن كلا من المفكر الطهطاوي وشخصي
المتواضع لفت انتباهنا وأثار استغرابنا وجود أشجار النخيل في ساحات وميادين باريس
وإن كان كل واحد منا أستغرب الحدث من زاوية مختلفة متأثرا بتصوراته القديمة. أما
أنا فشخصية ذو خلفية علمية وبحكم أنني لم يسبق لي على الاطلاق أن اشاهد شجر النخيل
في أي دول شمال أوروبا إلا اشجار النخيل
التي شاهدتها في البيت الزجاجي الضخم والبالغ الجمال والاناقة المسمى (بيت
النخيل) في حدائق النباتات الملكية في منطقة كيو Kew
في ضواحي مدينة لندن ولهذا خدعتني طريقة التفكير العلمية للاستنتاج أن شجر النخيل لا يمكن أن يعيش في المناطق الباردة إلا تحت أجواء اصطناعية دافئة كما فعل الانجليز. ومن جانب آخر شعرت أنا وزملائي الكرام بالفخر الكبير لاعتناء الخاص من قبل الفرنسيين بأشجار النخيل في حدائق لكسمبورج الرائعة الجمال في الحي اللاتيني في وسط باريس حيث أبرزت بغرسها في حاوية خاصة ومنفردة ووضعت في أمكان استراتيجية حول البركة المائية الرئيسة وأما مدخل القصر التاريخي الفاخر. فكأن موقفي من استغراب مشاهدة شجرة النخيل في غير مرابعها وموطنها الاصلي وكأني بها شجرة تعيش حالة الغربة في بلاد المهجر وكأنها تلك النخلة المنفردة التي شاهدها عبدالرحمن الداخل صقر قريش في أرض الاندلس فهاجت شنه وتذكر وطنه بالشام فقال:
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
في ضواحي مدينة لندن ولهذا خدعتني طريقة التفكير العلمية للاستنتاج أن شجر النخيل لا يمكن أن يعيش في المناطق الباردة إلا تحت أجواء اصطناعية دافئة كما فعل الانجليز. ومن جانب آخر شعرت أنا وزملائي الكرام بالفخر الكبير لاعتناء الخاص من قبل الفرنسيين بأشجار النخيل في حدائق لكسمبورج الرائعة الجمال في الحي اللاتيني في وسط باريس حيث أبرزت بغرسها في حاوية خاصة ومنفردة ووضعت في أمكان استراتيجية حول البركة المائية الرئيسة وأما مدخل القصر التاريخي الفاخر. فكأن موقفي من استغراب مشاهدة شجرة النخيل في غير مرابعها وموطنها الاصلي وكأني بها شجرة تعيش حالة الغربة في بلاد المهجر وكأنها تلك النخلة المنفردة التي شاهدها عبدالرحمن الداخل صقر قريش في أرض الاندلس فهاجت شنه وتذكر وطنه بالشام فقال:
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
أما ما كان من استغراب رفاعة الطهطاوي لوجود
النخيل في مدينة باريس فإنه كان قد قرأ في شبابه في كتاب الجغرافي والمؤرخ القزويني كتاب (عجائب
المخلوقات وغرائب الموجودات) أن النخلة شجرة مباركة وعجيبة ومن عجائبها أنها لا
تنبت إلا في بلاد الاسلام ولهذا اهتزت ثقة الطهطاوي في بعض المعارف العلمية التي
عرفها سابقا. والدرس الهام الذي عززت هاتين القصتين تثبيته في شعوري أنه إذا
استثنينا (العقائد والمسلمات الشرعية والاصول الفكرية) فإن بعض ما يرسخ في أذهاننا
وعقولنا من بعض الافكار والتصورات (وفي حالتي الخاصة حتى ولو كانت انطباعات علمية)
قد تكون قابلة للنقاش وفي حالات خاصة (وهنا بيت القصيد) قد لا ينفع لتعديلها
وتصحيحها إلا أن نسافر ونشاهد ما لدى الشعوب والحضارات والمجتمعات الأخرى.
لا أبالغ عندما أقول أنه أحيانا قد
يكون قرار السفر والسياحة من أهم القرارات
التي تشكل مصير حياتنا ومن ذلك مثلا أن القديس أوغسطين والذي يعتبر من أهم
الشخصيات في الديانة المسيحية لدرجة أنه بعد ولادته في القرن الخامس عشر لم تظهر
أي شخصية دينية أكثر تأثيرا منه في المسيحية الكاثوليكية ومع ذلك يجدر الذكر أنه
عاش في أوائل شبابه حياة المجون الصارخ في مدينة قرطاج ولم تتغير حياة إلا بعد ان
سافر لمدينة ميلانو الايطالية. والمفكر الاسلامي الكبير الشهيد سيد قطب تخطى مرحلة
طويلة من عمره وهو يعرف فقط بالأديب والاستاذ سيد قطب ولم يتحول للفكر الاسلامي
والاتجاه الاسلامي إلا بعد رحلته الشهيرة إلى أمريكا بعد أن شعر بالحرقة على تطبيق
الغرب لبعض مفاهيم الاسلام وانحراف المسلمين عن تطبيق الدين الحنيف مما جعله يقول
في كتابه المعروف أمريكا التي رأيت (وجدت في امريكا اسلام بلا مسلمين ).
بل أن السفر والانتقال قد يكون له
الاثار السياسية المحورية في تشكيل التاريخ فالعلم عند الله لو لم ينتقل الامام
على بن ابي طالب رضي الله عنه بدار الخلافة من المدينة إلى الكوفة فهل كان من
الممكن أن التاريخ الاسلامي قد اختلف الان عما هو عليه. وهذا الاسكندر المقدوني
أحد اشهر الفاتحين والغزاة في التاريخ كان في بداية سلسلة حروبه العسكرية شديد
الاعتزاز بأصوله وحضارته الاغريقية وكان يغار من المدن الكبرى ويأمر بحرقها
وتدميرها مثل مدينة صور الفينيقية ومدينة برسبوليس العاصمة الدينية المجوسية ولكن
ما أن دخل الاسكندر مدينة سوسه أكبر المدن
الفارسية وعاش فيها لمدة ثلاث سنوات إلا وحصل له تأثر كثيرا بالحضارة الشرقية
الفارسية لدرجة أن تزوج من أحدى اميراتها وأمر قواده أن يرتدوا الملابس الفارسية
وأن يتزوجوا من الفارسيات كمحاولة لمزج قمة حضارة الشرق بقمة حضارة الغرب.
اللطيف في الأمر أنه حتى الشعر
والادب يتأثر بالسفر والترحال وكما أعجب القائد العسكري الاسكندر المقدوني بأهل
فارس حصل ذلك مع شاعر العربية الاشهر أبو الطيب المتنبي والذي عرف عنه أنه بسبب
عروبته المفرطه فإنه لم يمدح أي شخص إلا أن يكون عربيا والاستثناء الوحيد حصل
عندما (سافر) المتنبي إلى مدينة شيراز الفارسية وهنالك أعجب كثيرا بشخصية السلطان
البويهي عضد الدولة التركي الاصل لدرجة أنه مدح بقصيدة عصماء. وممن تأثرت أفكاره
واشعاره بسبب السفر والترحال وإن كان مجبورا عليها هو ما حصل مع المنافس الوحيد
للمتنبي في زمانه على عرش الشعر والادب إلا وهو الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني
فكما هو معرف عندما أسر اثناء الحروب الصليبية وتم سجنه وارساله (أجبر على السفر)
إلى مدينة القسطنطينية المسيحية حيث عاش
بها مدة اربع سنوات وانشد اشعاره الرائعة التي عرفت باسم (الروميات) وربما هي ما
ساهمت في ترسيخ مكانته الادبية. ونفس الامر يمكن ان يقال عن قصائد الشاعر الكبير
محمود سامي البارودي فأجمل قصائده وأكثرها عاطفة وجمالا تلك التي أنشدها في منفاه
السياسي في جزيرة سيرلنكا والتي عاش بها فترة طويلة من الزمن حيث لم يسمح له
بالعودة للقاهرة إلا بعد حوالي سبعة عشر سنة.
وفي مجال العلم والتقنية والابحاث
كان للسفر والانتقال والهجرة دور حاسم في تغيير مسيرة العلم والاكتشافات التقنية
كما حصل مع هجرة العلماء الذين اضطهدتهم النازية إلى امريكا ولولا تطواف وسفر عالم الاحياء البريطاني
تشارلز دارون خلال رحلته البحرية على ظهر سفينة البيجل لمدة خمس سنوات لما توصل
لنظرية التطور التي غيرت مسار العلم والدين معا في اوروبا. أما في مجال الطب فأثر
السفر والترحال أمر لا يمكن أن ينكره أحد فعدد كبير من مشاهير علماء الطب ممن
حصلوا على جوائز نوبل في الطب حققوا تلك
المكانة العلمية الرفيعة بعد أن سافروا ومن ثم
تمكنوا من اكتشاف اسباب بعض اخطر الامراض القاتلة. ولهذا لا غرابة أن نعلم
أنه بعد السفر والترحال نجد أن العلماء الانجليز اكتشفوا في مدينة كلكتا الهندية
سبب مرض الملاريا بينما اكتشف طبيب فرنسي في مدينة داكار السنغالية سبب مرض الحمى
الصفراء وفي جزيرة جاوه الإندونيسية اكتشف فريق طبي هولندي سبب مرض البري بري
بينما اكتشف طبيب ايطالي في مدينة عنتابي الاوغندية سبب مرض النوم.
وختاما لا يمكن أن أنكر أنني نتيجة
للسفر والترحال الذي قادني في مناسبات وظروف متعددة لأكثر من ثلاثين دولة تغيرت
بعض تصوراتي وافكاري (العادية فقط ولله الحمد) فمثلا على ارض الواقع علمت مثلا أن
سور الصين العظيم ضئيل الحجم ومستحيل أن يشاهد من الفضاء كما هو شائع كما تأكدت لي
المعلومة التي قارئتها سابقا بأن قصة قيام العالم الايطالي جاليليو بتجربة اللقاء
صخور مختلفة الاحجام من أعلى برج بيزا المائل في ايطاليا هي قصة مختلقة لأنني
عندما صعدت لأعلى البرج المائل أحسست بخطورة وصعوبة اجراء تلك الحماقة العلمية.
كما عرفتني الاسفار أن العديد من الصور النمطية (السياحية) غير صحيحة فبالرغم من
أن الهند تعرف عند البعض (باسم بلاد تركب الافيال) فللأسف لم اشاهد فيلا واحدا في
نيودلهي أو مدينة أكرا حيث موقع المعلم السياحي الاسطوري تاج محل. ومن أرض الواقع
علمت أن الشعب الانجليزي ليس عاشق لشرب الشاهي كما يشاع ويفضل بدلا عنها قهوة
النسكافية السوداء وكما علمت بحسرة أن المدن الاسبانية الاندلسية مثل قرطبة
وغرناطة بالرغم من طغيان معالم الحضارة الاسلامية عليها إلا أنها تكاد تخلو من
وجود أي جالية مسلمة ملموسة فيها.
وأخيرا على طاري ذكر موضوع أن
افكارنا عن الشعوب تتغير نتيجة لزيارتنا لتلك الشعوب فقد حصل في عام 2009 أنني قمت
بزيارة مدينة بلغراد عاصمة دولة صربيا وكنت سابقا أحمل انطباع بالغ السوء عن الشعب
الصربي بسبب المجازر الوحشية للجيش والحكومة الصربية ضد مسلمي البوسنة ولكن تبين
لي أنه ربما فعلا قد تختلف طبائع الشعوب المدنية عن سلوك حكوماته فتعامل الافراد
الصربيين كان ودودا وحضاريا. بينما في المقابل في نفس تلك السنة أي عام 2009 عندما
زرت تونس كنت أتوقع حسب الصورة النمطية السابقة أن الحكومة التونسية العلمانية
شديدة الاضطهاد والعداء للدين الاسلامي وأنه لا توجد امرأة محجبة في تونس وأن
افراد الشعب المتدين يضيق عليهم عند ادائهم لصلاة الفجر أو أنه يمنع عليهم أن
يصلوا في غير مساجد احيائهم المسجلين فيها وهو ما لم يكن صحيحا على الاطلاق (قد
يكون ذلك قديما في زمن الهالك ابو رقيبة) والمحزن حقا أن الشيخ الفاضل سلمان
العودة عندما زار تونس ولمح إلى عدم اضطهاد المتدينين في تونس شنع عليه البعض.
على كل حال الحديث ذو شجون عن السفر
وأهله وفوائده وعذابه ولكن لعل لذلك مناسبة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق