ما هو أثر السفراء الاجانب في تشكيل الواقع السياسي
د/ احمد بن حامد الغامدي
بيت جميل (ومعقد)
لأمير الشعراء أحمد شوقي جال بخاطري بعد أن قرأت قبل عدة ايام خبر إقالة الاعلامي
المصري المشاغب (توفيق عكاشة) من عضوية البرلمان المصري بسبب استضافته للسفير
الاسرائيلي في منزله و بيت الشعر هو:
ففراقٌ يكون فيه دواءُ أو فراقٌ يكون منه الداءُ
وبحكم أن كل شيء في أرض الكنانه مصر
المحروسة مقلوب ومعكوس هذه الايام فلا مشاحة ولا غضاضة من قلب البيت الرائع ليصبح:
( فلقاءُ ) يكون منه دواء أو ( لقاءٌ ) يكون منه الداء
فمن المعروف أنه منذ عقود طويلة
والنظام المصري الحاكم مرتمي في أحضان السياسة والدبلوماسيين الصهاينة فلماذا يكون
( لقاء) الحكومة المصرية مع العدو الغاشم
كان هو الترياق والدواء بينما لو تم هذا اللقاء والاجتماع الاسرائيلي مع أحد رجالات السياسية يضج الجميع
في مصر من هذا (الداء والسم الزعاف).
تناقض النظام المصري فيما يحلله
لنفسه ويحرمه على رجال السياسة والاعلام تكرر كثيرا وبصور صارخة في التناقض فمثلا
الكل يعلم من وثائق كتاب (لعبة الامم) لضابط المخابرات مايلز كوبلند كيف أن
الاستخبارات الامريكية هي من ساعد في صناعة وهج شخصية الرئيس المصري جمال
عبدالناصر الذي استولى على الحكم في انقلاب عسكري
سمي ثورة يوليو وما ثورة يونيو عنكم ببعيد. وفي عملية (كلاكيت ثانية مرة)
وكما سمح للإعلامي توفيق عكاشة بالاتصال بالسفير الاسرائيلي ثم جرم بهذه الخطيئة
فقبل نصف قرن استخدم الرئيس المصري جمال عبدالناصر الصحفي مصطفى أمين وتوأمه علي
أمين (مؤسسي صحيفة أخبار اليوم) لتمرير رسائل للمندوب الامريكي لكن سرعان ما
انقلبت الامور وأتهم الاخوين مصطفى وعلى أمين بالتجسس لصالح الاستخبارات الامريكية
في مصر ليحق لنا أن نقول بكل تجرد (على هامان يا فرعون).
حالة التناقض السياسية في مصر حول
النظر لموقف أو (لقاء) واحد بأنه دواء أو داء وصل إلى الاحزاب وشخصيات المعارضة
السياسية فمثلا في بداية حكم الرئيس المصري المختطف محمد مرسي اجتمع بعض رموز
المعارضة مع السفيرة الامريكية آن باترسون حيث طلبت منهم لضمان دعم الادارة
الامريكية لهم أن ينضموا مظاهرات معارضة للرئيس مرسي يشارك فيها ما لا يقل عن
خمسين ألف وهو ما حصل وقد كان في هذا (الموعد مع السفيرة) داء وخراب مصر. وحتى
تكتمل المؤامرة قامت نفس هذه السفيرة بزيارة في وضح النهار (وليس في الخفاء كما
فعلت مع المعارضة) بزيارة لمكتب خيرت الشاطر النائب الأول لمرشد جماعة الاخوان
وهنا استغلت المعارضة والاعلام المضاد الفرصة وشنت حملة شعواء لاتهام الاخوان
بالعمالة للأمريكان وفعلا (إذا لم تستح فقل ما شئت).
هذا واقعنا المعاصر أما في القديم
فقد كان تبادل التمثيل الدبلوماسي والسفراء من القواعد السياسية الراسخة بين الدول
كتعبير لمتانة العلاقة بين الدول والشعوب ومع ذلك نجد في التاريخ الاسلامي والعربي
القديم والحديث أمثلة كثيرة تؤكد أن العلاقات الدبلوماسية متعددة الاوجه فقد تكون
السفارة نقطة تواصل بين بلدين وقد تكون وكر للجواسيس. وعلى نفس النسق قد يكون
(موعد ولقاء مع السفير) سبب في تعزيز مكانة الدولة المضيفة وقد يكون (موعد مع
الشيطان) الذي يوردك المهالك. وعندما أراد النظام المصري الحالي أن يتخلص من عديم
التوفيق أبو العكش المشاكس سمح له بمقابلة السفير الاسرائيلي ثم افتعل مسرحية طرده
من البرلمان. وبحكم أن التاريخ يعيد نفسه فتقريبا سيناريو (الاستدراج والخديعة)
بمقابلة السفراء الاجانب حصل قبل حوالي خمس وعشرين سنة عندما تقابل الرئيس العراقي
صدام حسين مع السفيرة الامريكية الشهيرة غلاسبي فتم في اللقاء الموافقة على اجتياح
العراق للكويت وبعد حصول الخديعة الكبرى ووقوع صدام في الكفر السياسي قام الشيطان
الدبلوماسي بالتبرؤ منه والانقلاب عليه وتجييش العالم ضده.
وباستعراض مختصر نجد أنه لا يكاد
يخلو بلد عربي أو سلامي كبير من ويلات سياسية خانقة نتجت من (تحت رأس) سفير مرّسم
أو مبعوث دبلوماسي مفوض. ومن ذلك مثلا أن الجزائر عانت قهر استعمار فرنسي غاشم
استمر لمائة وثلاثون سنة وقدمت خلالها حوالي مليون شهيد كل ذلك نتج بسبب الحادثة السياسية والتاريخية المهزلة
التي اشتهرت باسم (حادثة المروحة) حيث أن القنصل الفرنسي تعرض بزعمهم لإهانة لا
تغتفر عندما لوح الباشا التركي الداي حسين أمام وجهه النبيل بمروحته دلالة
على امتعاضه عن عدم تسديد فرنسا الديون التي عليها.
وكل
من له إطلاع وإلمام خاطف بأسباب وعوامل تدهور الخلافة العثمانية يعرف أنها بدأت في
منتصف القرن التاسع عشر وذلك لنتيجة ما يتم تسميته بعهد (التنظيمات) والذي في بعض
جوانبه منح امتيازات خاصة للرعايا الاجانب والاوروبيين المقيمين في الدولة التركية
ومن هنا بدأت البعثات الدبلوماسية الغربية في استغلال هذا المنفذ لتشجيع الطوائف
الدينية المختلفة للانشقاق عن دولة الباب العالي التركية كما كان (لقناصل) الدول
الغربية ثقل سياسي غير منطقي في الدولة العثمانية ومن جانب آخر لا يمكن إغفال
رمزية أن قرار عزل السلطان عبدالحميد الثاني تم إبلاغه له بواسطة وفد من شخصيات
ذات أصول أرمنية وجورجية ويهودية.
مثال
أخر لسيطرة السفراء الاجانب على القرارات السياسية المحلية سوف يكون مثال قريب في
الجغرافيا وإن كان بعيد التاريخ. كما هو معلوم لطالما كانت مدينة جدة مدينة
القناصل والسفراء الاجانب وهذا كان حالها في عالم 1858 وقت حكم الاشراف على منطقة
الحجاز وفي هذه السنة حصلت حادثة فتنة جدة (وهذا عنوان رواية أدبية في قمة في الروعة تصف أحداث هذه الواقعة) والتي تتلخص في رعونة
القنصل الانجليزي بقيامه بإنزال علم الدولة العثمانية عن سارية إحدى سفن أهل جدة
حيث أهان العلم العثماني ووطأه بقدمه وهنا ثار الناس من أهل جدة واقتحموا القنصلية
الانجليزية وقتلوا القنصل وعددا من الدبلوماسيين فما كان من الاسطول الانجليزي إلا
أن قصف مدينة جدة بالمدافع في ذروة أيام الحج. وقبل ذلك التاريخ ولعقود طويلة كان
القنصل الانجليزي في بوشهر يحكم وكأنه السلطان المتوج على الخليج العربي وكما قصف
الانجليز مدينة جدة قصفوا واحتلوا كذلك إمارة رأس الخيمة ومدينة مسقط فضلا عن
مدينة عدن وكتاب (ساحل القراصنة) للسياسي البريطاني تشارلز بلجريف يعكس نظرتهم
الدونية ضدنا ولهواة الادب والقصة ننصحهم
بقراءة رواية (القرصان) التي تدور عن نفس تلك الاحداث وهي من تأليف الروائي
القطر عبدالعزيز آل محمود.
في
الواقع الحديث ذو شجون وربما يتشعب بنا كثيرا ولكن أختم بإشارات سريعة في ثلاث
محاور إضافية عن أثر السفراء الاجانب في تاريخنا. أولها أنه كما في أرض المعرك
كذلك في دهاليز السياسة فإن القاعدة القرآنية سارية (فإنهم يألمون كما تألمون) فكما
اكتوينا بنار سياسة السفراء الغربيين فقد أصابتهم هم شررها ايضا فبالإضافة لمصرع
السفير الانجليزي قديما في جدة تم قبل عقود اغتيال السفير الامريكي في باكستان وقت
اسقاط طائرة الرئيس ضياء الحق وكذلك اثناء الحرب الاهلية اللبنانية تم تصفية
السفير الامريكي في بيروت كما تم قريبا اغتيال السفير الامريكي في ليبيا وتصفية
دبلوماسي امريكي في الاردن وقبل ذلك اغتيل مبعوث الامم المتحدة إلى العراق.
ثانيا
فيما سبق تم الاشارة لبعض جوانب (التدخل الخشن) من قبل السفراء الاجانب وجرهم
الويلات للعالم العربي والاسلامي ولكن في المقابل توجد صور مختلفة (للتدخل الناعم)
للسفراء والمبعوثين الاوروبيين وتأثيرهم الكبير في تشكيل مجريات السياسية بالعالم
العربي واعادة تشكيل منطقة الشرق الاوسط من خلال تفتيت الامبراطورية العثمانية
أولا ثم إقامة العديد من الكيانات لدول ومشيخات وممالك جديدة. وفي علم السياسية
الحديث يتم وصف عدد من الشخصيات السياسية والسفراء (الانجليز في الغالب) بأنهم
صناع الملوك حيث لهم تأثير هام في تشكيل ماضي ومستقبل واقعنا السياسي من مثل لورنس
العرب وجلوب باشا في الاردن واللورد كرومر والجاسوس مايلز كوبلند في مصر والليدي
جيرترود بيل والمندوب السامي بيرس كوكس في العراق وعبدالله جون فيلبي في جزيرة
العرب.
وأخيرا
لا يسعنا أن نختم هذا المقال دون أن نعرج للأدب والرواية وعلاقتهما بعالم
الدبلوماسية والسفراء. حيث أن شخصية الدبلوماسي ولقب (معالي السفير) تعتبر مادة
ثرية لحبك أعمال روائية ابداعية ولهذا تم تأليف عدد كبير من الروايات العالمية
تحمل عناوينها لفظة (السفير) وأشهرها رواية كلاسيكية باسم (السفير) للأديب
الانجليزي البارز هنري جيمس. والجدير بالذكر أنه في واقعنا العربي نجد أن بعض أشهر
الادباء والشعراء كانوا سفراء أو دبلوماسيين مثل الشعراء نزار قباني وعمر ابو ريشة
وملك القصة القصيرة يحي حقي وطبعا عميد السلك الدبلوماسي والصالون الادبي الدكتور
غازي القصيبي سفيرنا في لندن والبحرين. الغريب في الامر أن السفير غازي القصيبي
كتاب رواية أدبية عنوانها (سعادة السفير) ترسخ الصورة النمطية عن الدور السلبي
البغيض للسفراء في التخطيط للمؤامرات حيث يقوم السفير الوهمي للكويت بالمشاركة في
محاولة انقلاب في دولة متخيله تسمى النهروان. المحرج حقا أن آخر رواية أدبية نشرت
عن السفراء رواية تحمل اسم (زوجة السفير) وتدور أحداثها في إحدى البلدان العربية
تتعرض فيها زوجة السفير البريطاني للاختطاف والمصيبة أن كاتبة تلك الرواية هي
الصحفية جينفر ستيل زوجة السفير الامريكي في اليمن الذي تعرض بالفعل لمحاولة
اغتيال عن طريق تفجير سيارة مفخخة وبهذا امتزجت الحقيقة بالخيال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق